الإصرار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا أرملة تخرجت في كلية الزرعة منذ سنوات بعيدة وعملت بإحدى مراكز البحوث ثم مات زوجي وأنا شابة صغيرة وترك لي ابنا وابنه لم يبلغا سن المدرسة فرفضت أن أتزوج بعد وفاته وكرست حياتي للطفلين , وتفرغت لتربيتهما معتمدة في ذلك على نفسي وحدي ولم أقترض أبدا طوال حياتي معهما فبارك الله لي فيهما وتعلما وتفوقا وتخرج كل منهما في كليتين في نفس الوقت ثم تزوجا وهاجرا إلى أمريكا وكندا وهما الآن يعملان هناك في مراكز محترمة ويشرفانني بما حققاه من نجاح وتفوق ويشرفان بلدهما أيضا .
والآن يا سيدي فقد خرجت إلى المعاش وأنا في أتم صحة وعافية والحمد لله ولا ينقصني شئ في حياتي سوى ولدي .. لكني رغم ذلك لا أريد أن أعيش مع أحدهما لكي يستقلا عني تماما ولأني أفضل أن أعيش مستقلة حتى النهاية وألا أتدخل في حياتهما .
والمشكلة التي أواجهها هي أني كنت قد حصلت منذ ثماني سنوات على قطعة أرض صحراوية مساحتها خمسة أفدنة وتمكنت بمجهودي ونشاطي من استصلاحها وعمل شبكة مياة الري بها واشتركت مع زملائي من أصحاب الأرض الجديدة بالمنطقة في مياه الآبار، ثم توقفت بعد ذلك لأني أنفقت كل ما معي من مال على هذه المراحل ولا أستطيع استكمال ما بدأته فيها وخططته للزراعة وانشاء المشاريع "الجميلة" المريحة فيها وهي أرض صالحة وطيبة وسوف تعوضني عن كل ما أنفقته عليها , والآن أنا في حيرة من أمري لأني أحب هذه الأرض وأريد أن أحقق أفكاري ومشاريعي فيها لكنني أجد نفسي مضطرة إلى بيعها لعدم قدرتي ماديا على استكمال ما تحتاجه من خطوات , كلما فكرت في بيعها رقدت مريضة في فراشي وأحسست بآلام السن تتسلل إلي وكلما لاح لي أمل في مواصلة العمل بها عاد إلي حيويتي ونشاطي مرة أخرى ونهضت في حماس لتنفيذ بعض أعمالها وأنا لا أرضى بالكسل والقهر وكبر السن ولا أعترف بها ولا أريد أن أجلس في مسكني بلا عمل ولا هدف سوى مشاهدة التليفزيون بل إني أشعر بالموت إذا لم استخدم كل هذه الخبرة والنشاط والحيوية التي اتمتع بها في عمل مفيد لي وللآخرين .
وقد كان جيراني في المشروع من المهندسين الشبان يسمونني المرأة الحديدية لنشاطي في الأرض وحماسي .. ومطلبي هو أن أجد بين قرائك من يقف معي في هذا المشروع فينفق على المراحل القادمة , وأقوم أنا بتنفيذ ما خططت له من مشروعات وأفكار فيتحقق الخير والنفع للطرفين وقد فكرت في هذا الأمل لأن ولديّ لا يستطيعان مشاركتي ماديا في المشروع إذ أنهما رغم كل شئ مازالا في بداية حياتهما كما أنهما أيضا لا يريدان في قرارة نفسيهما إلا "جلوسي" بجانبهما .. وأنا لا أريد الجلوس بلا حراك ولا عمل فهل يتحقق هذا الأمل على يدك ؟
ولكــاتــبة هــذه الــرسالــة أقول :
أرجو ذلك من كل قلبي يا سيدتي , فلا شك أن هناك من سوف يرحب بأن يستفيد من خبرتك وعلمك وتجربتك العملية المفيدة فضلا عن حماسك وإرادتك الحديدية في استثمار ماله في أرضك فيضيف إلى الحياة قطرة جديدة من قطرات العرق المقدس .. فإذا زدت عن ذلك شيئا فإني أقول لك أن رسالتك القصيرة تؤكد من المعاني الجميلة الصحيحة ما يثبت أن الإنسان إنما يشيخ حقا إذا وهنت إرادته وضعفت رغبته في الكفاح والعمل والتواصل مع الحياة وأنه يظل شابا متفجرا بالحيوية والنشاط ما بقيت إرادته قوية وروحه شابة ورغبته في المشاركة في مباراة الحياة متأججة وصادقة , فالفارق الحقيقي بين الشباب والشيخوخة هو في الإرادة والحماس وليس في العمر أو رحلة السنين فشكرا لك على رسالتك التي تجدد الأمل في الحياة والمشاركة لكثيرين , وأرجو أن أتصل بك حين أتلقى عرضا مناسبا لك إن شاء الله .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر