النظرات اللائمة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1997

 النظرات اللائمة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1997

  النظرات اللائمة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1997

الحياة للأسف لا ترد إلينا الأحباء لكى نحقق لهم ما تعلمناه بدرس الألم أن نسلم لهم به بعد فوات الأوان وقديما قال المتنبى:

أبى خلق الدنيا حبيبا تديمه   فما طلبى منها حبيبا ترده

عبد الوهاب مطاوع


أنا رجل فى الخمسين من عمري , أعطتني الحياة وأخذت مني .. بدأت رحلتي مع الحياة حين توفي أبى تاركاً خلفه أسرتين هما أمي وأنا وحيدها , وزوجة أبي الأخرى وأربعة إخوة غير أشقاء , وكانت لأمي السطوة في حياة أبي لأنها من أسرة عريقة فكاد ذلك يؤدي إلى إنفرادها بمعظم الميراث دون زوجة أبي وإخوتي لولا أن تصدى لها رجلُ من أسرة أبي وأصر على أن يقسم ميراث أبي حسب الشرع , فنالت زوجة أبي وأبناؤها حقوقهم وانخفض بذلك نصيبنا من الميراث إلى أدنى حد ممكن فأسخط ذلك أمي على كل أفراد أسرة أبى وعلى ذلك الرجل على وجه الخصوص , وقاطعت الأسرة كلها واتجهت بى إلى عالم أسرتها فنشأت بينهم لا أعرف سواها ولا أكاد أعرف أحداً من أسرة أبي , ولا أسمع عنهم إلا ما يبغضنى فيهم وفى هذا الرجل الذى وقف ضد أمي , وظل الحال على هذا النحو حتى تخرجت فى كليتي العسكرية وتزوجت بدون أن يشهد زواجي أحدا من أسرة أبى الذين لم ندعهم للحضور والمشاركة , وكانت والدتي تذكرني من حين لآخر بهذا الرجل الذى ضيع "حقوقنا" وجعل أسرة أبى تقاطعنا وفرق بيني وبين اخوتي ولم يكتفي بذلك بل راح يساعدهم فى حياتهم ليصبحوا أفضل منا!

 

فعشنا وأمي وزوجتي منعزلين عن أسرة أبي , وحين مرضت أمي مرضها الأخير رفضت أن يعودها أحداً منهم وأوصتني بألا يشارك أحدهم في وداعها الأخير ورحلت أمي يرحمها الله ويغفر لها عن الحياة , وخلت الدنيا بعدها إلا من زوجتي التى عايشت موقفنا من عائلة أبي ومن ابنتي الوحيدة التي رزقت بها وأصبحت محور حياتنا , وتفرغت لعملي وحياتي وابنتي وراقبتها وهى تكبر وتتقدم من مرحلة إلى مرحلة من العمر حتى استوت آية فى الخلق والجمال : ولإنها كانت تعتبرني وأمها صديقين لها فقد كانت تفتح قلبها وعقلها لنا باستمرار وتحدثنا عن كل شئ فى حياتها وعن زملائها فى كليتها ومن تستريح إليه منهم ومن لا تستريح...إلخ , حتى شعرت باهتمامها الخاص بأحد زملائها فى الكلية , وجاء عيد ميلادها فأقمنا لها كعادتنا الثانوية حفلاً عائليا فى البيت دعت إليه صديقاتها وزملائها,وجاء معهم هذا الشاب وقدم نفسه إلىّ فإذا به يفاجئني بأنه يعرفني من قبل جيدا لأنه فلان بن فلان!

 

وإذا به أصغر أبناء ذلك الرجل الذي اعتبرته أمي المسئول الأول عن حرمانها مما رأته حقا لها فى ميراث أبي والذي أفسد ما بينها وبين الأسرة , وفرق بيني وبين إخوتى لأبى , وشعرت بضيق والارتباك وكأن مخزون من الكراهية الذى تجمع فى أعماقي طوال رحلة السنين يكاد ينفجر فى وجهي , وهممت بطرده بالفعل من البيت , لكنى تمالكت نفسي لكي لا أحرج إبنتى بين زملائها , وانتهى الحفل وأنا فى أسوء حال وانفردت بزوجتي بعده فإذا بى ألمس إعجابها وتعاطفها مع هذا الشاب , فغضبت لذلك وطلبت منها أن تقنع إبنتى بالبعد عنه وتجنب الإشارة إليه أمامي .

ووعدتني زوجتي بأن تحاول ذلك.. لكن الشاب لم يخرج من حياتنا بعدها وتردد اسمه أمامي كثيراً على لسان إبنتى المعجبة بأخلاقه ورجولته وكفاحه فى الجمع بين الدراسة والعمل , بل وعلى لسان زوجتي أيضاً وكظمت غيظي الشديد من ذلك مؤملا أن يتغير كل شئ حين تتخرج إبنتى فى كليتها ويتفرق زملاء الكلية كل منهم فى طريقه , لكنى فوجئت فى حفل تخرج الابنة وزملائها بهذا الشاب يقترب منى ويطلب منى موعداً لزيارتي فى البيت , وفوجئت بإشارات زوجتي لى بألا أرفض ذلك فضربت له موعدا , وجاء ليزورني ويفاتحني بنيته بالارتباط بإبنتى فلم أستطع كبح جماح ثورتي وانفعلت إنفعالا صاخباً وتوعدته بضياع مستقبله إن هو فكر فى ذلك , وخرج الشاب من بيتي طريدا كسير النفس وتحملت السخط الصامت من إبنتى على أمل أن تنشغل بعد قليل بحياتها العملية وبمن يتقدمون لطلب يدها .

 

وتقدم إليها بالفعل أكثر من خاطب فقوبلوا جميعا منها بالرفض وأدركت أن هذا الشاب مازال يقف بينى وبينها فتقصيت أخباره وساعدني منصبي الكبير على ذلك فعرفت أنه قد عمل بشركة فى المجال نفسه الذى تعمل فيه إبنتى وهو مجال الإرشاد السياحي وأن فرص اللقاء لن تكون منعدمة بينهما , فاتصلت بصاحب الشركة التى يعمل بها سرا وطلبت منه فصل هذا الشاب لإبعاده عن إبنتى وضحى به الرجل إكراما لى أو قل لمركزي بالرغم من أنه قد أثنى عليه وعلى أخلاقه وكفاءته.

 

وأتصل أحد زملاء الكلية بى وكنت أعرف إعجابه بابنتى ورغبته فى الارتباط بها فشجعته على التقدم لها وأغريته بأنني سأذلل كل الصعب أمامه ففوجئت بهذا الشاب يسألني سؤالا محيرا هو .. ألا يعتبر ذلك مؤامرة لا إنسانية ضد فلان؟!

وشعرت أننى محاصر بهذا الشاب وبأصدقائه وزملائه المتعاطفين معه وزاد كرهى له ولاحقته فى أكثر من عمل التحق به , وتسببت في فصله أكثر من مرة.وكلما تقدم لإبنتى خاطب آخر رفضته بإصرار , إلى أن علمت بالصدفة
أن هذا الشاب قد قرر السفر إلى فرنسا والتحق ببعض أقاربه الذين يعملون هناك ولاحظت خلال هذه الفترة انكسار ابنتى واكتئابها وفقدها للحماس للحياة , وفسرت ذلك بحزنها لانتهاء القصة وفى هذه الظروف تقدم إليها خاطب تتوافر فيها كل المقومات ومن أسرة عريقة ففوجئت بها تقبله بلا حماس , وتم عقد قرانها عليه بالفعل وسافر الشاب إياه إلى فرنسا واختفى من مسرح حياتنا واسترحت لذلك كثيراً ولمست عدم سعادة إبنتى بخطيبها لكنى هونت الأمر على نفسي بأنها لم تلبث أن تندمج فى حياتها الزوجية المقبلة وتسعد بها وتنسى كل شئ آخر , لكن الأيام مضت وإبنتى تزداد هزالا وذبولا إلى أن سقطت غائبة عن الوعي بين أيدينا ذات مره فهلعنا لما أصابها , وحملناها إلى الطبيب فلم يقطع بتشخيص محدد وطلب منا إجراء فحوصات عديدة وتنقلنا بها بعد ذلك بين عدد كبير من الأطباء فإذا آخرهم يصدمنا صدمة العمر الهائلة بأن ابنتنا الحبيبة  مصابة بمرض خبيث فى المخ..

 

ثم يشير علينا بعرضها على أطباء فى مستشفى متخصص فى فرنسا , وإستلمنا لأقدارنا مذهولين وبدأنا نعد عدتنا للسفر إلى هناك وقبل أن نبدأ الرحلة بأيام فوجئت بآخر ما كنت أتوقعه ونحن فى هذه الظروف المؤلمة وهو ورقة طلاق ابنتي ممن كنت أظن إنه سيكون ابني الذى لم أنجبه من صلبي والذى سوف يقف إلى جوارها ويرعاها معنا فى محنتها الصحية وكتمت الخبر عن ابنتي وزفرت هاتفاً .. حسبى الله ونعم الوكيل , وأتممنا استعددنا للسفر وأنا وزوجتي كالسكارى نتتطوح من الحزن والخوف والذهول , وكنت قد كلفت صديقا لى يعيش فى باريس بأن يؤجر لنا مكانا نقيم فيه هناك, فأستأجر لنا "استديو صغير أى غرفة بمرافقها فى حى بأطراف باريس اسمه "بورت لاشابل" وسافرنا إلى العاصمة الفرنسية مع بداية الصيف الماضي وغادرنا المطار ففوجئنا بالشاب الذى أراد الارتباط بابنتي  وعاملته من قبل أسوء معاملة يقف خارج الدائرة الجمركية فى انتظارنا , وعرفت انه قد علم من صديقي بمجيئنا وبما أعده لنا من سكن فى أطراف باريس وتقدم منا يرحب بنا فى أدب ويبلغنا أنه قد حجز لنا مكان أفضل وأقرب للمستشفى فى الحى السادس عشر وقادنا إليه وأشرف على راحتنا حتى استقررنا فيه , وغادرنا فى المساء عائداً إلى المكان الذى يعمل ويقيم فيه خارج المدينة ثم تفرغ لنا بعد ذلك تاركا عمله وراح يأتي إلينا كل صباح حاملاً معه الإفطار ثم يصطحبنا إلى المستشفى ويقضى معنا معظم اليوم ويصطحبنا إلى المزارات المختلفة دون أن يشير أي إشارة إلى ما جرى من قبل بينى وبينه .

 

أما ابنتى فقد تحسنت حالتها النفسية بعض الشئ لكنى لاحظت أنه يتفادى الإنفراد بها أو الحديث معها بشكل شخصي كما لاحظت أيضا على ابنتى أنها عاتبة على هذا الشاب عتاباً صامتا لأمر لا أعرفه وتمنيت لو عرفته لأجد تفسيراً لنظراتها اللائمة له والتي يتفاداها دائما وجاء موعد دخولها للمستشفى فإذا بابنتى تصارحني أمامه بأنها قد قبلت بالزواج من الآخر احتجاجا منها على هذا الشاب لأنه قد رفض ما عرضته عليه هى من أن يتزوجها سرا لكى يضعني أمام الأمر الواقع, لكنه أشفق عليها من أن يعرضها لهذا الموقف معى وأكد لها أنه لا يريدها ولا يقبل بها إلا فى النور وبرضا الجميع ، ثم قرر السفر لفرنسا لهذا السبب!!

 

وأدركت فى هذه اللحظة معنى نظراتها اللائمة له وشعرت بالخجل منه وبالاحترام الشديد له ودخلت ابنتى المستشفى وأجريت لها الجراحة المقررة وخرج إلينا الأطباء وعلى وجوههم النتيجة المفجعة وانهرت أنا وزوجتي انهيارا كاملاً , وفقدت الإحساس بالمكان والزمان حتى خيل إلىّ أنني أشاهد أحداث قصة غريبة لست طرفاً فيها .. فى حين راح هذا الشاب الذى لم يبكِ ولم يتهاوى على الأرض كأنما قد خُلق لمواجهة الشدائد , يتحرك هنا وهناك ويرتب لعودة الجثمان لمصر . ويستدين من أصدقائه لتغطية النفقات ويتصل بأهلنا فى مصر ليكونوا فى إنتظارنا ويحجز لنا أماكن العودة ويقوم عنا بكل شئ ثم يرجع معنا على نفس الطائرة لأجد فى مطار القاهرة زحاماً من الأهل الذين أتصل بهم ونسوا سنوات القطيعة والجفاء وجاءوا لاستقبالنا وشد أذرنا والتخفيف عنا ,والقيام عنا بكل شئ .

 

ومضت الأمور فى طريقها المرسوم ولم يكن يخفف عنى وزوجتي بعض ما يعتصرنا من ألم سوى وجود هذا الشاب معنا , وسوى ما أحسسنا به من صدق تعاطف هؤلاء الأهل وصدق مشاركته لنا فى مصابنا .

 

وتوالت الأيام بعد ذلك ثقيلة وحزينة , ورحت ذات يوم أقلب أوراق ابنتى لأجمع مذكراتها وأحتفظ بها فوجدتني أقرأ ما كتبته عن أحلامها للمستقبل مع هذا الشاب وكيف يحلمان بأن يعملا معنا فى مجال الإرشاد السياحي ويتزوجا ويتمتعا بالحب والحياة وأعتصر الألم قلبي لما حرمتها منه بموقفي من هذا الشاب , وقتلت نفسي لوماً وتعذيباً وتمنيت لو كنت قد حققت لها أحلامها الموؤدة.

 

وجاء هذا الشاب لزيارتي فوجدتني أعترف له بكل ما فعلته معه وتسبب له فيه من متاعب فى جهات عمله , وأطلب منه أن يسامحني فيما فعلت فأكد لى ذلك ثم استأذننى فى الانقطاع عن زيارته لأنه سيسافر إلى قريته ويقضى بها بعض الوقت وصافحته مودعاً وشاكراً وعلمت من بعض الأهل أنه قد اعتذر عن عدم العودة لعمله السابق كمرشد سياحي ومضت أسابيع لم يتصل بى خلالها , وفى ثالث أيام عيد الأضحى الماضي شعرت برغبة قويه فى زيارة مثوى ابنتي الأخير .فتوجهت إليه ففوجئت بهذا الشاب يجلس أمامه واجماً وعاتبته لانقطاعه عنى خلال الفترة الماضية وأنا من اعتبرته الآن ابني الذى عوضني الله به عن فقيدتى , كما لمته على زهده فى العمل وجلوسه فى قريته بلا عمل فبكى لأول مره أمامي منذ وقعت الواقعة , وقال لي : أنه فقد ثقته فى الحياة ولم يعد يستطيع جمع شتات نفسه , ولا يقدر الآن على ممارسة عمل المرشد السياحي الذى يتطلب منه أن يكون حاضر الذهن وبشوشاً ومبتسماً فى وجوه السياح , ووجدتني أنا الذى فقد وحيدته وكل حياته أخفف عنه وأطالبه بالتجلد ثم أصررت على أن يصحبني إلى البيت وجاء معى وقضى معنا بعض الوقت ثم ودعني شاكراً ومعتذراً عن عدم قبول أي مساعدة من جانبي له  فى العودة لعمله , واختفى منذ ذلك اليوم عنى ولم اعد أراه ولقد سمعت أنه يفكر فى استكمال دراساته العليا فى الكلية كما سمعت أيضا أنه قد استخرج جواز سفرا بحريا ويفكر فى العمل بالبحر.

 

ولأنني قد فقدت الاتصال به منذ ذلك الحين فلقد فكرت فى أن أتصل به من خلالك , وأن أرجوك أن تكتب إليه مناشداً إياه أن يتقبل أمر الله وأن يصفح بقلب صافي عما فعلت معه , وأن يرجع لزيارتي من حين لآخر لأنني أرى فيه وجهه ملامح صورة إبنتي الغائبة وأتسمع فى حديثه صدى حديثها معى, كما أرجو أن تشجعه على إستكمال دراسته العليا وإستعادة رغبته فى العمل وحبذا لو استطعت عن طريق قرائك مساعدته فى العمل بالبحر كما يفكر , وحبذا أيضاً لو دعوته لمقابتلك وتفرغت له ساعة من وقتك لتخفف عنه وتشد من أزره وتعيد إليه إيمانه للحياة , فالحق أننى لم أعد أملك له شيئاً الآن لكنك تملك له أنت الكثير, أما آخر ارجائى لك فهو أن تبلغه أننى قد علمت منه رغم صغر سنه كيف يكون الرجال وأنه رجل حقيقى يفخر به أى أب وأم صهر, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 
ولكاتــب هذه الرسالة أقول:

قد يعلمنا الأبناء أحيانا بعض ما غاب عنا وظننا نحن بغرور العمر أنه لا يغيب.والحق أن هذا الشاب النبيل لم يعلمك وحدك كيف يكون الرجال.وإنما علمنا نحن أيضا ذلك , كما علمنا كذلك كيف يكون حب الرجال شريفاً وأميناً وعفيفاً ومتعالياً عن أهواء النفس وأكثر حرصاً على صالح الطرف الآخر وكرامته حتى من نفسه !

فلا عجب إذن فى أن يكون هذا الشاب الأمين من سلالة ذلك الرجل العادي الذى أصر على تقسيم ميراث أبيك بالحق والعدل بين زوجتيه وأبنائه حتى ولو أسخط عليه بعض من لم يكن يرضيهم ذلك , ولا شك فى أن للعوامل الوراثية أثرها فى انتقال بعض الفضائل والسمات النفسية والخلقية من جيل لآخر , فإن لم يكن ذلك بفضل هذه العوامل الوراثية وحدها ، فعلى الأقل بفضل التنشئة الأخلاقية والقيم المثالية التى تسود البيئة العائلية لمن يتسمون بهذه المثاليات والأخلاقيات,حتى لقد حار بعض بني أمية فى تفسير شدة خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز فى الحق والعدل ولو أسخط عليه ذلك ذوى قرباه , فلم يجدوا تفسيراً سوى انتسابه من جهة الأم إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب فسخطوا على ابن الخطاب على بعد المدى كما سخطوا على حفيده العادل الذى أصر على رد المظالم من أموال بنى أمية , والتزم العدل بين الرعية.

 

ولو تأملت يا سيدي ما جرى بين هذا الشاب الأمين وبين ابنتك الراحلة يرحمها الله , للاحظت تشابها واضحاً فى السمات النفسية والأخلاقية بين الأب وابنه حين يتصل الأمر بما يؤمن أحدهما أنه الحق والعدل , فلقد تصدى الأب لرغبة والدتك فى الاستئثار بمعظم الميراث دون غيرها من الورثة , وتحمل راضيا سخطها عليه ومقاطعتها له وللأسرة , وتصدى الابن_مع اختلاف الظروف لرغبه ابنتك المحبة فى الارتباط به سرا لوضعك أمام الأمر الواقع , وتحمل غضبها عليه راضيا أو كارها لأنه رأى فى موقفه أنه على حق فى ألا يعرض فتاته لما يكرهه لها حتى ولو أغضبها ذلك وهذه هى الشجاعة النفسية التى تملي على صاحبها تحمل تبعات ما يؤمن بأنه الحق ولو لم يرض عنه أحب الناس إليه .. فأما كرهك هذا الشاب حين ظهر فى أفق حياة ابنتك بعد كل هذه السنين فلقد كان أيضا امتدادا لمخزون الكراهية الذى أودعته والدتك فى صدرك تجاه أسرة أبيك وتجاه هذا الرجل العادل على وجه الخصوص.ولقد عاهدت نفسي بعد أن قرأت رسالتك هذه وتأثرت بفجيعتك المؤلمة فى ابنتك الوحيدة , ألا يجرى قلمي بأى كلمة لوم أو عتاب لك على سابق موقفك من رغبة ابنتك فى هذا الشاب أو موقفك السابق منه, ليس لأنني لا أرى فيهما ما يستوجب اللوم وإنما لأن من آلام الحياة ما يعفى من يكابدها من كل لوم أو عتاب على سابق مواقفه وراءه .

 

ولأنك أيضا قد عدلت عن موقفك السابق من هذا الشاب حتى من قبل أن تتردد فى الأفق أنغام الرحيل الحزين,فعرفت له فضله وشهامته وأكبرت  فيه رجولته وتعففه عن الإستجابه بنداء العاطفة وحده إشفاقاً على ابنتك من غضبك عليها وإشفاقاً عليك أنت من معاناة هذه المحنه المؤلمة لك وكأنما قد استشفت بإلهام قدري غريب أن الأقدار الحزينة تدخر لك حزناً كبيراً يعلو فوق كل الأحزان وأشفق من أن يتعجلها ويضاعف لها قبل حلول الأوان!

 

فإذا كنت يا سيدي قد احترقت بلسع الألم والندم وأنت تقرأ فى أوراق إبنتك القديمة عن أحلامها فى الارتباط بهذا الشاب وتمنيت لو كنت قد حققتها لها فى الوقت المناسب ,فلقد شعرت فى ذلك بما يشعر به الإنسان بعد رحيل الأحباء وما يتمناه مما لو كان قد استطاع أن يحقق لهم كل ما أرادوا لأنفسهم قبل أن تنطوي صفحتهم القصيرة من كتاب الأيام , ولكى يرحلوا إلى السماء سعداء غير محرومين ,أما الرحيل فلم يكن ليتأخر لحظة عن موعده المقدور وما كان لأحد من سلطان عليه , فخفف عن نفسك يا سيدي ما تشعر به من ألم لذلك ,وثق من أن إبنتك لم يغب عنها رغم أحزانها إنك ما فعلت إلا طلباً لمصلحتها كما تصورتها أنت , وثق أيضا إنها قد لمست تغير موقفك تجاه هذا الشاب خلال رحلة العلاج المريرة فى فرنسا وأدركت قبولك له وبإعجابك به وبأخلاقياته ,ورضيت عن ذلك كثيراً فإذا كانت قصتك لم تشهد ختامها السعيد فإن الأقدار كانت أسبق إليها منك ومما أرادته لها من سعادة ولئن الحياة للأسف لا ترد إلينا الأحباء لكى نحقق لهم ما تعلمنا بدرس الألم أن نسلم لهم به بعد فوات الأوان ..

وقديما قال المتنبى:

أبى خلق الدنيا حبيبا تديمه.....فما طلبى منها حبيباً ترده !

ولأن الأمر كذلك فلا عجب أيضا فى أن تجد بعض العزاء فى قرب هذا الشاب الذى أحبته إبنتك منك وفى مشاعرك الأبوية تجاهه وبعد أن كنت تلاحقه بالأذى فى كل عمل يلتحق بك أصبح يحزنك الآن زهده فى العمل وفقده للإيمان بالحياة , واستسلامه للاكتئاب وأصبحت ترجو له صادقاٌ أن يستعيد ثقته فى الحياة وإقباله عليها وحماسه للعمل ,كما ترجو له أن يواصل دراساته العليا, ويحقق رغبته فى العمل بالبحر..والحق أن هذا الشاب يستحق ذلك منك وأكثر .. فهو ممن عاناهم الأديب الراحل مصطفى صادق الرفاعى حين تحدث عن أنواع البشر فقال: إن منهم من تنقص بهم الأحزان.. ومنهم من تتم بهم الأحزان!

ولا شك أن هذا الشاب ممن تنقص بهم الأحزان ولا تزيد وأرجو أن يتفضل بزيارتي بمساء الاثنين القادم لأتعرف به وأتحدث إليه وأسمع منه ...

وأرجو الله أن يوفقني إلى ما فى الخير وصلاح أمره.. بإذن الله.



رابط رسالة فيض القلب وهي من الشاب الذي تحدث عنه كاتب هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1997

شارك في إعداد النص / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات