العبارة القاسية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

 

العبارة القاسية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

العبارة القاسية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

 

نحن فى حاجه دائماً إلى استخدام كلمات الحب والاعتزاز كل يوم بل وكل ساعة فى علاقات الأبناء بالآباء والأمهات أكثر من أي شئ آخر.

عبد الوهاب مطاوع

أردت أن أكتب لك منذ سنوات لكني كلما قرأت في برید الجمعة آلام الآخرين وجدت غيري أحق منی باهتمامك.. ومشكلتي يا سيدي هو ابني الذي يبلغ من العمر ۲۱ سنة ويدرس بإحدى الكليات ذات المصروفات الباهظة.. فبعد سنوات من فشله الدراسي ومعاناتنا معه كنت منذ فترة قصيرة أحدثه أنا وأبوه عن ضرورة تنظيم الوقت.. وتقسيم المنهج الدراسي فإذا به يرميني في وجهي بعبارة قاسية

أدمت قلبي هي : أنت لست أما ! وذهلت .. وطفر الدمع إلى عيني .

أنا لست أما؟ لماذا يا حبيبي هل علمت عني ما يشينني ؟ .. هل تركتك وحدك وسافرت للعمل في دولة بعيدة ؟.. هل خرجت من البيت ذات يوم وتركتك مريضا بلا رعاية ؟.. هل بك عيب جسمي أو عقلي بسبب تقصيري أو إهمالي في رعايتك وأنت طفل ؟ ومن في عائلتك أكثر أمومة مني ! .. إنني أرى الأمهات من حولي يعاملهن أبناؤهن بتقديس واحترام، حتى ابن جارتی طالب الطب المتفوق ينشر لأمه الغسيل ويساعدها في صنع المحشي وهو سعيد بما يفعل، في حين يجف حلقي معك لکی تلبي لي طلبا واحدا.

صعبت علي نفسی یا سیدی واغرورقت عينای بالدموع، فأشار له والده بأنه أخطأ في حقي، ثم قال لي : لا تتحدثي معه ودعيه لي، فتركته له، ولكني كنت أنتظر من زوجی تصرفا أكثر إنصافا لي، لكن هذه هي عادته معی، فأنا وزوجي من كبار موظفي الدولة أي من الكادحين، إذ لنا ابنتان أخريان لا تزالان تدرسان بمدارس اللغات، وقد تكلفنا الآلاف حتى حصل ابني هذا بعد سنتين على الثانوية العامة، وها هو يعيد الآن سنته الدراسية الأولى في التعليم الجامعي، ولا يقدر معاناتنا رغم أنه يعرف جيدا كم نعاني حتى نحصل على القرش ودخلنا معروف ومكشوف له بالمليم الواحد، ونحن نلهث لتلبية احتياجاته المستمرة وكلها بمئات الجنيهات.. ومع ذلك فهو لا يسعد قلوبنا بأي تقدم دراسي، بالإضافة إلى تهربه من مشاركتنا أي احتفال عائلي.

ولقد بدأت مشكلته هذه بعد حصوله على الإعدادية بتفوق.. وقدرنا وقتها أنها متاعب المراهقة وسوف تنتهي ببلوغه سن الحادية والعشرين، وقد رجع والده بعد4 سنوات من العمل في إحدى الدول العربية كنت خلالها لأبنائی نعم الأم بشهادة كل من يعرفني.. وكان ابني هذا عند عودة أبيه في الشهادة الابتدائية وأطفالي متفوقون ولا أعرف ماذا جرى بعدها ولا ماذا كان يثير زوجي ضدی، فقد بدأت سلسلة مستمرة من الإساءة لي و أصبح يحلو له أن يلعن على مسمع من الجيران بأعلى صوته الحظ الذي ربطه بی مع إني اختياره الشخصي.. فلم يزدني ذلك إلا احتراما في نظر جيراني الذين يتعاملون معي.. کما كان زوجي كثيرا ما يقلب الموقف فوق رأسي إذا وجهت ابني هذا وهو في سن التكوين والتربية بالنسبة لطريقة تناوله للطعام أو ملابسه أو طريقة مذاكرته، ويحدث هذا بالطبع أمام الولد.. وعشت وصبرت وتنازلت باختیاری عن کل حقوقی، فدخلي كله أنفقه في البيت وأحاول جادة أن أحافظ على مظهری بما يتناسب مع مرکزي والوسط الذي أنتمي إليه، وليس لي مصروف شخصي ولا أتعامل مع الكوافير و أستخدم الأتوبيس في تنقلاتی، بیما لكل زميلة لي في العمل سيارة خاصة .. ومع ذلك فلا زوجي راض ومعجب بي ولا ابني يرى في أما رءوما له.

 

فماذا أفعل بحياتي ؟ إن احترام أهلي وزملائي لي يشبعني ويصبرني على ما أعانيه، لكن الإنسان تضيق نفسه أحيانا ويشعر بالهوان والألم حين ينكأ أحد جراحه.. فماذا أفعل یا سیدي، و كيف أتعامل مع تمرد ابنی ؟

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

من حقك يا سيدتي أن تغرورق عيناك بالدمع الأسيف وأن تشعری بغصة مؤلمة في حلقك وفي قلبك حين يرميك هذا الابن الشارد بهذه العبارة القاسية الظالمة، أو حين تستشعرين عدم التقدير لتضحياتك وعطائك له وللأسرة من جانبه أو من جانب زوجك على السواء.. لكن هوني على نفسك يا سيدتي فقد يجرح الابن المتمرد أحيانا في عنفوان جهالته أمه الرءوم غير مدرك لعمق الجرح الذي حفره في قلبها بكلماته الطائشة، وغير معبر بذلك عن حقيقة رأيه أو مشاعره تجاهها.

لكن ذلك لا يقلل من جريمته وحسابه عما رماك به مع ربه قبل أن يكون معك.. ولن يكتب له الله سبحانه وتعالى التوفيق أو السعادة في حياته إذا لم يعتذر لك عن هذه العبارة القاسية وينال صفحك عنها وعنه، ويلتزم معك في قادم الأيام بأدب الأبناء مع أمهاتهم وآبائهم وحسن مصاحبته لهما.

أما زوجك فلقد شارك للأسف من حيث لا يدري في تجرؤ ابنك عليك بهذه العبارة القاسية.. وذلك بتشاحنه المستمر معك أمامه وهو طفل على أساليب توجيهك له.. وبإساءته العلنية لك ولعنه لسوء حظه الذي ربطه بك أمام الصغار. ومن واجبه أن يكف عن كل تصرف يمس رمز الأم في نظر أبنائها.

على أن الأمر في النهاية لا يجوز الحكم عليه حكما نهائيا بظاهر الكلمات وحدها، فما أكثر ما تطيش الكلمات فتجرح لكنها لا تعبر في الواقع عن تقييم قائلها لشريك عمره، وآفة البعض منا هي أنهم يسارعون بطريقة شبه آلية إلى انتقاص أقدار شرکاء حياتهم فتتقافز الكلمات على ألسنتهم في ذلك بسرعة الصاروخ، فإذا دعوا لشهادة الحق فيهم تثاقلت كلمات الإنصاف والإعجاب والتقدير على نفس الألسنة كأنها ينتزعونها من أفواههم انتزاعا.. مع أنها رغم شحها وتقتيرها إنما تعبر عن موقفهم الحقيقي من هؤلاء الشركاء، لكنهم لا يفرجون عنها غالبا إلا إذا واجهوا خطر فقدهم !

فلا تبتئسی کثیرا یا سیدتی فزوجك أول من يعرف لك قدرك، لكنه ليس فيما يبدو من يستطيعون الاعتراف بذلك علنا أو ممن يبخلون به على شركاء الحياة ، مع أن كتمان الشهادة ليس من الإيمان.

وابنك الشارد.. يتخبط بين فشله الدراسي وإحساسه بالذنب عنه .. وبين رغبته في الإحساس بالجدارة والاستقلال وبأنه قد تجاوز سن التوجيه المتصل والتدخل الدائم في شئونه الخاصة كما يتصور. وأزمة أمثاله أنهم يسيئون تفسير حرص الأبوين على نجاحهم وشق طريقهم في الحياة، وتعبيرهم عن هذا الحرص بالتوجيهات والنصائح والقلق عليهم، ويعتبرون كل ذلك شيئا يتعارض مع رجولتهم ونموهم و استقلال شخصياتهم.. كأنما يريدون أن يقولوا لآبائهم وأمهاتهم  بذلك إننا لم نعد أطفالا لكيلا تتحدثوا معنا إلا بالنواهي والنصائح والتحذيرات، وهي أزمة معروفة من أزمات سن المراهقة الذي يوشك ابنك أن يودعها، و من آثارها ذلك النفور من التكليفات المنزلية بالنسبة للشباب من الأبناء على وجه الخصوص.. والنفور أيضا من المشاركة في المناسبات العائلية باعتبارها لا تناسب في نظرهم إلا الصغار الذين يسعدون بأمثالها.. وهم يرون أنفسهم كبارا ويبحثون عن ذواتهم مع أصدقائهم وفي عالمهم الخاص المستقل عن عالم الأسرة الذين يتصورون أنه لا يرتبط به إلا الأطفال .

ولا بأس بكل ذلك إذا عرفنا أنها في النهاية مرحلة مؤقتة وعرفنا كيف نتعامل معها.. فنسلم لهم بقدر معقول من الاستقلالية.. ولا نحاول إجبارهم على مشاركتنا واجباتنا المنزلية أو مناسباتنا العائلية إذا شاءوا ذلك.. إلا بالترغيب وحده وليس باستثارة الإحساس بالواجب لديهم أو إشعارهم بالتقصير تجاه الأسرة إذا لم يؤدوه.. كما ينبغي أيضا أن نتجنب كثرة النصائح المباشرة لهم في هذه السن الحرجة وأن تصوغها دائما في شكل خبرات حياتية أتيح لنا الاطلاع عليها بحكم السن أو بمحض الصدفة، ولا بأس من أن نضعها عرضا تحت أنظارهم عسى أن يجدوا فيها ما يفيدهم، ثم نترك لهم ولعقولهم مهمة اکتشاف ما يناسبهم منها، وقد نعينهم على هذا الاكتشاف بطريقة غير مباشرة.. فيشعر الابن في هذه السن أنه هو الذي قرر واختار ولم يفرض أحد عليه رغباته كما يحدث مع الأطفال !

وخفضي أيضا من تذكيره بمعاناتكم من أجله في كل مناسبة حتى لا يستثير ذلك رفضه وتمرده على غير المتوقع.. فلا تبتئسی، وتعاملي مع ابنك الشارد هذا بتحفظ يشعره بحزنك الشديد على ما بدر منه ولا تعودي إلى طبيعتك معه إلا بعد أن يعتذر لك اعتذارا کافيا ومرضيا فإذا فعل وسوف يفعل بالضرورة فأطلقي العنان لعواطفك تجاهه وعبري عنها أمامه بلا حرج وشجعيه أيضا على أن يعبر لك ولأبيه عن عواطفه تجاهكما بلا حرج، فنحن في حاجة إلى استخدام كلمات الحب والاعتزاز كل يوم بل وكل ساعة في علاقات الأبناء بالآباء والأمهات أكثر من أي شيء آخر.. وسوف تكون النتيجة مرضية لك بإذن الله.

            نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1995

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات