الشتاء الكئيب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
قرأت رسالة
"المباراة" للسيدة التى كانت تعيش حياة سعيدة مع زوجها ثم وقع فى حب زميلة
له بالعمل كانت متزوجة ثم طلقت من زوجها وضحت بأطفالها لترتبط به واشترطت على زوج
كاتبة الرسالة أن يطلق زوجته أولا قبل أن توافق على زواجها منه ثم قرأت رد السيدة الغازية
لحصن الزوجة الأولى الذى نشر بعنوان "رسالة من الجانب الآخر" وتشرح
أسبابها وتحاول الدفاع عن نفسها وقرأت بعدها رسالة السيدة التى روت كيف نجحت فى
مواجهة موقف مماثل واستردت زوجها ودفعته لطلاق الزوجة الغازية إلى حد أنها جاءت
إليها تتوسل لها أن تقنع زوجها بألا يطلقها وأن تدعها على هامش حياتهما وكانت هذه
الرسالة بعنوان "السلاح الفتاك" وفى كل ما قرأت فقد آلمني لأسباب خاصة
أن الرسائل الثلاث قد ركزت على المباراة
بين السيدات للاحتفاظ بالزوج أو لاغتصابه وتجاهلت كلها ضحية لم يهتم أحد بالمسح
على جراحها هى زوج السيدة الغازية الذي اضطر لطلاقها وتمزيق أطفاله لكي ترتبط بزوج
كاتبة رسالة المباراة فقد شعرت بتعاطف شديد معه وودت لو كنت أستطيع مواساته لأني
شريك له فى الألم والتجاهل .. فلقد تزوجت منذ 13 عاما، وحلمت بحياة هادئة مع زوجتي
التي اخترتها واختارتني بملء إرادتها .. وأقبلت على حياتي الجديدة بحنين غريب
للسعادة والاستقرار , وعرفنا معا كفاح البداية ومتعة إضافة القليل بعد القليل من
أوراق الشجر إلى العش الصغير لكى يزداد جمالا ودفئا .. وعرفت لهفة الخوف على زوجتى
وهي تضع مولودها الأول واستمتعت باحساس الأبوة وسعادة مراقبة هذا الوافد الجديد
على حياتنا وهو يتحول ببطء من قطعة من اللحم الحي إلى إنسان صغير يبتسم ويبكي ويضحك
.. ثم يدرج على الأرض ويشيع حوله البهجة والاهتمام ومن بعده عرفت إحساس الأبوة
مرتين واكتمل الأبناء ثلاثة كانت صغراهم فى الثانية من عمرها أو أقل حين خرجت
زوجتي في الصباح إلى عملها كالمعتاد فإذا بي أفاجأ بها فى محل عام مع زميل لها ..
واسألها عن معنى ذلك فتهوى على رأسي بمطارق قاسية من الاعترافات بأنها خرجت معه
مرارا في نزهات ولقاءات عديدة وأنها اصطحبت معها أطفالها وأطفالي في بعض هذه
اللقاءات لكي يتعرفوا على "أبيهم" الجديد ويألفوه لأنه على استعداد لأن
يربيهم ويحتضنهم كما قال لها لكنها ألزمتهم بألا يبوحوا لي بالسر فكتموه عني خوفا
منها.
وهكذا يا سيدي وجدت نفسي فجأة أمام المحنة التي
يخجل الرجل غالبا من الاعتراف بها .. فاحترمت نفسي وكتمت ألمي وبادرت بطلاقها بغير
زوابع .. وغادرت هي البيت بلا تردد تاركة لي ثلاثة من الأبناء وأسرعت إلى زميلها
لتتم قراءة "فاتحتها" عليه بعد طلاقها مني بعشرة أيام فقط !
وانطويت أنا على أحزاني وأطفالي
وحاولت أن أعوضهم غياب الأم وكنا فى بداية الشتاء فمضت لياليه كئيبة وقاسية ..
ووقفت أكثر من مرة أتعلم كيف أبدل لطفلتي الصغيرة ملابسها وأنا حائر فيما ينبغي أن
أفعله معها حتى بكيت ذات ليلة من جهلي وقلة حيلتي وهي ترتعد أمامي من البرد ,
وأصبحت احتضن طفلتي كل ليلة وأحاول النوم فيتوالى أمامى شريط السنوات الثلاث عشرة
الماضية بخيرها وشرها فلا أحس إلا ودموعي تملأ عيني .. والصغيرة تربت خدي بحنان غريزي
غريب كأنها تفهم ما يعتصرني من مشاعر.
أما ابني وابنتي الكبيران فلك
أن تتخيل حالي معهما وهما يدركان ويفهمان ما فعلت أمهما وقد كان الأول فى
الابتدائية والثانية فى السنة الرابعة وهما شهادتان وقد تركتهما أمهما لأقدارهما
فكنت استذكر لهما دروسهما .. واطهو الطعام واغسل الملابس وانظف الشقة إلى جانب
عملي في وظيفتي .. وعلى هذا الحال مضت شهور الشتاء الكئيب وانتهى العام الدراسي
بخيره وشره .. ونجح الطفلان وجاء الصيف
ولــكـــاتــب هــذه الـرســالـة أقــول:
إن أحزانك وآلامك يا صديقي من
أنبل الأحزان لأنها تترجم مرارة الانسان تجاه الإحساس بالغدر .. وخوفه على مصير
أطفال صغار يدفعون بلا ذنب جنوه ثمن استسلام شريكة العمر الغادرة لأهوائها .. فإن
كنت قد تجرعت الإحساس بالألم والخجل والدونية لما جرى فتأكد أن غدر البعض بنا لا
يعيبنا ولا ينقص من أقدارنا ولا من أحقيتنا وجدارتنا بكل شئ طيب في الحياة ..
فالغدر نقيصة الغادرين وليس نقيصة المغدور بهم وحزنك وبكاؤك بين يدي طفلتك الصغيرة
واجترارك لهمومك دليل أكبر على سلامة فطرتك ورقة مشاعرك وتقديرك لمسئوليتك
الانسانية عن أبنائك .
والحزن الصادق يا سيدي من
مقامات السالكين عند الصوفية, ومما يؤهل الانسان لكي يكون إنسانا عند طاغور هو أنه
يكابد الألم .. ويعرف لسعاته .
والحق أنك تواجه اختيارا صعبا
بين طريقين لكل منهما ما يبرره ولكل منهما أيضا محاذيره فأنت إذا أعليت اعتبار
مصلحة أطفالك واحتياجهم النفسي إلى أمهم الطبيعية فوق كل اعتبار .. وتأكدت من أن
شريكتك السابقة قد استوعبت درس المحنة كاملا وصدق ندمها على ما ارتكبت في حقك وحق
أطفالها ورأيت ألا تغلق فى وجهها أبواب الصفح .. ولو بعد حين يكون لقرارك ما يبرره
إنسانيا ولا يستطيع أحد أن يلومك عليه .
وأنت إذا استمعت لصوت هواجسك
وكرامتك الجريحة وسوء ظنك بمن ضحت بأطفالها الثلاثة جريا وراء أهوائها وارتكبت خطأ
تربويا اشنع بتعريفهم بالأب البديل المنتظر وهي تساكنك وتقاسمك حياتك وفراشك,
ورفضت الصفح واسأت الظن بصلاحيتها لرعاية أطفالها, كان لقرارك ما يبرره وما لامك
عليه أحد .. على أنه مما قد يساعدك على اتخاذ القرار السليم هو أن تعرف أولا لماذا
عدلت عن اتمام مشروع ارتباطها بالآخر بعد طلاقها منك .. وهل جاء العدول من جانبها
استشعارا لمسئوليتها عن أطفالها ولندمها على غدرها بك وبهم .. أم جاء العدول من
الطرف الآخر كما يفعل كثيرون حين يترددون في الارتباط بمن هجرت زوجها وأطفالها من
أجلهم لاعتقادهم بأن من تعرف الخيانة مرة قد تعرفها مرة أخرى, وهي فكرة شائعة عن
البعض وتعد من عقوبات الحياة التلقائية لمن يخرج على قوانينها واعرافها.
فإذا كان السبب الأول فلربما
زاد ذلك من استعدادك للعفو وثقتك فى صدق ندمها وتوبتها, وإن كان السبب الآخر ..
كان لك أن تفعل ما يفتيك به قلبك وعقلك مهما كان قرارك لأن من يبصق فى البئر
القديمة ليس من حقه أن يعود للشرب منها كما يقول المثل الروسي بغير أن يتحمل تبعة
ما فعل وإلا اختلت موازين الحياة وتساوى الفضلاء مع غيرهم.
وفى كل الأحوال فإني أنصحك بعدم
التسرع باتخاذ قرار بشأنها لمجرد أنها قد طرقت بابك وتحدثت عن العفو والمغفرة كما
لا أنصحك أيضا بالتسرع بالمضي في مشروع زواجك من الأخرى إلا إذا تأكدت تماما من
أنك لن تصفح ولن تنسى لأم أطفالك ما فعلت والزمن كفيل بمداواة كل الجراح يا صديقي
.. وما أكثر ما تقدمة الحياة للجرحى من عزاء ينسيهم بعض آلامهم .. ويخفف من
مخاوفهم .. ورب أم لم تلد أطفالك قد ترعى ربها فيهم .. وتصبح أفضل لهم من أم لم
ترع حقوق ربها وزوجها وأطفالها.
ورب أم نادمة صحت توبتها وصدق
ندمها واستغفارها تكون احرص على زوجها وأطفالها وأكثر تمسكا بهم فى المستقبل من
أخرى لم تختبرها محنة كهذه المحنة.
والفيصل في ذلك هو أن تعرف الأسباب الحقيقية
لعودتها طالبة الصفح .. وأن تكفر هي تكفيرا كافيا عن جريمتها .. وأن تتأكد أنت من
أنك قد تنسى بعد حين, فإن شككت في أنك لن تقدر على النسيان .. فاغلق هذا الباب
بهدوء واطو هذه الصفحة المؤلمة .. واتخذ لنفسك حياة جديدة وليرع الله أطفالك
ويعوضهم عما فقدوا خيرا ورحمة بإذن الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس
1991
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر