الأغلال .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

 

الأغلال .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

                           الأغلال .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991  


 أكتب إليك لأعلق على رسالة نشرتها منذ فترة بعنوان "الجنية الذهبي" تروي فيها سيدة شابة قصتها مع مديرها المتزوج ذي الأبناء التي أنتهت بزواجها منه ورفض المجتمع لهذا الزواج واضطرارها للاستقالة من العمل وامتناع زوجها عن اصطحابها معه إلى أية زيارات عائلية تجنبا لنظرات الرفض في عيون الآخرين .. وقد رأيت أن أكتب إليك بقصتي لأطلعك على الجانب الآخر من مثل هذه القصة القديمة الجديدة التي تتكرر من حين إلى حين .. فالمنتقدون يلقون دائما باللوم على الرجل المتزوج ذي الأبناء الذي يسلم قياده لأهوائه .. ويتهمونه خاصة إذا كان من رجال الأعمال بأنه ينصب شباكه على من تعمل معه , لكنك تزيد على ذلك لومك للفتاة التي تغري رجلا متزوجا وعنده أولاد أو تستسلم له بدلا من أن تتجه بمشاعرها العاطفية إلى شاب في مثل سنها وتكافح معه إلى أن يبنيا عشهما ولو بعد سنوات .. ومن أجل هذا بالذات أردت أن أقص عليك قصتي لتسمع أيضا صوت الرجال إلى جانب صوت السيدات اللاتي يعلقن على هذه القصص بلوم الرجل وحده دائما .. فأنا يا سيدي رجل جامعي مثقف ومتعلم وعملت لفترة طويلة بالقطاع العام , ولأن معظم أفراد أسرتي يعملون بالتجارة فقد استقلت من القطاع العام وافتتحت لنفسي متجرا وأنا بالطبع متزوج وعندي أبناء , وبعد أن افتتحت متجري احتجت إلى سكرتيرة فجاءتني فتاة حاصلة على دبلوم التجارة على قدر كبير من الجمال وسلمتها العمل، ومنذ اليوم الأول لعملها معي وأرجو أن تصدقني في ذلك بدأت في نصب شباكها حولي بالرغم من أنها تصغرني بخمسة عشر عاما وتعرف أني متزوج وعندي أبناء ولا أستطيع مهما حدث أن أضحي بأسرتي وأبنائي .. وكالعادة وقعت في غرامها فأصبحت تلازمني في غدوي ورواحي وفي سيارتي، وأسرتها تشجعها على ذلك وتقدم لي الغطاء المحترم لملازمتي لها في كل مكان وفي كل مناسباتها العائلية بإدعاء أنني "خالها" , وهكذا تماديت في هذه العلاقة إلى أن سقطت في الخطأ والخطيئة معها .. فبدأ الجميع يبتزونني بلا حياء , ورفضت إصلاح خطئي بالزواج منها خشية على زوجتي وأولادي وأبديت استعدادي للتضحية بأي مبلغ من المال مقابل ذلك فرحبت الفتاة "لاحظ هذا" باستمرار العلاقة مؤكدة أن الأمر ليس مشكلة بالنسبة لها وأنها تستطيع إيجاد الزوج في أية لحظة تريده فيها ! وهكذا تقدم لها بعد فترة قصيرة شاب لا أعرف بالضبط مدى علمه بحقيقة الأمر , لكني أعرف على الأقل أنه إنضم بعد قليل وبشكل غير مباشر إلى دائرة إستغلالي , وأنا مستسلم لكل ما يطلبون بلا أية قدرة على الرفض والمقاومة .. ولن تصدقني إذا ما صارحتك بما ضحيت به وما قبلته في سبيل التخلص من نزوتي هذه لكنه يكفي أن أقول لك انني لو كنت لا قدر الله قد أدمنت الهيروين الذي يبدد الثروات في لمح البصر لما كنت قد خسرت ما خسرت من مال وصحة واعصاب خلال تلك الفترة العصيبة .. فقد عينت خضوعا لضغط الفتاة هذا الشاب في وظيفة بالمتجر لا احتاج إليها بعد الظهر أدفع له مقابلها راتبا يزيد على راتب أقرانه وتمت الخطبة فتحملت كل تكاليفها , بالطبع من أتفه شئ إلى الفستان الجميل الذي ظهرت به الفتاة ثم طولبت بعد الخطبة باحضار الشقة للزواج السعيد وأين العجب في ذلك وخال العروس على شئ من اليسار .. وربنا يخلي خالها فقمت صاغرا وذليلا بإيجاد الشقة ودفع اللازم وأنت تعرف كم يتكلف ذلك .. والشقة جميلة ولطيفة لكنها تحتاج إلى إعادة تشطيب لكي تليق بالمقام السامي .. فمن لذلك سوى العبد الذليل الذي لا يستطيع أن يقول لا ومن لشراء "الجهاز" الذي سيؤثث عش الأحلام الجميل سواي وبأحسن مستوى من الإبرة إلى الصاروخ ومن "هون" المطبخ إلى سخان الحمام .. وهل "لأب" مثلي أن يبخل على ابنته العروس الجميلة بشئ أو يرفض أن يشرفها أمام عريسها ؟! بل لقد طولبت والله العظيم بإحضار فستان الزفاف من الخارج مع أن أسرتها كلها لم ترتد فيها عروس فستان زفاف يزيد ثمنه عن مائة جنيه مع المبالغة .. لكن هل يستطيع المغلوب على أمره أن يبدي اعتراضا أو يقترح تشجيع الصناعة المصرية ؟ إذن فليأت فستان الزفاف المستورد بمبلغ كبير وكلي ثقة أنه سيباع في اليوم التالي للزفاف بنصف ثمنه وستقبض الأسرة السعيدة بضعة مئات أخرى من دمي لتضيفها إلى ما سبق أن إمتصته مني .. وكل ذلك والشاب لا يسأل من أين لكم هذا .. ولا يلاحظ الفارق الواضح بين مستوى الأسرة وبين هذه "المعجزات" التي تتم تحت بصره كأن أسرة فتاته تملك مصباح علاء الدين .

وكانت النتيجة أن ثمرة تعبي ومجهودي خلال 10 سنوات من العمل المضني بالتجارة .. قد تسربت بكل سلاسة وهدوء من بين أصابعي واستقرت في هذا العش الجميل .. وأنا في حالة استنزاف مستمرة ولا أقدر على الرفض أو المقاومة كمن ينزف دمه أمامه ولا يستطيع وقف نزيفه .. وكل ذلك وزوجتي وأم أولادي تعرف بالمحنة التي أعيشها من الآخرين ولم تواجهني ولو مرة واحدة .. بل وتدافع عني عند أهلها حرصا منها على انقاذ أسرتنا وأبنائنا من الضياع .. وأكثر من ذلك تعطف علي عطفا خفيا رغم جرحها الأليم مني .. وتداري دموعها بعيدا عني ويختلط في عينيها الأسى بالاشفاق باللوم الصامت لي .. وتدعو لي في صلاتها أن ينجيني الله من هذه الهوة التي وقعت فيها والتي تمتص دمائي ببطء وتلذذ.

 


جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولــكــاتــب هــذه الــرســالة أقــول :

 

حذرك من الشر هو نصف المعركة ضده ! هكذا تقول الحكمة المأثورة .. وهكذا علمتنا تجارب الحياة .. لكن رسالتك وحدها تكفي لأن تعلم من لا يريد أن يصدق أن للخطيئة ثمنا غاليا يدفعه المرء من كرامته وصحته وماله واستقراره النفسي والعائلي .. وأن للالتزام الخلقي أيضا عائده الكبير الذي قد لا يلمسه صاحبه كاملا إلا إذا عرضت له قصة كقصتك فيعرف أن لحرمان النفس من الانسياق وراء أهوائها قيمة كبرى أبسط مظاهرها أن يعيش حياة الأحرار بل يملك إرادته، يفعل ما يؤمن به ويرفض ما لا يقتنع به ويملك أن يقاوم ما يرى مقاومته لأنه إنسان حر وليس عبدا رقيقا يفعل ما يؤمر به حتى ولو ضاق به وسخط عليه.

 هذا يا سيدي هو ما يتصوره البعض "حرمانا" من اللذات غير المشروعة ومن الأهواء .. وهو في حقيقة الأمر كرامة إنسانية وحرية إرادة ورفض لقيود الرذيلة وعبوديتها وأغلالها واحترام النفس قبل أن يحترمها الآخرون.

إن من ينزل بقدميه إلى المستنقع ليس من حقه أن يشكو البلل .. وأنت قد نزلت إلى المستنقع بكل أسف .. لكن بللك أو بلاءك فاق كل توقع .. ربما ترى أنك بما فعلت وبما قدمت راغما من مال قد كفرت عن جنايتك .. لكني أختلف معك في ذلك وأرى وأنا من لا ينصح أبا وزوجا أبدا بأن يعرض زوجته وأبناءه لمحنة الزواج من أخرى بلا ضرورة شرعية أنك لو كنت قد أصلحت خطأك مع هذه الفتاة مهما كانت مسئوليتها عن استدراجك إليه , بالزواج منها لكان ذلك أكثر شرفا لك وأكثر تكفيرا وأكثر قربى لله من كل ما فعلت حتى الآن .. ذلك أننا نحذر من السقوط في دائرة المحرمات أما إذا انزلقت القدم إليها وقضي الأمر فإن علاج الخطأ لا يكون بخطأ مضاعف وإنما يكون بفروسية الفارس الذي يتحمل أقداره مهما كانت المخاطر ولا يجبن عن تحمل تبعات أفعاله مهما عظمت .. ثم يكون له بعد ذلك أن يفعل بزواجه منها ما يشاء فإما أن يستمر فيه إلى النهاية وإما أن ينهيه بعد فترة وبعد أن يكفر عن فعلته ويرضي ربه ويطلب صفح زوجته ومجتمعه عما كان , أما تصدير "المشكلة" إلى شاب آخر وإغراؤه بالتسهيلات والمعجزات على قبوله ثم اتهامه بعد ذلك بالمشاركة فى الاستغلال .. فهو حل أناني لا يليق بالرجال.

لا أريد أن أزيد من همك بلومي لك .. إذ يكفيك ما أنت فيه وما تعانيه من قهر واستنزاف مادي ونفسي وإحساس بالذنب تجاه زوجتك وأسرتك ونفسك .. لكني فقط أردت أن أضع الأمور في نصابها لكيلا يتصور أحد أن ما فعلت هو السبيل الصحيح لعلاج مثل هذا الخطأ البشع إذا استسلم المرء لأهوائه وسقط في الشباك المنصوبة له أو نصب هو الشباك لغيره من الضحايا أما شريكتك في الإثم فلست أجد من الكلمات ما يليق بها وبأخلاقياتها المنهارة .. ابتداء من نصبها للشباك حولك إذا صح ما تقول أو استجابتها لك وضعفها أمام بريق مالك إلى أخلاقيات أسرتها البابلية المتساهلة الحقيرة إلى استباحتها لمالك بهذه الطريقة الابتزازية الاجرامية إلى أفظع جرائمها وهي خداعها لهذا الشاب وتدمير معنوياته واجتذابها له إلى دائرة الإغضاء والاستغلال إلى قبولها استمرار العلاقة معك رغم رفضك زواجها .. انتهاء بقبولها النفسي والمادي لهذا الحل المنحط من كل الوجوه وآسف لقسوة كلماتي .. وإن كان أسفي أكبر لمن جرت أمامهم هذه الأهوال وهم بها سعداء وراضون ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 وفي النهاية أقول لك شكرا لرسالتك المصهورة بنار التجربة والتي ستفيد كثيرين غيرك .. وأرجو أن تكون استفادتك أنت من التجربة المروعة بحجم ما خسرت من مال واستقرار وحرية إرادة .. ولن أقول وكرامة أيضا مراعاة لشعورك.

رابط رسالة الجنية الذهبي

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مارس 1991

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

  


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات