حياة جديدة .. الأستاذ فلان .. رسالتان من بريد الجمعة عام 1984

 

حياة جديدة .. الأستاذ فلان .. رسالتان من بريد الجمعة عام 1984

حياة جديدة

تلقيت في بريدي هذا الأسبوع رسالتين الأولى من طبيب شاب من القاهرة، والأخرى من موظف حكومي في الأربعين .. وبالرغم من أن كل رسالة منهما تعرض مشكلة مختلفة وتعكس صورة مختلفة للحياة .. فلقد أحسست أن هناك خيطا رفيعا يربط بينها.. وبأن الرسالتين تتجاوران بغير قصد وبغير سابق معرفة!

تقول الرسالة الأولى:

أنا يا سيدي طبيب شاب حاصل على درجة الماجستير في أحد فروع الطب وسأعين قريبا بإذن الله في هيئة التدريس بالجامعة.. والحق أنني أشكر الله على توفيقه لي في دراستي وعملي كما أشكره كثيرا على أشياء أخرى عديدة فأسرتي أسرة محترمة.. وأنا شاب حسن المظهر وسیم مثقف ثقافة عامة لا بأس بها.. وأمتلك شقة تمليك في إحدى عمارات مصر الجديدة وأقود سيارة صغيرة جديدة وعضو في ناد معروف من نوادي العاصمة.. وليست لدي مشكلة مادية ولا مشكلة صحية والحمد لله .. وأنا شاب متدين لا أدخن ولا أرتاد أماكن أو أجواء أحب ألا يطلع عليها أحد، فما هي المشكلة أذن؟

 

المشكلة أنني یا سیدی كانت لي منذ سنوات وكأي إنسان تجربة زواج لم يرد لها القدر النجاح والاستمرار، فلقد كانت طباعي مختلفة تماما عن طباع زوجتي وآرائي مخالفة لأرائها.. وعشت في تعاسة شديدة أفكر ماذا أفعل؟ هل أواصل الحياة مع زوجتي وكل الدلائل تقطع بأن الزواج لن يستمر، وأنه سوف يتحطم على صخرة الفشل لكن بعد أن نكون قد أنجبنا أطفالا يتعذبون بانفصالنا ويضيعون بيننا.. أم أقدم على الانفصال قبل الإنجاب.. فأنقذ نفسي.. وأتيح لزوجتي فرصة أن تجد من يفهمها وتفهمه.. مادمنا عاجزين عن التفاهم.. فنخرج نحن الاثنين بأقل الأضرار الممكنة من هذه التجربة المؤلمة.

 

فكرت في ذلك طويلا ثم حزمت أمري واتخذت قراري بالانفصال والطلاق رغم قسوته.. لكي لا أستمر في حياة فاشلة مصيرها إلى الانفصال مهما طال الزمن. وكان قراري في ذلك كقرار الطبيب ببتر عضو من أعضاء الجسم إذا رأى في بقائه خطرا يهدد حياة المريض، وتم الطلاق وأديت لزوجتي السابقة كل حقوقها.. وواصلت حیاتي وبعد فترة وجدت نفسي وحيدا وفي حاجة لأن أتزوج وهنا بدأت المشكلة فكلما تقدمت لفتاة وعرفت مني أنني قد سبق لى الزواج والانفصال نفرت مني وأعلنت عدم رغبتها في إتمام الزواج مني.

 والغريب أن الرفض قد جاء من فتيات كنت أظنهن راجحات العقل، فبعضهن کن طبيبات وبعضهن حاصلات على مؤهلات عليا، وكل جريمتي أمامهن أنني شاب صاحب سوابق في الطلاق، وبالتالي فلا أمان لي حتى صرت کالمصاب بمرض معد يخاف الناس أن يلمسوه، ولماذا كل ذلك إلا لأنني أصر على أن أبدأ حياة جديدة على أساس من الصدق فلا أخفي نبأ زواجي السابق عمن أتقدم لها وإنما أصر على مفاتحتها به في اللقاء الأول.. وهل ارتكبت جريمة حقا بالانفصال عن زوجتي السابقة وهل الفشل في الزواج هو نهاية الحياة...؟

 

 إنني والحمد لله لا أحسد أحدا على شيء لديه .. لكن أنظر وأتأمل حكمة الخالق في أمري فأنا أملك كل المقومات المادية لبناء أسرة سعيدة وبيت صالح ولا ينقص هذا البيت سوى شيء واحد هو الزوجة والأبناء وغيري لا يملك من مقومات الحياة شيئا إلا الزوجة والأبناء وكلانا غير راضي وفي حاجة إلى ما لدى الآخر .

إنني أتعذب بوحدتي وأتخيل السنوات تمضي بطيئة بلا حل لمشكلتي.. وكل عام يمر تتعقد مشكلتي وأفقد الثقة في نفسي أليست هذه دنيا غريبة لا تعطى كل شيء لمن يريد؟

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :






الأستاذ فلان

 

أما الرسالة الثانية فلقد تلقيتها ضمن رسائل عديدة تعلق علي قصة المهندس الشاب التي نشرتها في الأسبوع الماضي بعنوان من "الشرفة" , وهي رسائل قيمة سأنشر بعضها في الأسبوع القادم لكنني إخترت منها هذه الرسالة..

" أكتب إليك هذه الرسالة لأقول للمهندس الشاب الذي يشعر بالضآلة بسبب جيران الهنا الذين يسكنون القصر المنيف المجاور لشقته .. والتي يطل من شرفتها عليهم فيشاهد مهرجانات للبذخ والسفه .. أقول له يكفيك أن لك شرفة تستطيع أن تطل منها على هذا العالم العجيب فتستمتع فلم لا تعتبر ما تراه مسرحية فكاهية أو فيلما يتجدد كل يوم فتتسلى بدلا من أن تحزن وتنكسر نفسك على حد تعبيرك.

 إنني أقول ذلك وأرجو ألا يتصور المهندس الشاب إنني من أفراد الطبقة الجديدة أو أدافع عنها .. فالحق إنني من أفراد الطبقة القديمة قدم التاريخ .. وهي طبقة الأجداد والأسلاف من البسطاء .. بل إنني أنظر من موقعي فيها إلى حياة هذا المهندس الشاب غير الراضي عن حياته كما ينظر هو مدهشا إلى حياة جيران الهنا.

فأنا يا صديقي موظف حكومي صغير بمجلس مدينة سرس الليان ومرتبي 54 جنيها كل شهر ولا دخل لي غيره ويخصم من مرتبي كل شهر ستة جنيهات ونصف لسلفه المدارس , وخمسة جنيهات لاستمارة الأقمشة فيكون الباقي هو 42 جنيها بالتمام والكمال لي ولزوجتي الأصيلة الطيبة و6 أولاد في المدارس .. ورغم ذلك نحمد الله ونشكر فضله ولا نشكو كثيرا وإن كنا نكافح.

 

إن المهندس الشاب في رسالته يقول أن طفله يسأله.. لماذا ليست لأبيه فيلا وسيارات كالجيران المترفين وأنا أقول له أن أولادي يسألونني ما هو طعم العنب أو الكمثري يا بابا لأنهم يتفرجون عليها في المحلات ولا يعرفون طعمها حتى الآن.

وقد أتألم لكني لا أتوقف طويلا أمام ذلك لأنني أعيش الواقع والمهندس الشاب عنده تليفزيون ملون, وأنا والحمد لله عندي راديو وسرير وكنبتان بلديتان , لكنه ليست لي شرفة أطل منها على أحد لأنني أسكن الدور الأرضي من بيت في حارة لا تستطيع أن تدخلها سيارة.

وأنا إنسان مثل هذا المهندس ولدي إحساس بالمسئولية تجاه أسرتي وأبنائي وأتمنى لهم حياة أفضل لكنني أعيش الواقع وأشكر الله على نعمته كل يوم فأنا أفطر فولا مدمسا كل صباح وأتناول السالمون في الغداء وأتعشى بالطعمية, ومرة كل أسبوع نشتري نصف كيلو من اللحم ويكون هذا اليوم بمثابة عيد توقد فيه بوابير الجاز وتفوح رائحة الطبخ من شقتنا السعيدة .

 

وإذا كان المهندس الشاب يشرب المياه من ثلاجته.. فأنا عندي زير للماء المثلج الطبيعي من الهواء وطبلية خشبية نجتمع حولها 3 مرات كل يوم, وابنتي الكبرى في الإعدادي موفقة في دراستها والحمد لله , ولها بدلة زرقاء واحدة تذهب بها إلى المدرسة منذ 3 سنوات وفي البدلة بالطبع بعض الثقوب الصغيرة أو الكبيرة, لكنها والحمد لله لا تسألني شراء بدلة غيرها لأنها تعرف جيدا أنها لن تفوز ببدلة أخرى إلا في المدرسة الثانوية إن شاء الله.

 

أما ابني الثاني في الصف الأول الإعدادي فيذهب إلى المدرسة ببنطلون بيجامته من الكستور الشعبي وقميص من الكساء الشعبي وشبشب بلاستيك وهو موفق في دراسته ولي بعد ذلك طفلان بالابتدائي اشتري لهما المرايل من فرع محلات صيدناوي ب 55 قرشا للمريلة, أما الأحذية فنحن مشتركون جميعا بما فينا السيدة زوجتي الطيبة المكافحة في فرع باتا للأحذية الشعبية.

إنني أرجو يا سيدي أن تتيح لي فرصة نشر رسالتي هذه لكي يخفف عني نشرها بعض عناء الحياة وأحس أنني أستطيع أن أعبر عن نفسي لكني أرجو ألا تتصور أنني أكتب طالبا شيئا من بريد الأهرام .. أو لأنني أنتظر إحسانا من أحد فهذا ما لا يخطر لي على بال ولا أقبله .. فأنا موظف في الحكومة .. ورجل محترم يقولون عني .. الأستاذ فلان!

لكني فقط أردت أن أقول عن طريق نافذة البريد للمهندس الشاب أن السعادة ليست دائما في المال ولا الفيلات, ولا العربات لكن السعادة في الرضا والصحة وراحة البال وفي أن تحس بأن هناك أناسا يحبونك وتحبهم وبأن لك أصدقاء يشتاقون إليك وتشتاق إليهم والسلام عليكم ورحمة الله.

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

إنك يا صديقي كما تقول عن نفسك وأكثر .. فأنت فعلا رجل محترم ..لأنك تحترم نفسك وتحترم حياتك رغم قسوتها وصعوبتها التي تنوء بحملها الجبال .. وأنت أيضا رجل صابر ومكافح بكل معنى الكلمة لأنك تكافح كفاح الأبطال لمجرد مواصلة الحياة في الزمن الصعب وبرغم من ذلك فلا تحمل نفسك مرارة لأحد أو ضد أحد.. بل أنك قد استطعت بفطرة سليمة ووجدان سليم أن تدرك أن السعادة ليست في المال والفيلات فقط لكنها في الصحة والرضا وهدوء البال وفي أن يحبك الآخرون وتحبهم ..إنها يا صديقي نظرة متفلسفة رائعة لم يرتفع إليها كثيرون من مدمني التشكي والشكوى من كل شئ إنك أيضا رجل حكيم .. يا أستاذ فلان!

رابط رسالة من الشرفة 

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984

كتابة النص من مصدره / نيفين علي وبسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات