الشرود .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أنا سيدة في العقد الثالث من
العمر طلقت منذ 4 سنوات بعد زواج دام سبع سنوات ولي ابن وحيد عمره 11 عاما ,
وعندما تم الطلاق كان ابني في الصف الأول الابتدائي بمدرسة راقية من مدارس
الاسكندرية , فخطفه أبوه من مدرسته وأودعه منزل أسرته بمدينة قريبة من الثغر وتركه
لرعاية أمه التي يبلغ عمرها 75 عاما ثم سحب أوراقه من المدرسة الراقية وقدمها إلى
مدرسة خاصة أخرى بالإسكندرية كان على صلة وثيقة بصاحبتها .. فأصبح تلميذا فيها على
الورق فقط بينما يقيم في منزل جدته بمدينة أخرى وبغير أن يرى المدرسة الجديدة مرة
واحدة , وبالرغم من ذلك فلقد ظل ينجح صوريا وينتقل من عام دراسي للعام الذي يليه
بلا دراسة ولا ضمير, فاضطررت إلى اللجوء للقضاء لاسترداد ابني وانقاذ مستقبله من
الضياع , ونظرا لأنه في سن حضانتي له , وأقمت الدعوى ودخت الدوخات السبع بين قاض
شاب "عينه زائغة" وضابط شرطة يريد "موعدا" معي وأشياء أخرى
كثيرة مؤسفة لا أريد أن أستعيد ذكراها الكريهة الآن , إلى أن أسترددت ابني بحكم
المحكمة بعد معاناة طالت 3 سنوات لأني "اللهم أحفظني من كل سوء" لم أفتح
مخي من البداية مع القضاء والشرطة ! وتسلمت ابني في مارس من هذا العام وكرست له كل
وقتي وجهدي ومالي لتعويض كل ما فاته من تحصيل دراسي , ووفرت له المدرسين الخصوصيين
, وألحقته بدورات بالمعهد البريطاني لتعويده على الطرق الصحيحة في الأكل والشرب
والتعامل , لكي أخلق منه طفلا سويا , وجلست معه ساعات طويلة لأستشف رأيه في حياته
الجديدة فوجدته والحمد لله سعيدا بإقامته معي ولا يريدني أن أرجع لأبيه , لأنه حسب
تفكيره قد حرمه مني بلا سبب , ولم تكن العودة لأبيه تخطر لي على بال بأي حال من
الأحوال بعد ما عانيته من طوال سبع سنوات فاسترحت نفسيا لسعادة الطفل ولإحساسه
بالفارق الكبير بين معاملتي له ومعاملة جدته له.
لكن المشكلة الآن يا سيدي هي أن
ابني هذا كان قبل طلاقي من أوائل مدرسته في الصف الأول الابتدائي , أما الآن فهو
بالرغم من المدرسين الخصوصيين والساعات الطويلة التي أقضيها معه يوميا لمساعدته في
الدراسة وبالرغم من ذكائه واستيعابه , فإنه بعد ساعات معدودة من ذلك ينسى كل شئ
ولا يتذكر شيئا , كما أنه دائم السرحان والشرود , وقد جاءت نتيجة امتحان الفترة
منذ أسبوع , فإذا به راسب في جميع المواد ما عدا اللغة العربية.
إنه الآن في الصف الخامس الابتدائي وكل
الامكانيات متوافرة له وقد مضت على اقامته معي 8 شهور حتى الآن , أفلا يكفي ذلك
لإزالة حالة اللامبالاة التي كان يعيش فيها !
إن نسيانه سوف يفقدني عقلي ..
وأنا في حاجة إلى الاستنارة بآراء الآخرين في أمره وأمري معه .. فماذا أفعل
لإنقاذه وهو أملي الوحيد في الحياة .
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـــكـــاتــبــة هــذه الــرســالــة أقـــول:
رسالتك يا سيدتي تحمل مؤشرات
عديدة لأمراض اجتماعية خطيرة ترجع كلها إلى "أب" واحد هو افتقاد روح
العدل في المعاملات بين البشر , ابتداء من اغتصاب مطلقك لحقك في حضانة طفلك إلى
إلحاقه صوريا بمدرسة أخرى بلا أي تقدير للمسئولية التربوية عنه أو للضمير المهني
من جانب من ساعدوه على ذلك ولمجرد ابعاده عن تناول يديك .. انتهاء بمحاولة بعض من
تفرض عليهم مسئولياتهم أن يكونوا عونا للحق والعدل , "ابتزازك" أخلاقيا
واقتضاء ثمن هذا الحق المشروع منك ومن شرفك وحريتك الشخصية , والضحية في النهاية
لكل هذه الأمراض هي هذا الطفل البرئ الذي تشتت ذهنه بين حياته الأولى مع أبوين
طبيعيين وحياته الثانية في حضانة جدته دون رعاية كافية وحياته الثالثة وحيدا مع
أمه , ففقد الاهتمام بكل شئ واهتزت الرموز والمعايير أمام ناظريه حتى نصحك
"خلافا للمألوف" بألا ترجعي لأبيه , وهذه هي المأساة الحقيقية وليست فقط
نتيجة امتحان الفترة المخيبة للآمال .. ولا شك أنه سوف يحتاج إلى فترة أخرى من
الوقت لكي يستقر لديه الاحساس بالأمان , ويستعيد القدرة على الاهتمام بالأشياء ,
الذي فقده مع اهتزاز القيم والرموز أمام ناظريه , والاهتمام هو دائما بداية الحماس،
والحماس هو أساس التركيز الذي يعين الذاكرة على أداء مهامها .. والإرادة الذاتية
هي أكبر حافز للإنسان على أن يتذكر ويستدعي الحقائق والأشياء من مخزن الذاكرة ,
لهذا فإن أفضل وسيلة لتنشيط الذاكرة هي استثارة حماس الطفل واهتمامه بما يفعل , بل
وحبه له , وهناك تدريبات خاصة للذاكرة تستطيعين مساعدته على إجراء ما يتناسب منها
مع مرحلته السنية , وسوف أرسل إليك كتاب صغيرا عنها ربما يحقق له بعض الفائدة ,
لكن الخطوة الصحيحة الأولى في هذا المشوار الطويل هي أن تستشيري طبيبا أخصائيا في
المخ والأعصاب عسى أن يكون لنسيانه أسباب عضوية يمكن علاجها طبيا . وأن تستشيري
بعد ذلك أحد خبراء التنمية الفكرية ليشير عليك بأفضل الطرق للتعامل معه واستثارة
حماسه وزيادة قدرته على التركيز , ويمكنك الاتصال بأحدهم في أي مدرسة من مدارس
التنمية الفكرية الراقية واستطيع ارشادك إلى إحداها بالاسكندرية إذا أردت , فأبدئي
خطوتك على الطريق الطويل ولا تفقدي صبرك معه , فالإرادة تصنع المعجزات والحب أكثر
! .. وبإرادتك وحبك لهذا الطفل المحروم سوف تنقذينه من الشرود والضياع , وقد
فعلتها قبلك أم عظيمة قوية الإرادة وشديدة الحب لابنها مثلك , أعادوا إليها ابنها
ذات يوم ونصحوها بألا ترسله إلى المدرسة مرة أخرى لأنه غبي ولا يستوعب دروسه ولا
يحفظ شيئا، فلم تبك ولم تستسلم وإنما قالت لأبيه بإصرار : إبني ليس غبيا .. بل هم
الأغبياء وسوف أعلمه بنفسي ثم نهضت بإرادة من حديد لتعليمه دروسه في البيت فأصبح
هذا الغبي المطرود من المدرسة توماس اديسون ساحر الكهرباء ومخترع المصباح
الكهربائي وعشرات المخترعات الأخرى التي ننعم بها الآن , وبعد أن حقق مجده ونجاحه
وشهرته وثراءه العريض سألوه عن سر عبقريته فقال صادقا : لقد كانت أمي هي التي
صنعتني ! فاصنعى أنت أيضا طفلك , بصبرك وإرادتك وحبك , وسوف تنجحين في تحقيق هذا
الهدف النبيل بإذن الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر 1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر