العقاب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا فتاة في الثامنة والعشرين
من العمر أريد أن أروي لك قصتي المحزنة .. عندما كنت طفلة في الخامسة أو السادسة
من عمري كانت لي ذكريات خاطئة في مجال
الحب "الطفولي" علمت بها أمي وحدها فعاقبتني عليها عقابا غريبا هو أن
ألزمتني إرتداء ملابس الأولاد , فظللت أرتدي هذه الملابس من سن ست سنوات إلى سن
الثامنة عشرة لا أرتدي إلا البنطلون والحذاء الرجالي والقميص الرجالي , ولمدة
12سنة طويلة كنت خلالها أشعر بأنني أحمل عقابا فوق جسدي وانظر لأي فتاة ترتدي
الفستان والحذاء الحريمي نظرتي إلى كائن من كوكب آخر وأتمني أن أكون مثله ذات يوم
ورغم ملابسي الرجالي فلقد كنت أحلم دائما بالزواج وإنجاب الأطفال , وحين حصلت على
الثانوية العامة والتحقت بكليتي خلعت ملابس الأولاد أو الرجال إلى غير رجعة
وارتديت ملابس الفتيات لأول مرة بعد هذه السنوات الطويلة , ولكن أين أنا منهن وأنا
"جديدة" على حياتهن! لهذا لم يعجب بي شاب أبدا خلال مرحلة الكلية .. ثم
انتهت دراستي وعملت وركبت الأتوبيس ذات يوم وعمري 23سنة من مدينتي إلى القاهرة لأذهب
إلى صحيفة قاهرية تنشر بابا للزواج لكي أنشر فيها رغبتي في الزواج , وخلال الرحلة
تعرفت إلى شاب كان مسافرا معي وأعجبت به كثيرا وتحدثت معه طويلا وعرفت أنه خريج
جديد ولم يعمل بعد وليس جاهزا للزواج وأمامه عدة سنوات لكي يستطيع توفير الشقة
والارتباط وأعطيته عنوان أسرتي , وقررت أن أنتظره من عامين إلى 5 أعوام حتى يستطيع
التقدم إلي , وعدت إلى مدينتي وانشغلت بعملي وظللت أنتظر أن يزورني رفيق السفر أو
أحد من أهله فمضت 5 سنوت طويلة ولم يزرني ولم يتصل بي هو أو أقاربه ومازلت أنتظره
كل يوم .. ولكن لا حياة لمن تنادي!
إنني أرجو ألا تتصور أني معقدة
نفسيا منذ فترة إرتداء ملابس الرجال وأقسم لك أني نسيت هذه الفترة بآلامها .. ولم
يعد يشغلني سوى ألا يفوتني قطار الزواج بعد أن وصلت إلى محطة الـ 28 عاما .. ولا
أنام الليل كلما تخيلت محطة الثلاثين القادمة وأنا لم أتزوج بعد ولهذا أسألك لماذا
لم يأت رفيق السفر مع إني مازلت في انتظاره .. وهل تعتقد أنه سوف يجي ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولكـــاتــبة هذه الرسالــة أقول:
لا يا آنستي لا أعتقد أنه سوف
يجئ ولا أنصحك بالتعلق بهذا الخيط الواهي إذ لو كان راغبا في الارتباط بك لما تركك
خمس سنوات بلا أي اتصال أو إشارة إلى قرب مجيئه من عالم الغيب .. ويبدو أنك قد
حملت حديثه لك في رحلة السفر أكثر مما
يحتمل وتعلقت بهذا الوهم الجميل بلا طائل كل هذه السنوات ولهذا فإني أنصحك بألا
تضيعي وقتك في انتظاره.
والحق أن مأساة معاقبة أمك بإرتداء ملابس الرجال
لمدة 12عاما طويلة وهو ما لم أسمع به من قبل , لم تنته آثارها النفسية على شخصيتك
وأفكارك بعد , فهذا التطلع الدافق الحزين للجنس الآخر والتعلق بأي إشارة أو كلمة
تصدر عنه وتفسيرها بأنها رغبة جادة في الزواج منك , هي من آثار حرمانك من ممارسة
حياتك الطبيعية كفتاة وسجنك ظلما وعدوانا في ملابس الرجال وعالمهم على غير إرادة
منك وتلهفك على الزواج إلى حد نشرك إعلانا عن رغبتك فيه وأنت في الثالثة والعشرين
من عمرك , إمتداد لنظرتك الملهوفة إلى الفتيات وأنت بملابس الرجال كأنهن من عالم
آخر , ولهذا فأنت شديدة اللهفة على دخول عالمهن .. والزواج مثلهن .. وربما لهذا
السبب أيضا لم تنجحي في إنشاء علاقة زمالة طبيعية بينك وبين زملاء الدراسة خلال
مرحلة الجامعة .. وربما خلال مرحلة العمل أيضا , لأن إظهار اللهفة الشديدة على
الآخرين تنفرهم غالبا ولا تسمح لنا بإنشاء علاقات طبيعية ومتوازنة معهم ولا شك أنك
ضحية في كل ذلك لهذا العقاب القاسي لكنه لا مجال للوم الآن بعد كل هذه السنوات
فعيشي حياتك طبيعية يا آنستي .. ومارسي عملك بإخلاص , والتزمي بالقيم الأخلاقية
والدينية في حياتك ولا تتلهفي على أحد .. ولا تفسري كل كلمة أو إشارة تصدر عن زميل
أو شاب بأكثر مما تحتمل .. ولا تغالي في التخوف من محطة الثلاثين التي تنتظرك لأن
الحظ السعيد قد يطرق الباب في أي مرحلة من العمر .. وهناك كثيرات تجاوزن الثلاثين
ولا يبدين مثل هذا الهلع بعد أن تأخر سن الزواج لما هو أكثر من ذلك في كثير من
الأحيان .
والإنسان في هواجسه ومخاوفه
يستسلم أحيانا لأحلام اليقظة ويتخيل منقذا يجئ إليه من عالم سحري فوق حصان أبيض
فيخلصه من معاناته ويحمله إلى عالم السعادة .. والأحلام , وما انتظارك لرفيق السفر
الذي ذاب في زحام الحياة منذ 5 سنوات إلا نوعا من هذه الأحلام الوردية .. فعيشي
واقعك وثقي بربك وبنفسك .. ولسوف تضع الأقدار في طريقك من تسعدين معه ذات يوم قريب
بإذن الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير
1993
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر