حزب المعارضة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
وبسبب وحدته فكر أبي في الزواج
من سيدة تقاربه في السن لكي ترعاه وتؤنس حياته , وعرض علي الفكرة فوافقته عليها
على الفور، لأنها حياته الخاصة ومن حقه أن يعيشها بالطريقة التي يراها مناسبة له
وفي حدود ما شرعه الله خاصة وأننا جميعا مشغولون عنه بأسرنا وآبنائنا , فتشجع أبي
بموافقتي وبدأ يناقش أبناءه في مشروعه ويأخذ عليه الأصوات لينال موافقة الجميع قبل
الاقدام عليه .. ففوجئت بأننا قد أنقسمنا إلى فريقين أحدهما مؤيد والآخر معارض .. وللأسف
فإن المعارضين أكثر من المؤيدين.
وبدأ حزب المعارضة كما أطلقت عليهم للأسف
بالهجوم على السيدة التي اختارها أبي , والسخرية منها بالرغم من أن ظروفها مماثلة
لظروف أبي , وهي أرملة وأبناؤها قد تزوجوا وانفصلوا عنها وتعيش وحيدة في منزلها ,
أي أنها لا تريد الزواج بأبي طمعا في الشقة ولا في المال لأنها في غنى عن كل ذلك ,
وإنما تريده أملا فيمن يؤنس وحدتها فقط.
ووجد أبي نفسه حائرا في أمره ..
هل يتزوجها ويخسر أولاده المعارضين الذين يهددونه بالمقاطعة وعدم دخول بيته إذا
تزوجها .. أم يصرف نظره عن المشروع كله ويبقى في وحدته إلى أن يأذن الله في أمره
.. لهذا فإني أرجو أن تشير علينا برأيك الصريح في هذه المشكلة .. فإذا كنت من
الموافقين على زواج أبي فأرجو أن توجه كلمة إلى حزب المعارضة لاقناعهم بذلك , وإذا
كنت من المعارضين له , فأرجو أن تقنعني أنا بصواب هذا الرأي وبحكمة تقييد حرية
إنسان بقيود الآخرين التي يفرضونها عليه .. ولسوف أتقبل رأيك بكل احترام مهما كان
موقفك , لأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية وشكرا لك.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
ولـــكـــاتـــبة هـــذه الــرســـالــة أقــــول:
حال بعضكم كحال فقهاء بيزنطة
الذين كانوا يتجادلون في البيضة والدجاجة أيهما أصل الأخرى , والسلطان محمد الفاتح
يدك أسوار القسطنطينية بمدافعه فلا يخرجهم ذلك من جدلهم أو لجاجهم !
فالمعارضون يتجادلون ويسخرون
ويتفننون في إبداء الاعتراضات , والأب المنصرفون عنه إلى لجاجهم يكابد وحدته
واكتئابه منفردا في مسكنه وربما بغير أن يفكر أحدهم في أن يعطيه من بعض وقته ما
يخفف عنه شيئا من عنائه واكتئابه , وكل ذلك والعمر يتسرب من بين الأيدي , ومدافع
الغيب تقترب من هدفها المحتوم .. فأي رحمة بالأب هذه .. وبأي منطق إنساني يبرر
هؤلاء موقفهم من أبيهم ؟
إن فقدان الرفيق محنة لا يدرك
مرارتها إلا من كابدها , ومحنة الترمل والوحدة في مسكن واسع شهد من قبل الأطفال
الكثار يدرجون فيه ويشبون وتتشابك متاعبهم بمتعتهم , أقسى على النفس من وحدة العزب
الذي لم يعرف الحياة الأسرية ولا الأبناء منذ البداية , رغم مرارتها أيضا , لأن من
ترك شيئا باختياره عاش بدونه , أما من حرم من شئ اعتاده وألفه على رغمه فلا يستطيع
بسهولة أن يحتمل حياته بغيره .. والرجل الفاضل لم يقصر في حق زوجته الراحلة ولا في
حق أبنائه , وحين ضاق بوحدته لم يتخل عن حكمته , ولم يفكر في الزواج من فتاة أو
سيدة صغيرة طائشة , وإنما اختار لنفسه سيدة مقاربة له في السن ومشابهة له في
الظروف الاجتماعية والعائلية , وزواج الإيناس الذي يلتمس فيه كل طرف لدى الآخر أنس
الصحبة ودفء المشاركة الإنسانية , أمر معروف ومشروع بل ومفضل أيضا في بعض الظروف
حماية للنفس من خطوات الشيطان .. فماذا في كل ذلك ؟
وأين الرحمة بالأب من الأبناء
الذين بذل لهم الرحمة والعطف طوال العمر , ومازال يقدم لهم عطاءه العاطفي طوال
العمر والأبوي فيحرص على زيارتهم بدلا من أن يزوروه , والاتصال بهم بدلا من أن
يتصلوا به , بل ويحرص على أن يستشيرهم في أمره ويأبى على نفسه أن يقدم على ما أحله
الله له إلا بموافقتهم جميعا ورضاهم.
إن الفضل ينبغي ألا يقابل إلا بالفضل , وحرص
أبيك ألا يقدم على ما أراد إلا برضا كل أبنائه , هو فضل منه يذكر له ويشكر عليه ..
وينبغي أن يقابله الأبناء بكل التأييد والمساندة لما يرى هو فيه خيره حتى ولو لم
يرتح البعض منهم نفسيا أو عاطفيا لتلك الخطوة , فليس العطاء هو أن نبذل للأعزاء
مما نحب فقط، بل ومما نكره أحيانا وتزداد قيمة العطاء كلما ازداد حجم التضحية فيما
نقدمه للآخرين , وزواج أبيك بمن تليق به في النهاية لا يسئ إلى أبنائه في شئ , ولا
يحرج أوضاعهم الاجتماعية , وتهديد البعض له بمقاطعته إذا تزوج إثم يحاسبهم الله
عنه أشد الحساب , ذلك أنه حتى الأب الخاطئ لا يحل لأبنائه أن يقاطعوه ويحرموه من
مودتهم ورعايتهم .. فكيف يكون الحال بأب فاضل كأبيك ؟
يا سيدتي إن رأيي الصريح هو أن
حزب المعارضة هذا لابد أن يراجع مواقفه ويناقش الأمر كله على ضوء سعادة الأب
وراحته الشخصية , وليس على ضوء اعتبارات أفراده الأنانية والشخصية وحدها .. وأنه
لابد أن تبذلي بعض الجهد الإضافي مع أفراده من غير الغلاة في المعارضة لاجتذابهم
إلى فريق المؤيدين , والاستقالة من حزب المعارضين , فإذا حدث ذلك ولابد أن يحدث
خلال وقت قصير, فلسوف تعطي الأغلبية موافقتها ويصبح من حق أبيك أن ينفذ مشروعه
بأغلبية الأصوات وليس ضروريا أن يحصل على الاجماع وإذا لم يحدث ذلك وهو ما أستبعده
, فمن حق أبيك أن يقدم على ما أراد مطمئنا إلى أن الأقلية الرحيمة معه وإلى أنه قد
استنفد كل الوسائل الأبوية والدستورية لتمرير مشروعه العادل , فإذا أفاقت المعارضة
إلى رشدها بعد قليل وأيدته فيما أحله الله له .. ولا يضيرهم في شئ .. فلسوف يقربهم
من رضا ربهم كثيرا أن يباركوا زواجه ويصلوا رحمه ويرعوا حقه وحق شريكة حياته
الجديدة عليهم , أما أنت يا سيدتي فجزاؤك عظيم عند ربك لرحمتك بأبيك وتقديرك
لظروفه ومساندتك الأدبية والانسانية له وشكرا لك.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" نوفمبر 1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر