البكاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أكتب إليك لعل الله جلت قدرته يهيئ لي فرجا من عنده على يديك .. فأنا موظفة وزوجة وأم ومشكلتي في إيجاز هي أن زوجي قد أحيل إلى المعاش ويطلب مني أن أستقيل من عملي حتى لا يبقى هو في البيت بلا عمل في حين أخرج أنا للعمل كل يوم .. وفي الحقيقة فإني أقدر مشاعره ووجهة نظره في ذلك لكن المشكلة أنه باق لي 4 سنوات على الوصول لسن المعاش إن كان في العمر بقية وخروجي إلى المعاش المبكر الآن سوف يقلل من قيمة معاشي إلى النصف تقريبا في حين أني لو انتظرت هذه السنوات الأربع فسوف أحصل على معاشي بالكامل وناقشته في ذلك بهدوء وسألته كيف سنواجه غول الغلاء الذي يحاصرنا من كل جانب بمعاشه ومعاشي الناقص ولدينا ابن يعاني من مرض يتطلب علاجا دائما مدى الحياة .. وطالبته بالصبر هذه السنوات القليلة فنظر إليّ صامتا ولم يعلق بشئ ثم تركني ودخل إلى حجرته , وبعد فترة قصيرة لحقت به ودخلت بغير أن يشعر فوجدته يجهش بالبكاء فمزقت دموعه قلبي وقلت له أني سأقدم استقالتي غدا وليكن من أمرنا ما يكون.
وفي اليوم التالي توجهت إلى عملي وقدمت استقالتي
, فاستهول الزملاء المبلغ الكبير الذي سأفقده من معاشي باستقالتي الآن وسألوني
ولماذا لا يعمل زوجك أي عمل إلى أن تصلي إلى سن المعاش بغير أن تخسري هذه الخسارة
الكبيرة ..وعدت لزوجي وعرضت عليه الأمر فوافق على استمراري إذا وجد ما يشغله في
الصباح ويدفعه للخروج من البيت كل صباح معي كما كان يفعل من قبل .. فهل أطمع في أن
يجد زوجي عن طريقك عملا في جمعية خيرية أو في أي عمل إداري أو إشرافي ولو بدون
مقابل مادي على الاطلاق , لكي ينشغل به عن ظروفه النفسية ويخفف عنه بشاعة الفراغ
إلى أنا أتفرغ أنا له ولبيتي ؟
ولــكـــاتــبة هــذه الـرســالــة أقــول :
في رأي الأديب الأيرلندي العظيم
برنادشو إن "سر الإحساس بالتعاسة هو أن يتوافر للمرء وقت الفراغ الطويل الذي
يتشاغل فيه هل أنا شقي أم سعيد ؟" .. لذا فالعمل والمشاركة في مباراة الحياة
بصفة دائمة بأي دور وبأي نوع من أنواع النشاط الإنساني سواء أكان عملا مأجورا أو
تطوعيا أو بإكتساب مهارة إضافية أو تعلم لغة أو هواية جديدة هو وسيلتنا الصحيحة
لأن ندفع عن أنفسنا أمراض الفراغ وأولها الإحساس المؤلم بانعدام الدور وبأن الحياة
في أسرته قد أصبحت تدور حول محور آخر غيره بعد أن كان هو محورها الرئيسي وما
يستتبع ذلك من حساسية قد تفسد على المرء في بعض الأحيان علاقته بأعزائه الأقربين.
.
ولا شك أن ظروف استمرار عملك مع انتهاء مرحلة العمل في حياة زوجك تضاعف من آثار محنة الفراغ عليه وتزيد من حساسيتها , ومؤكد أن هناك من يحتاجون إلى خبرته وجهده البشري في مكان ما لم أعرفه بعد .. لكني آمل في أن أعرفه خلال وقت قصير وسوف أبلغكم به حين يأذن الله .. فاكتبي إلي بإسمه وعنوانه وانتظري فرج ربك قريبا إن شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر
1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر