مفتاح الأسرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

مفتاح الأسرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992


مفتاح الأسرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

تلقيت تعليقات عديدة معظمها من قارئات على رسالة "صوت من الحاضر" التي نشرتها في الأسبوع الماضي اختار منها رسالة واحدة لطرافتها هذا الأسبوع وأرجئ عرض نماذج أخرى من باقي الرسائل إلى الأسبوع القادم إن شاء الله.

 تقول الرسالة التي كتبتها زوجة متوسطة العمر:

رسالتي هذه ليست دعابة لكنها دعوة جادة للطبيبة كاتبة رسالة صوت من الحاضر التي تطالب فيها الزوجات بأن يَعن أزواجهن بمالهن على أن يتزوجوا بعض "أخواتهن" اللاتي لا زوج لهن ولا ولد وألا يكن أنانيات ويصررن على أن يكون الأزواج لهن وحدهن لأن هناك سيدات وآنسات من حقهن أيضا أن يتزوجن.

ودعوتي لكاتبة الرسالة هي أن تتفضل بالانضمام إلى أسرتنا الرشيدة كزوجة ثانية كريمة لزوجي كما تطلب، ولا عجب في ذلك فقد تغير شكل المجتمع بحكم ضغوط وتفاعلات عديدة أثمرت شخصيات مركبة لها معاناتها التي لم يعرفها جيل أمهاتنا .. وقبل أن أستطرد فى الحديث أقدم لهذه الطبيبة بطاقتي العائلية، فقد تزوجت منذ 25 سنة من زميلي الذي يكبرني بثلاث سنوات وكان وقتها شابا على درجة عالية من الجدية والثقافة ويبشر بمستقبل زاهر وكنا وقتها نتقاضى مرتبا قدره 26 جنيها وأعد أهلي لي أثاثا يليق بإبنة أسرة كريمة واستطاع زوجي الحصول على شقة جميلة في حي جديد بمبلغ "مهول" بمقاييس تلك الأيام من الستينات وهو ثلاثمائة جنية كاملة .

فبدأنا حياتنا على أرض مستقرة وكنت أشتري خضراوات الأسبوع لشخصين بخمسين قرشا وعندما انجبت أطفالي أحضرت شغالة شابة لمساعدتي بمبلغ شهري محترم هو سبعة جنيهات .. ثم عندما تصاعد هذا المرتب حتى وصل إلى 13 جنيها تعدى حدود قدرتنا فاستغنيت عنها وعن كل الشغالات منذ ذلك التاريخ حتى الآن .. وعندما تدخل الطبيبة كاتبة الرسالة شقتنا التي لم نغيرها منذ ذلك الوقت سوف تواجهها على البوفيه في المدخل صورة فوتوغراقية كبيرة تجمعني أنا وزوجي والأولاد وعلى وجوهنا جميعا "تشيز" أي ابتسامة عريضة في أحد المخيمات الصيفية التي بذلنا جهدا كبيرا لكي نستطيع توفير قيمة الاشتراك فيها لاسعاد الأولاد.

 

ومن أجل هذه الصورة وما تمثله لي تنازلت على مدى العشرين سنة الماضية عن الآتي تنازلت عن بعثة دراسية لأمريكا لأنى لم أستطع تدبير من يرعى أطفالى خلال غيابي وسعيت إلى الالتحاق بعمل خامل لكي يكفل لي حرية التزويغ منه للقيام بواجبات البيت والأسرة من غسل الصحون والملابس والطهي والوقوف بالساعات أمام مراجيح النادي لإبهاج الأطفال ورواية حكايات ما قبل النوم لهم ثم مساعدتهم في دروسهم بمدارس اللغات .. وبعدت المسافات بيني وبين أهلي لأني لم أعد من أهل الموضة والأناقة ولأني أصبحت أخشى اصطحاب أطفالي إلى بيوت الأهل لكيلا يعبثوا بمقتنياتها الثمينة المنسقة .

وفى حين مضت حياتي بين المطبخ والحمام والنادي كان زوجي يتقدم في عمله ويكبر اسمه وترسخ قدمه ويصبح علما في تخصصه .. وكم من عواصف وأنواء هددت سفينة حياتنا بالغرق ولكنها مضت في طريقها بفضل الله وبفضل حرصي على عدم تصعيد الصراع وعلى تقديم التنازلات والتفاني في الأسرة .

والآن وبعد ربع قرن من الحياة الزوجية لم يعد لي أي حلم سوى أن أعود لعملي ودراساتي بعد أن فترت رغبتي في أشياء كثيرة ومللت روتين الحياة الزوجية ..

 


 

ولــكــاتــبة هــذه الـرســالـة أقـــول:

 

فى البلاغة يصفون دعوتك بأنها رفض في شكل موافقة .. فالحق أن ما فيها من اشارة مريرة إلى ما بذلت من عرق ودم في تأسيس الأسرة وإلى صعوبات الحياة التي واجهتها على مدى 25 عاما حتى نهض البنيان وضمته صورة كبيرة لأبوين ناضجين وثلاثة أبناء سعداء .. لا تعني أبدا أنك على استعداد للتنازل عنها لأخرى لكي تعودي لعملك ودراستك ولو فعلت لكنت كمن قرر فجأة أن يتنازل عن أخصب سنوات عمره وأن ينثرها كالتراب في الهواء لكنها في تقديري صيحة احتجاج على بعض تناقضات الحياة وانقلاب المعايير الذي يجعل من أسرة راقية كأسرتك تكابد متاعبها حتى الآن دون أن تستطيع أن تهيئ لنفسها الحياة التي تتلاءم مع مكانتها وعلمها .. بل أنها أيضا صيحة احتجاج على كل من يتصور أن من حقه ان يشارك غيره جني ثمار رحلة العمر وأيام السعادة والشقاء دون أي جهد سابق في غرس البذور وتعهدها بالتضحية والدم والدموع طوال الرحلة.

 لا يا سيدتي أنت لا تقدمين لها مفتاح الأسرة كما تتوهمين ولو حدث ذلك حقا لتحولت في لحظة إلى نمرة شرسة تدافع عن عرينها ذي الطلاء الحائل .. وتتمسك بكل بلاطة مكسورة في حمامه وتغلق عشها وحياتها في وجه الغزاة .

أما الصورة التي تجمعكم والتي ضحيت من أجلها ببعثتك الدراسية .. فهي تستحق كل ذلك وأكثر .. ولمثلها ولبعض ما تمثله من رموز يشقى الجميع ويقدمون التضحيات , ويحلم الآخرون ببعض ما تعنيه وتمثله.

 

إن رسالتك احتجاج صامت على دعوة كاتبة رسالة صوت من الحاضر يتخذ شكل الأمنية المستحيلة للتخلي عن كل شئ والعودة للدراسة وتعويض ما فات وهي ليست أمنية مستحيلة لأنك غير قادرة على معاودة الدراسة والعمل .. وإنما مستحيلة لأنك أول من يعرف أنه لا شئ في الحياة يعدل سعادة الإنسان العائلية .. أو يعلو فوق اطمئنان قلبه وجانبه زوج وأبناء ناجحين, حتى وإن لم تخل الحياة من بعض المنغصات الضرورية كقصور الإمكانيات عن تحقيق الأحلام أو عبور السحابات العابرة بسمائها .

لكن الكارثة هي أن الشيطان يمني الإنسان دائما بالمفقود ويزهده في الموجود .. ولو تعرض هذا الموجود لأي خطر لا قدر الله لعرف كم كان مخطئا حين تشاغل عنه بالتطلع للمفقود . وإن لم تصدقيني فاسألي من بلغن أعلى درجات العلم والمكانة وحرمتهن الأقدار من دفء الحياة العائلية ومشاكلها .. وبل ومعاناتها أيضا وشكرا لك على اطلاعنا على طريقتك "البليغة" في رفض اقتراح صاحبة رسالة صوت من الحاضر واحتجاجك عليها.

رابط رسالة صوت من الحاضر

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير 1992

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات