فيض القلب .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1997
أنا
الشاب الذى تحدث عنه كاتب رسالة " النظرات اللائمة " فى الأسبوع الماضي
والذى كان ينبغي له ان يستجيب لدعوتك له للحضور لمقابلتك والاستماع إلى نصائحك
الغالية ، غير أنه يؤلمني أن اعجز عن الحضور فى الموعد الذى حددته لى فى ردك على
الرسالة لارتباطات خارجة عن إرادتي واطمع فى قلبك الكبير أن تقدر الظروف وان تحدد
لى موعدا آخر فى أي وقت تسمح به مشاغلك لأتى إليك واستمع لك شاكرا وممتنا ، أما ردي
على ما جاء بالرسالة ، فأود أن أقول لك أولا أنني شاب فى السادسة والعشرين من عمري
نشأت فى أسرة ريفية بسيطة وذهبت فى طفولتي إلى الكتّاب وحفظت ثلثي القرآن ثم
انتقلت للمدينة وأدخلني أبى أرقى مدارسها، وكان لى فى المدينة مسكن مستقل عشت فيه
بمفردي وتعودت حياة الاستقلال والاعتماد على نفسي ، أما أبى الذى نشأ كاتب الرسالة
على الاعتقاد بأنه قد حرمه ووالدته من حقوقهما فى ميراث أبيه فهو رجل أمين عرف منذ
زمن بعيد بالجدية والاستقامة والعدل ويشارك فى جلسات المصالحة والتحكيم فى
النزاعات بين الأهالي فى القرية منذ شبابه ويرتضيه أهلها دائما حكما عادلا فى
منازعاتهم .
وحين توفى والد كاتب الرسالة أراد أبى أن تظل
التركة على حالها وان يعيش كل الورثة من خيرها وهو وفير والحمد لله لكن والدة كاتب
الرسالة طلبت التقسيم وجارت أسرتها بثقلها وقوتها على يتامى الزوجة الأخرى للأب
الراحل ، وهنا أصر أبى على التقسيم بالعدل وعلى ألا تجور فئة على أخرى لان الجميع
أبناء رجل واحد فكان ما كان من قطيعة بين والدة كاتب الرسالة وبين أسرة أبيه
وبالذات مع أبى الذى اعتبرته والدته المسئول الأول عن ذلك .
لكن كاتب الرسالة صدق ما انطوت عليه والدته من اعتقاد بأن أبى ظلمها وابنها عند
تقسيم الميراث ، وظل يؤمن بذلك إلى أن ظهرت أنا كما يقول فجأة فى حياة ابنته
الراحلة يرحمها الله خلال مرحلة الدراسة بالكلية . ورفضني خاطبا لها حين تقدمت
إليه وطاردني بسطوته ونفوذه فى كل عمل التحقت به ، وكان من أصحاب هذه الأعمال من
يملكون الشجاعة وواجهوني بالموقف وتركوا حرية الاختيار لى مع استعدادهم لتحمل تبعة
ذلك ، لكنى كنت أؤثر الانسحاب رفعا للحرج عنهم ، حتى هاجرت من مصر كلها إلى فرنسا
، مع أن مطلبي للزواج من ابنته كان عادلا وقد طرقت البيوت من أبوابها .. ولم اقبل
بالزواج السري حفاظا على كرامة الطرف الآخر وكرامتي ولأنني لا اطلب طلبا غير مشروع
.. فكان ما كان وكان رفضي قاسيا ومهينا فإذا كنت قد بكيت بين يديه فى بيته بعد
عودتنا لمصر مع جثمان ابنته يرحمها الله ، فلقد كان لبكائي بعد طول عصيان للدمع
ثلاثة أسباب هى : النهاية المؤلمة لمن أحببناهم وصدقناهم الوعد وصدقوا معنا ، ثم
علمي بطلاقها المؤلم قبل وفاتها بأيام من الآخر الذى تعجل والدها زواجها منه ليبعدها
عنى ، ثم الرسالة المغلقة التى كتبتها لى الراحلة الكريمة وسلمها لى والدها ذلك
اليوم وكانت آخر كلماتها وأصدقها يرحمها الله رحمة واسعة .
وأما
عن ندمه وطلبه منى أن أسامحه فاني ادعوه لان يتوجه بهذا الطلب إلى من يملك أن
يجيبه عليه ، وهو من يغفر الذنوب جميعا سبحانه وتعالى .
وأما
طلبه منى أن أزوره ، فلقد قلت له من قبل أنني لا أريد البعد عنه ، ولا أريد أيضا
الاقتراب منه ، وأرجو أن نستعيد قدرتنا على نسيان الإساءة والمرارات . كما أرجو
ألا يعتبر كلامي هذا جفاء له فلقد احترمت فيك يا سيدي عهدك لنفسك ألا توجه للأب
المكلوم أي لوم على ما كان من سابق أمره معي ، لان من آلام الحياة كما قلت ما يعفى
من يكابدها من كل لوم ، ولقد حاولت أن اقتدى بذلك فى رسالتي ، واختم رسالتي لك
بشكرك على ما أبديت من فهم وعطف على الطرفين معا وبشكر أصدقائي فى باريس وفى مصر
الذين ساهموا معى فى رحلة العودة الحزينة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ولكاتب هذه الرسالة أقول
:
إنه من فيض القلب .. يتكلم الفم ! كما جاء فى الكتاب المقدس . وقلبك يا صديقي لم
يخل بعد من مرارته تجاه هذا الأب المكلوم لسابق موقفه منك عند تقدمك لطلب يد ابنته
الراحلة ، وسابق ملاحقته لك بالأذى فى عملك حتى اضطررت للسفر إلى فرنسا ، ثم جمعت
بينكما الأقدار الأليمة بعد ذلك .. وشهدت رحيل فتاتك عن الحياة ورجعت مع جثمانها
إلى موطن الأحزان ، ولأن الأمر كذلك فلقد جاءت رسالتك هذه أقل تسامحا مما توقعته
منك تجاه هذا الأب المكلوم ، وأقل استجابة لما رجاه هو منك ورجوته أنا فيك !
فيا صديقي الشاب الأمين الذى نال احترام كل من
قرأ رسالة الأب المفجوع عنه وعن رجولته وتضحيته وشهامته ووقوفه إلى جواره فى محنته
الدامية بالرغم من كل ما ناله من أذى سابق منه ، أقول لك إن " المصائب يجمعن
المصابينا " وأن هذا الأب الثاكل يلتمس لديك بعض السلوى وبعض العزاء ، يتخفف
بهما مما يكابده من أحزان وآلام ، فلا تضن بذلك عليه ولا تستسلم للمرارات القديمة
.. فلقد أسدل الرحيل الدامي ستارا كثيفا على كل الخلافات والمرارات ، وأرجو أن
تسرع الأيام إليك بالقدرة على نسيان الإساءات فتتلاقى مع هذا الأب ويعين كل منكما
صاحبه على أمره .
ولن أطيل الحديث إليك فى هذا الشأن لعلمي انك تعرف كل ما أريد قوله لك لكنى فقط سأروى لك ما قاله رجل من العرب للخليفة المنصور حين استشار من حوله فى أمر أهل الشام الذين ناصروا ابن عمه عبد الله بن على عليه .. وتغلب عليه المنصور وتساءل الناس ماذا سيفعل بمن ناصروا خصمه فقال له هذا الرجل : " الانتقام عدل ، والتجاوز فضل ، والمتفضل قد جاوز حد المنصف ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ ارفع الدرجتين ! ".فكان أن أبى المنصور على نفسه " أوكس النصيبين " واختار أن يبلغ ارفع الدرجتين ويعفو عن أهل الشام .. واني لعلى ثقة من أن الأيام سوف تمسح كل المرارات والإساءات قريبا وانك ستختار ارفع الدرجتين في اقرب وقت بإذن الله .. أما عن اللقاء بيننا فتفضل بالحضور فى مساء أي يوم من أيام الاثنين طوال شهر يونيو الحالي وشكرا لك ..
شارك في
إعداد النص / محمد يسري
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر