الثمن .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
هكذا عدت لمصر لألتحق بالجامعة مع شقيقين لي,
ومضت السنة الجامعية الأولى لي بأمان لا يخلو من بعض المشاكل لأني كنت قادمة من
مجتمع عربي مغلق وليس منفتحا كالمجتمع المصري , وتطلب مني ذلك بعض الجهد لكي أتكيف
معه , وكانت جدتي خلال عامي الأول تسكن معنا في نفس الشقة لتوفير الأمان لي
وبالرغم من ذلك فقد بدأت بعض المشاكل الجامعية البسيطة تؤثر في تأثيرا سلبيا
وانعكس ذلك علي في نوبات مستمرة من النوم بدأت تنتابني بدون رغبة حقيقية في النوم
وإنما كنوع من الهروب أو الحالة النفسية الخاصة لا أدري , ونجحت في نهاية السنة
بمجموع بسيط مع إني كنت دائما من المتفوقات دراسيا طوال حياتي وكانت أمي تعود
إلينا في إجازة نصف السنة الدراسية ويعود أبي ليمضي معنا الصيف .. وكان أخي الأكبر
يؤدي خدمته العسكرية ويعود للمبيت كل يوم معنا ويرعاني ويلبي طلباتنا بكل حب ورضا
لأنه نعم الأخ العطوف والأب الحنون لي، ثم جاءت أزمة الخليج وعاد أبي وأمي لمصر
وأمضيا معنا فترة طويلة إلى أن أنتهت ثم عاد كل منهما لعمله مرة أخري وهنا بدأت
مشكلتي فلقد انتابتني حالة غريبة من الضعف وفقدان الشهية والشعور بالكآبة بعد سفر
أمي وساءت صحتي حتى أعتقد شقيقي أن ما أعانيه هو بسبب الامتحانات ولم يكن الأمر
كذلك فعادت أمي لتراني وبقيت معي فترة حتى استرددت بعض صحتي ونجحت في الامتحان
بصعوبة ثم رجعت إلى أبي.
والمشكلة الآن هي أن أخي العطوف
قد سافر هو الآخر للعمل في نفس الدولة التي يعمل بها أبي وأمي وقد انتقلنا إلى شقة
صغيرة قريبة من الجامعة أعيش فيها حاليا مع شقيقي الأوسط المشغول بدراسته بإحدى
كليات القمة وحدنا , وأبي وأمي وشقيقي الكبير يقيمون في ذلك البلد العربي , وقد
تتصور حين تقرأ أن أسرتي مغتربة من ثلاثين عاما أن أبي وأمي قد كونا ثروة طائلة
خلال هذا العمر الطويل لكن الحقيقة هي أن رصيدنا من هذه الغربة الطويلة هو سيارة
متواضعة وشقة صغيرة بمصر نقيم فيها حاليا , وشقة أخرى لم يكتمل تشطيبها بعد وبضعة
جنيهات في البنك , ولقد طالبت أمي بألا تسافر مرة أخرى وأن تبقى معى حتى لا
تعاودني نفس الآلام التي تهاجمني من حين لآخر ولكيلا تتركني لوحدتي مع شقيقي
المشغول عني تماما بالحصول على تقدير عال في كليته ويعاملني بجفاء ووسط مجتمع
يعتبر غريبا علي ولم أتكيف معه بعد .. ولكن بلا فائدة.
وإنني أسألك لماذا ندفع نحن الأبناء هذه الضريبة القاسية للغربة .. وهل الحياة مجرد ماديات فقط وماذا يساوي مال الدنيا إذا لم تشعر بالاطمئنان والأمان بين أهلك وأسرتك وكم تساوي بسمة أولادك وهم معك وكم تساوي لحظات الرعب والفزع وهم بعيدون عنك مهما جمعت من مال ؟ إنني أرجوك أن تقول للآباء والأمهات أن الحياة أقسى من أن نحتملها وحدنا في غيابهم عنا وأن الأمان مع اللقمة الصغيرة والرضا أهم وأبقى ويبارك الله فيها كثيرا وأن يرجوهم ألا يتركوا أبناءهم يلاطمون الحياة وحدهم .. وأخيرا فإنني أرجوك أيضا أن تعرفني بصديقات فاضلات في مثل عمري وأسر كريمة طيبة من قرائك حتى لا أشعر بأنني وحيدة في الحياة لأنني أحب الناس والعشرة الطيبة والحياة الاجتماعية وأقدس الصداقة الطاهرة ولقد كانت لي صديقات كثيرات في البلد الذي كنت أقيم فيه .. لكني الآن وحيدة في بلدي ولا صداقات لي ولا توجد بين أقاربي أو أسر أصدقاء أبي فتاة في مثل عمري أتبادل معها الصداقة والإهتمام وشكرا لك.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـكـــاتــبة هــذه الــرســالة أقــول:
الأعراض التي تشكين منها تشبه
إلى حد كبير الأعراض النفسية والجسمية التي تصيب من يعانون من مرض الحنين إلى
الوطن خاصة فيما يتعلق بنوبات النوم الطويلة بلا رغبة حقيقية في النوم وفقدان
الشهية .. ومرض الحنين للوطن مرض نفسي معروف له أعراض جسمية وهو من الأمراض
القابلة للعلاج بسهولة بمساعدة الطبيب النفسي وبمحاولة الاندماج في المجتمع الجديد
واكتساب صداقات جديدة واهتمامات توثق روابط الانسان به وتمد له جذورا قوية فيه .. والعجيب
في أمرك هو أن تصابي بهذه الأعراض عند عودتك لوطنك الأصلي وليس عند اقامتك في وطن
بديل والتفسير المقبول لذلك هو أنك قد عشت معظم عمرك في البلد الآخر وارتبطت فيه
بذكريات الطفولة والصبا وبصداقات النشأة والتكوين وكل المؤثرات النفسية الأخرى.
والواضح الآن أنك تعانين من بعض الأعراض الاكتئابية وقد ضاعفت منها وحدتك مع شقيق مشغول عنك بدراسته وسفر شقيقك العطوف لينضم إلى أبيك وأمك في الغربة , والمؤكد أن بعض المساعدة النفسية من جانب طبيب متخصص سوف تفيدك في النجاة من هذه الأعراض وتقبل الأمر الواقع وتكيفك مع المجتمع الذي حكمت عليك ظروفك الأسرية بأن يكون هو المجتمع الغريب عليك وليس مجتمعك الأصيل كما يقضي بذلك منطق الأمور كما أن تفكيرك في التماس الصداقة وأنس الصحبة بين فتيات من مثل عمرك وأسر كريمة عطوفة لها فتيات مقاربات لك في السن سوف يعوضك إلى حد ما عما تفتقدينه من بعض أسرتك عنك .. وانقطاع المدد النفسي الذي تقدمه الأم دائما لابنتها الوحيدة طوال العمر ومهما بلغت بها السن , ولا شك أنني أستطيع أن أساعدك في هذا الأمر، فاتصلي بي مساء الاثنين القادم إن شاء الله .. أما نداؤك للآباء والأمهات فهو نداء صادر من أعماق الجحيم .. ولهذا فلن أضيف إليه شيئا وإنما سأضعه تحت أنظار أصحاب العقول ممن يواجهون هذا الاختيار دائما بين جمع شمل الأسرة والاكتفاء بما حققت من نجاح مادي في الخارج .. وبين الإبحار إلى ما لا نهاية في محيط الغربة الذي بلا شطآن وبلا هدف أحيانا اللهم إلا إدمان السفر إلى المجهول .. والنفي الاختياري الأبدي ولو كان ذلك على حساب تشتت الأسرة .. أو سعادة بعض الأبناء .. فلعل رسالتك وما تحمله من دلالات تعينهم على حسن الاختيار , وعلى السعي الدائم إلى جمع شمل الأسرة .. في الحل أو في الترحال .. وشكرا لك.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر 1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر