من الشرفة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984
أكتب إليك هذه الرسالة وأنا في أشد حالات الضيق بعد أن سمعت عبارة ساذجة من طفلي الصغير, ولكي أقول لك ماذا قال لابد أن أروي لك الحكاية من أولها.
الحكاية يا سيدي
أنني مهندس شاب كنت موفقا في دراستي وفي عملي عمري 38 سنة متزوج من مهندسة زميلة
لي وموفق والحمد لله في حياتي الخاصة وفي عملي. لدي ولد وبنت أسعد بهما وأشكر الله
كثيرا علي نعمته وأعيش حياة هادئة أتمتع فيها باحترام زملائي في العمل وجيراني وأقاربي,
وأعيش في مستوي معقول رغم كل شئ .. زوجتي والحمد لله طيبة ومثقفة وعاقلة نجلس معاّ
أول كل شهر ونضع ميزانية الشهر فأجمع راتبي علي راتبها ثم نحجز المصروفات الثابتة
كالإيجار والكهرباء والأقساط المتوقعة ثم أعطي زوجتي مصروفات البيت وما يتبقي بعد
ذلك أقسمة بالعدل بيني وبين زوجتي لمواصلاتها ومواصلاتي وذلك بعد حجز مبلغ صغير
كاحتياطي للنفقات الطارئة كزيارة طبيب الأطفال مثلا, وحياتنا والحمد لله منظمة إلي
حد كبير نعرف حدودنا ولنا طموحتنا الصغيرة التي نحققها عن طريق الادخار.
وكل هدف نسعى إليه
نخطط له قبلها بعدة شهور, فإذا أردنا مثلا شراء غرفة نوم للأطفال نجئ بمظروف جديد
ونكتب عليه اسمه ويضع فيه كل منا ما يستطيع الاستغناء عنه ونضع فيه أيضا أية موارد
إضافية من الحوافز في الأجور الإضافية ومنحة الحكومة في الأعياد وغيرها. ونسعد
كثيرا كلما رأينا المظروف ينتفخ ويقترب من الهدف! وكم تكون فرحتنا حين يكتمل
المبلغ المطلوب ثم نحمل المظروف إلي محل الموبيليا وندفع ثمن غرفة النوم ونحس أننا
أجزنا شيئا كبيراّ في حياتنا. وبهذه الطريقة حققنا نجاحات كبيرة. وبنينا أهرامات
صغيرة نعتز بها في حياتنا فأدخلنا طفلينا مدرسة خاصة راقية ونشتري ملابس لائقة
للشتاء والصيف, ونقضي كل عام أسبوعين في أحد المصايف عن طريق الرحلات التعاونية
للشركة التي أعمل بها, وأكملنا تأثيث شقتنا. واشترينا التليفزيون الملون.
وتسألني بعد كل
ذلك وأين هي المشكلة وأجيبك أنه ليس هناك مشكلة محددة .. لكن هناك
"مصيبة" نزلت فوق رأسي بلا ذنب فلقد كانت هناك قطعة أرض فضاء ملاصقة
للعمارة التي أقيم فيها سمعنا أن أحد الأغنياء قد اشتراها. وبدأ البناء فيها.
وخلال سنة واحدة أقيم فوقها قصر فخم وطوال فترة البناء كنا نعتقد أن الرجل يبني
فندقا من فنادق الدرجة الفاخرة ونتوجس خيفة من افتتاح الفندق والضجيج الذي سوف
يحدثه فندق يتردد عليه النزلاء في هذه المنطقة الهادئة, إلي ان انتهي البناء
والديكور وبدأ التأثيث فبدأ الشك يساورنا في أن ما يقام بجوارنا هو فندق جديد فلقد
بدأت سيارات محلات الأثاث الكبرى تأتي كل يوم محملة بأثاث لا يمكن أن يكون أثاث
فندق مهما كانت درجة فخامته, صالونات مذهبة بالصدف وبرؤوس الحيوانات وانتريهات لا
حصر لها .. وغرف نوم دائرية وبيضاوية وبكل الأشكال .. وحمامات بكل الألوان سألنا
ذات يوم حارس العمارة الريفي وهو من أقارب صاحب البناء فقال الرجل ببساطة إن
المعلم يبني "دارا" له ولأولاده.
المهم انتهي
البناء والتأثيث وجاء يوم الافتتاح وفوجئنا بحديقة القصر مزدحمة بالمعلمين
والأقارب وجاءوا بعدة عجول ذبحت علي باب القصر وغمس أحد الأتباع يديه في دم ذبيحة
ثم طبع كف يده علي باب الفيلا وعلي حائطها الخارجي كأنه يقول لنا يا ناس يا شر كفاية
قر.
واستقر الجيران في
قصرهم بجوارنا وبدأ عذابنا ! وبالرغم من أن مرحلة التأثيث قد انتهت منذ زمان إلا
أن سيارات المحلات الكبرى تأتي كل عدة أيام تحمل ثلاجات بارتفاعات لم نرها في
الأفلام وأجهزة تليفزيون وأجهزة استريو وأجهزة فيديو وشرائط فيديو بالصناديق
وكاميرات سينما وأجهزة عرض سينما.
وكل شئ
بالكوم .. أما الملابس فلا أعرف متي يلبسون كل هذه المشتريات التي تحملها سيارات
النقل وهم يعيشون في حالة مهرجان مستمر حفلات غداء وحفلات عشاء .. وخروج في صف
سيارات إلي المسارح والملاهي, أما حفلات الغداء فحدث عنها ولا حرج سيارات عليها
اسم أكبر جزار في مصر تأتي لتفرغ الذبائح وسيارات عليها اسم أكبر محلات الحلوى
تأتي لتفرغ التورتات والحلويات. وسيارات نقل تأتي لتفرغ 50 أو 60 بطيخة من حجم
الفيل. وحفلات عيد ميلاد .. وعيد زواج .. وعيد أي شئ ومطربون ومطربات وفرق موسيقية
كفرق العوالم تصدح بأغان سوقية عالم عجيب .. وضيوفه أعجب والشارع كله يهيص كلما
كانت هناك حفلة منادون خصوصيون للسيارات ينظمون المرور ويرتبون وقوف السيارات ..
وأتباع يقفون علي باب القصر وناس يتجمعون ليتفرجوا مذهولين علي أيام وليالي ألف
ليلة وليلة, ومن سوء حظنا أنهم يفعلون كل ذلك في الحديقة تحت أنظارنا, ثم هل تصدق
أن لهم مقاول زبالة مخصوص يأتي كل يوم ليحمل بسيارة أطنان الزبالة الفخمة ويرفض
الاقتراب من زبالتنا ؟
ومرة ثالثة
ستسألني وماذا يضيرك في كل ذلك وسأقول لك ماذا أضرّني بالفعل, أضرنّني الكثير يا
سيدي- وخسرت الكثير بالفعل ستقول لي ما دخلك في ذلك, وسأقول لك إن لي دخلا كبيرا
في ذلك إن لم يكن بإرادتي فبغير إرادتي فقد كنت أعيش سعيدا قبل هذه الجيرة السعيدة
ولكنني لم أعد كذلك وإذا لم تصدقني أرجو أن تزورني وسأصحبك إلى شرفة مسكني لتري
بعينك ما يجري بجواري وسأترك لك بعد ذلك الحكم. الأسرة التي سكنت بجواري عائلها
رجل .. معلم.. مازلت أعجب من أين جاء بهذه الرغبة المتأججة للاستمتاع بالدنيا.
سمعت من الحارس
أنه بدأ حياته بائعاّ سريحاّ في بلدة خارج القاهرة ثم تاجر في كل صغير .. ثم في
محل كبير ثم خلال 10 سنوات فقط لا غير تحول من تاجر كبير إلي مليونير يستطيع أن
يبني فيلا لا يقل ثمنها عن عدة ملايين. وليست هذه هي القضية .. لكن القضية هي
أسلوب حياة الجيران الجدد فهم يركبون 3 سيارات مرسيدس من نوع التمساحة وإلى جوارها
عدة سيارات صغيرة. فرط. للبنات الصغيرات وهم يفتحون الستائر في الصباح فتتشعلق
سيدات العمارة ورجالها –وشرفك- يتفرجون على ما يظهر من خلف الزجاج من التحف
والرياش والنفائس.
بعد وصول جيران
الهنا إلي حينا فقد خسرت إحساسي بالتفوق والامتياز وبأن المستقبل مفتوح أمامي لأني
مهما صنعت ومهما تعبت وخدمت عملي بإخلاص لن أحقق واحدا علي مليون مما أراه كل يوم
.. وخسرت هدوء نفسي وإحساسي بالرضا عن حياتي وعن بيتي وأسرتي .. لأني وجدت نفسي
بدون إرادة موضوعا موضع المقارنة الظالمة مع من لا طاقة لي بهم.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
هذه هي الرسالة
التي نقلتني فجأة إلي هذا العالم العجيب وهذه المشكلة الأكثر عجبا. إنني يا صديقي
أشفق عليك مما تعانيه وأفهم تماما ما تشعر به من إحساس بالعجز والإحباط واللاجدوى
بسبب هذه الصورة الجديدة للحياة التي اقتحمت عليك حياتك الهادئة, وكادت تفسدها
عليك فكل أحاسيسك هذه أحاسيس مشروعة ومفهومة ولا يجدي هنا أن أقول لك ماذا يهمك من
الأمر ماداموا لا يعتدون عليك في شئ.. فالحق أنهم يعتدون بالفعل علي حياتك الهادئة
وعلي مثلك العليا وقيمك بهذا الإنفاق الاستفزازي تحت بصرك وبصر أسرتك.. ومن هنا
تأتي أهمية إدراك الأثر الاجتماعي للسفه والإنفاق الاستفزازي وسط بحيرة من الحرمان.
والمشكلة أن
معظم أثرياء الطبقة الجديدة لا يدركون القيمة الأدبية والاجتماعية للمال ولا أثر
هذا الإنفاق السفيه علي حياة الآخرين .. بدعوى أنه مالهم وهم أحرار فيه. وهذا هراء
لأنك لا تستطيع أن تحرق ألف جنيه بالنار أمام عين جائع بغير أن تخشي علي حياتك منه
رغم انه مالك " وأنت حر فيه" لأنك آذيت بذلك آخر يتطلع إلي جنيه واحد
منه بحرقه أمامه. ولو اعتدي عليك هذا الجائع ساعتها لقدرت المحاكم هذه الظروف
واعتبرتها ظروف مخففة للعقاب, لذلك تتضاعف أهمية السلوك الحضاري والتصرف الحضاري
في المال. لكن من يقرأ ومن يفهم؟
وبرغم كل ذلك أقول
لك يا صديقي إن السعادة تنبع من داخل الإنسان ولا تأتي إليه من خارجه. وأن العقلاء
من الناس من يرون الأمور في أوضاعها الطبيعية .. ويدركون أن لكل إنسان حياته ..
ولكل إنسان نصيبه من الدنيا .. ومن لا ينشغلون بمراقبة الناس ومن راقب الناس مات
غماّ كما يقولون.
والسعداء من الناس
من يرون ما في أيديهم ويرضون عنه ويشكرون الله عليه ثم يسألونه من فضله المزيد..
ولا بأس في ذلك فالله يحب أن يسأل. لكن بعض الناس يا صديقي لا يرون إلا ما في أيدي
غيرهم.. ولا يرون إلا ما ينقصهم ويتعذبون به.. وهؤلاء عذابهم طويل لأنه لا حد
لاحتياجات الإنسان ولا نهاية لها. ثم إنك نسيت في انشغالك بمراقبة هؤلاء كل ما
لديك وهو كثير كثير وينبغي أن تشكر الله عليه.. فلديك حياة عائلية موفقة وزوجة
مخلصة وعاقلة وطفلان تسعد بهما النفس.. وعمل مرموق موفق وحياة اجتماعية معقولة
يحلم بها مئات الآلاف وصحتك جيدة والحمد لله أنت وأسرتك.. فماذا تريد أكثر من ذلك؟
رابط رسالة الأستاذ فلان تعقيبا على هذه الرسالة
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر