الشئ النادر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أكتب لك هذه الرسالة متأخرة عن موعدها لأعلق بها على رسالتين نشرتا في بريد الجمعة منذ فترة لزوجين يشكوان من أن كلا منهما قد أعطى زوجته توكيلا عاما للتصرف في ماله خلال غيابه للعمل في الخارج , فاستخدمت هذا التوكيل في سلب ماله وممتلكاته وشقاء غربته ونقله بإسمهما .. وقد رأيت من واجبي أن أكتب لك هذه الرسالة دفاعا عن زوجات أخريات يختلفن عن هاتين الزوجتين .. فأنا زوجة لرجل فاضل "ولست متعلمة تعليما عاليا ولم أحصل إلا على الشهادة الإعدادية فقط" وقد تزوجت من جاري بعد قصة حب قصيرة .. وكنت من أسرة متوسطة الحال لم تعرف من الدنيا سوى الضروريات وكذلك كان زوجي وقد تزوجنا وهو موظف في شقة ضيقة من حجرتين وبأثاث قليل وفي منتهى البساطة وسعدت معه وأنجبت له 4 أطفال .. ولم أشك من صعوبات البداية ولا من ضيق الحال .. وإنما رضيت بما تسمح به قدرة زوجي ودعوت له دائما بالتوفيق في حياته .. فلم تمض سوى عشر سنوات من حياتنا حتى أعطانا الله كل ما تمنيته وحلمت به .. وتعال الآن و"انظر" إلى شقتي فستجد فيها الكماليات .. حتى المكيف الذي يراه كل من يسير في الشارع لأنه شئ نادر في شارعنا ولقد نجح زوجي في عمله إلى حد لم أتوقعه ولم يتوقعه أهلي , وبسط الله لنا في الرزق فأديت معه فريضة الحج , وطوال سنوات زواجنا كان زوجي يأتي إلى البيت كل مساء بحصيلة عمله من النقود , وهو مال وفير غير معدود ولو أخذت منه شيئا لما أحس به زوجي , لكن الله رقيب يا سيدي .. إذ كيف أخون زوجي في ماله .. وبأي وجه ألقى الله حين يسألني عن خيانتي له .. وقد سافر زوجي في بعض الفترات للخارج وأرسل لي توكيلا للتصرف نيابة عنه في ماله فلم أقترب منه وكنت في بعض الفترات لا أملك في حقيبتي سوى خمسة جنيهات لمصروفي ومصروف الأولاد .. إذ ماذا سأفعل بالنقود وأنا سعيدة بزوجي وبثقته في .. وماذا سيغنيني المال لو فقدت سعادتي أو فقدت حب زوجي أو عشت حياة تعيسة كلها نكد وشقاء.
وماذا أقول لربي حين يسألني عن رعيتي وهم زوجي وأولادي ؟
إن رضا زوجي عني هو أكبر متاع الدنيا , وابتسامة أطفالي الأربعة تشعرني أنني من أغنى الأغنياء.
إن الزوجتين اللتين استولت كل منهما على مال زوجهما لن تسعدا بهذا المال أبدا ولن تشعرا براحة الضمير في يوم من الأيام حتى ولو اشترت كل منهما أفخر الملابس وأحدث السيارات ولن تسعد كل منهما بحياتها وأولادها ممزقون بينهما وبين زوجيهما.
فقل ذلك لهما يا سيدي وقل ذلك لكل من تبيع سعادتها مع زوجها وأولادها بمتاع الدنيا القليل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته !
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـكـــاتـــبة هــذه الــرسالـــة أقـــول :
من أمثال الرومان مثل جميل يستهويني كثيرا يقول : ما أعظمك .. أيتها البساطة !
والحق أنه مثل يلخص حكمة الحياة كلها في أقل الكلمات .. فالأهداف البسيطة في الحياة هي أكثرها حكمة وأجدرها بأن يسعى إليها الإنسان ويضحي من أجلها بتوافه الأمور التي تبدو للآخرين جليلة الشأن .
والسعادة .. وراحة القلب والضمير .. وسلام النفس كلها أهداف جليلة وترتبط غالبا بالبساطة في المطالب والطموح والأمنيات , ولا تتحقق أبدا بإغتصاب حقوق الآخرين أو الافتئات عليهم ولا بتعذيب النفس بالتطلع إلى ما لا تتيحه لنا الإمكانيات المحدودة .. أو إلى ما حجبته عنا الحياة وسخت به على الآخرين ونتصور غالبا في أوهامنا أنهم سعداء به وربما كانوا أتعس الناس ويتمنون لو نالوا بعض ما لا نشعر نحن بقيمته من أهداف الحياة البسيطة التي تستحق الاعتبار .
إن النفس المطمئنة الراضية بأقدارها .. المتطلعة بأمل لا يخيب في رحمة ربها والتي تستشعر عين الله ورقابته عليها في السر والعلن لابد أن تنال جنة الأرض قبل أن تحظى بجنة السماء .. وجنة الأرض هي سلام النفس والرضا عنها وعن أدائها لواجباتها الشريفة في الحياة وهي أيضا في سكينة القلب والضمير وما أعظمها وأنبلها من جوائز كبرى يهبها الله جل شأنه لمن أوتى الحكمة للتفريق بين ما يستحق وما لا يستحق من أجله العناء .
يا سيدتي هنيئا كل ذلك .. وهنيئا لك "كماليات" شقتك وجهاز التكييف الذي يراه كل من يعبر شارعكم .. والحق أنه ليس هو الشئ النادر الحقيقي في حياتكم وإنما الشئ النادر حقا والذي يستحق أن يتطلع إليه الآخرون بالاعجاب والتقليد هو هذه البساطة الحكيمة ..
وهذه الفطرة السليمة التي تحكم نظرتك إلى الحياة وتنعكس على علاقتك بزوجك وأولادك .. ولابد أن تثمر دائما هذه الثمار الطيبة وشكرا لك على دعوتي لأن أرى ما في شقتك من ثمار الخير والبركة والقناعة والزرق الشريف من متاع الحياة فلقد رأيته بعين الخيال .. ولمست سعادتك به بين سطور كلماتك الجميلة الخيرة .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" نوفمبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر