السلاح الفتاك .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
قرأت رسالة المباراة للسيدة التى عاشت سعيدة مع زوجها ثم وقع فى هوى
زميلة له متزوجة وحصلت على الطلاق لكي تتزوجه ويريد أو تريد هي طلاقها قبل أن
يتزوجا رغم حرص كاتبة الرسالة على التمسك بزوجها واستعادته إلى حد ذهابها إلى
الأخرى ترجوها أن تترك لها زوجها أو على الأقل ألا تتمسك بشرط طلاقها وهدم أسرتها
لكي تتزوجه , ولقد استفزني هذا الموقف الذليل لها وأردت أن أروي لك ولها تجربتي
المماثلة التي تحملت مرارتها وكتمت آلامها .. ولكن بصبر وكبرياء وليس بالذهاب
ذليلة إلى المعتدية الغاصبة.
فأنا سيدة فى الخامسة والثلاثين من العمر وقد
تزوجت منذ 8 سنوات من شاب على خلق ودين وتحملت معه شظف العيش وعسر سنوات البداية
على أمل أن تأتي سنوات الراحة في المستقبل لأنه يعمل عملا مهنيا حرا يحتاج إلى
كفاح طويل لكي يثبت ذاته فيه , ورزقت من زوجى ببنتين وولد مازال رضيعا وأخلصت له الحب
وسلمت إليه مفاتيح ذاتي وساعدته بكل ما أوتيت من قوة على تحمل العثرات التي لا مفر
منها فى بداية الحياة وبغير أن يشعر أحد بمعاناتنا .. وكان لي قبل الزواج عالمي
الخاص من حب القراءة فى مختلف العلوم وكتابة الشعر وقراءته فاجتذبته إلى عالمي
خاصة أني لا أعمل فتشاركنا فى هذه الهواية وأصبحت لنا مكتبة جميلة صغيرة وعشت معه
هانئة قريرة العين وبدأت معالم الطريق تتضح أمامه في مهنته .
ومنذ 8 شهور فوجئت بزوجي في
لحظاتنا السعيدة يخلط بين اسمي واسم امرأة أخرى لا أعرفها , ثم إذا به يتحدث وهو
بين النوم واليقظة ويناديها بإسمها فتأججت النيران في قلبي وتولاني الغيظ والحنق
وأيقظته لأسأله عمن يترنم باسمها وهو نائم فأنكر فى البداية .. فكتمت غيظي وحاورته
فإذا به يعترف لي أنه متزوج من تلك السيدة منذ 8 شهور وأنه يذهب إليها بعد انتهاء
عمله كل مساء ثم يعود إلى بيتي ليجدني في انتظاره بكل الحب والعطاء والرعاية له
ولأبنائه وللطفل الرضيع الذى لم يكن قد تجاوز الشهرين ! .. ومهما قلت لك يا سيدي فلن
يستطيع أحد أن يحس عمق الجرح الذي أحسست به وأنا أتلقى هذا الاعتراف .. فأي غدر
وأية خيانة .. وأي نوع من النساء هذا الذي يرتضي الزواج من زوج وأب لثلاثة أطفال
وسعيد ومستقر مع زوجته وأسرته وانفجرت باكية .. وبكيت ثم ارتديت ملابسي وغادرت
البيت تاركة ورائي طفلي الرضيع يبكي .. وهمت على وجهي فى شوارع المدينة فى الصباح
الباكر ساعات طويلة والدموع تبلل وجهي حتى أنهكني المشي , ثم عدت إلى البيت فوجدت
زوجي ينتظرني ويسألني : وماذا بعد , فأجبته بتصميم الطلاق .. طلاقي .. أو طلاقها !
ففوجئت به يجيبني بأنه لن يطلقني ولن يطلقها وأن علي أن أتقبل الأمر الواقع وارضى
به ! وغادر بيتنا وجلست وحدي أحاول أن أتمالك نفسي وأرتب أفكاري .. وانتهيت بعد
تفكير طويل إلى تحليل الموقف واختصاره فى أن هناك معركة قد فرضت علي مع خصم لا
أعرفه ولا أراه .. وسألت نفسي هذا السؤال المحدد : هل أريد زوجي وبيتي أم لا .. ؟
وأجبت على سؤالي بنعم .. إذن فلن أفرط فيه لأنه سعادتي وشقائي وحب أيامي ومستقبلي
وأب لأبنائي الذين لا أعرف أين أذهب بهم إذا غادرته أو ماذا أقول لهم إذا سألوني
يوما لماذا لم أحافظ عليه من أجلهم .
وانتهيت إلى قرار حاسم هو أني
لن أنسحب ولن أسلم الراية بذل المنهزم .. وانما سوف استرد زوجي من تلك المغتصبة
التي غافلتني وتسللت إلى مملكتي في غمار انشغالي بأولادي فإذا كان لا حل لمشكلتي
إلا بالطلاق فليكن طلاقها هي وليس طلاقي أنا .. ولابد أن يجئ هذا القرار منه هو
وبرغبته وليس رغما عنه أو بضغط قاهر .. ولأن لي بعض القراءات السابقة فى علم النفس
فلقد كنت أعرف أن هناك نوعا من الإرادة التملكية وتعني دفع الشخص لاتخاذ قرار ما ,
بغير أن يحس بأنه يتخذ القرار الذي تريده منه , وإنما قراره هو .
وحزمت أمري وقررت أن أتسلل إلى
نفس زوجي لأطردها من داخله , إذ أنه ما من رجل يهذي بإسم امرأة وهو بين النوم
واليقظة إلا وتكون قد شغلت مكانا فى أعماقه .
ولأني أعرف أن لكل إمرأة سلاحا
تستخدمه فى حياتها فلقد كان كل همي هو أن أعرف نوع السلاح الذى تسللت به تلك
المرأة إلى مملكتي لتسلبني زوجي وسعادتي .
فاستدعيت كل أسلحة الأنثى التي قد يعلوها الصدأ
أحيانا خلال انشغالها بالبيت والأولاد واستنامتها للغفلة والاطمئنان , وعقدت هدنة بيني
وبين نفسي للتحضير للمعركة , وبدأت بإيهام زوجي المحبوب أني قد قبلت بالأمر الواقع
.. ورحت استدرجه لأعرف منه كل شئ عنها وأنا احترق فى داخلي ولا أبدي له إلا الحب
والفهم.
وعرفت منه أنها إمرأة مطلقة لم يستمر زواجها الأول سوى بضعة شهور, وأن سبب الطلاق غامض ولم تبح له به , كما عرفت منه أنها تساهلت معه فى بعض الجوانب الأخلاقية فى البداية لكي تجذبه إليها وكانت هذه هي شرارة الهجوم الأولى .. فخلال أحاديثي الطويلة معه عنها , بعدها شعر زوجي وهو يروي لي بعض التفاصيل بأنها لم تكن ملتزمة ومحافظة مثلي ورحت بتعليقات حذرة من جانبي ألفت نظرة برفق وكأنما يجئ الكلام عرضا إلى بعض الوقائع ودلالاتها الأخلاقية ليحس بالفارق بيني وبينها وهو يسمع ولا يعترض ويفكر ! وكان زوجي قد قسم الأيام بيننا فيبيت عندي ليلة ويبيت فى معسكر الأعداء الليلة التالية , فكنت حين يأتي يومها أعد له ملابسه بنفسي وأجهز له كل الأشياء وأصر على أن ألبسه الجورب بنفسي وأن أمسح له حذاءه باهتمام , ثم أودعه باسمة وقلبي يحترق, بعد أن أدس له في كل جيوبه رسائل حب كتبتها له ابثه فيها أشواقي وحبي وأشكو له من لهيب الفراق الذى يحرقني خلال غيابه , وكيف تمضي الساعات بطيئة ثقيلة علي وهو بعيد عني وكيف يسألني عنه الأطفال فلا أحار جوابا .. الخ , حتى إذا وضع يده فى أي جيب من جيوبه ليخرج شيئا وهو عندها خرجت يده برسالة حب مني تذكره بالمرأة التي أحبته بإخلاص ومازالت تحبه ولا ترجو من الدنيا سواه .
وبعد أن يغادرني زوجي لا أترك نفسي للاحتراق السلبي الذي لا يلتهم إلا صحتي وشبابي وجمالي ولا يغير من الأمر شيئا .
وهكذا بدأ زوجي يضيق بالأخرى تدريجيا .. ويضيق
بخروجه من البيت وتركي وحيدة ويمل الذهاب إلى "هناك" وتراجعت الأخرى من
حياته ولم يعد يرى أو يسمع سواي , وخلال كل ذلك ومنذ اليوم الاول للمحنة فإني لم
استخدم ذلك السلاح العاجز الذى تستخدمه معظم النساء فى مثل هذه الأحوال ويعتقدن أنه
سلاح ماض فى حين أنه سلاح سلبي لا يؤدي إلا إلى تسليم الزوج نهائيا إلى الأخرى وهو
سلاح الامتناع عن زوجها فى مثل هذه الظروف , فلم أمنع نفسي عنه أبدا حتى فى أحلك
أوقاتي .. وكنت على العكس سخية العطاء معه دائما إلى الحد الذي لا يقوى معه على
التشتت بين زوجتين.
وذات مرة كان يستعد للذهاب
إليها فبدأت استميله للبقاء وهو ينظر إلي ساهما ثم أصر على الخروج وخرج وهو يقول لي
"هانت" !
وفى اليوم التالي استيقظت في
الصباح على طرقات على باب شقتي وفتحته لأجد أمامي امرأة ضئيلة الحجم سمراء غير
مهندمة سألتهاعمن تكون .. فإذا بها زوجة زوجي ! وفزعت خشية أن يكون قد ألم به
مكروه وهو عندها واطمأننت إلى أنه بخير فلم أعرف بعدها ماذا أفعل هل أدعوها للدخول
.. أم أطردها ؟
أم أفرغ فيها براكين غضبي
المكتومة واضربها ضربا مبرحا .. وبينما أنا غارقة فى أفكاري وجدتها بكل الذل
والانكسار تطلب مني وهي تكاد تبكي أن أسمح لها بالدخول ! ودعوتها ودخلت إلى غرفتي
لأبدل ملابسي وارتب أفكاري .. وخرجت إلى الصالون لأجلس في مواجهة خصمي الذي أراه
لأول مرة وسألتها عما تريد .. فهل تعرف ماذا كانت تريد مني يا سيدي ؟ تريدني بكل
صفاقة أن أتحمل وحدي كل مسئولية أسرتي والتزاماتها العديدة لكي يجد زوجي الوقت الكافي
لأن يذهب إليها .. لأن زواجه منها كما قالت قدر لابد أن أتحمله ولأنها لو طلقت منه
فسوف "تتعب" ! وتعجبت ممن تريد أن تستعين بي على زوجي لكيلا تتعب وليس
مهما أن أتعب أنا وأعاني القهر وأنا أرى حبي وبيتي وأولادي واستقراري معرضة للخطر
والقلاقل بسببها .. وكظمت غيظي وطلبت منها أن تتوجه إلى "زوجها" بما
تريده من رغبات وليس لي ففاجأتني بأنه يعتزم طلاقها قبل أن يتم زواجهما بضعة شهور
وتريدني ألا أدعه يفعل ذلك لأنها كما قالت : وحيدة وأمها متوفاة وليس لها أحد ,
وعرفت في تلك اللحظة سلاحها الذى استخدمته لسلب زوجي وهو سلاح المسكنة والوحدة
والضعف مع الاغراء واجبتها وبراكين الغضب تدمدم داخلي بأني أنا أيضا وحيدة
ويتيمة الأبوين منذ صغري وليس الأم فقط "وأغلب من الغلب نفسه " وقد
تحملت مشقة الحياة حتى تزوجت وزوجي هو سندي الوحيد وحبي وعالمي , فماذا تريدين مني
بعدما حدث ما حدث فقالت لي أن زوجي لن يفرط في لأني أم أولاده لهذا فهي تريدني أن
أحثه على عدم طلاقها لأنها راضية بأن تبقى في حياته على الهامش ولا تريد إلا أن
يأتي إليها ساعتين فقط كل يوم , وقبل أن أجيبها فوجئت بعودة زوجي الذي ذهل حين
رآها وفقد القدرة على التصرف وأمرها بالانصراف فيما يشبه الطرد وخشى زوجي أن أخبر
الطفلتين بمن تكون تلك المرأة فتهتز صورته أمامهما لكنه رآني هادئة من خارجي وسألني
عما حدث فرويته له بأمانه وانتفضت قائمة غاضبة لأنه يسوي بيني وبين مثل هذه المرأة
!
فهدأ من روعي وأحاطني بحبه
ورعايته .. ووعدني بطلاقها في أقرب فرصة فكتمت فرحتي مثلما كتمت ألمي من قبل .. وسعدت
لأنه توصل للقرار بملء ارادته وليس بضغط من جانبي .. ونفذ زوجي وعده بعد قليل وطلقها
منذ أكثر من شهرين وعاد إلي كاملا .. وعادت لي سعادتي وهنائي.
وعرف زوجي أنني شرسة في الدفاع عن حبى وزوجي وأسرتي لكن شراستي ليست شراسة العنف والشجار والضجيج والتشهير وفضح زوجي بين الأهل والأصدقاء وتكدير حياته كل يوم وحياة الأبناء بسبب خطأ طارئ أو نزوة عارضة.
ولــكــاتــبة هــذه الـرسـالـة أقــول :
منذ قديم الزمان والأمهات
والناصحون ينصحون بناتهم بأن يتعاملن مع ما قد يعترض حياتهن الزوجية من أنواء
وأزمات طارئة بالحكمة والصبر والذكاء وبعد النظر , لكني أعتقد أن رسالتك هذه سوف
تضيف إلى " أدب الدفاع الشرعي" عن مملكة المرأة الصغيرة وزوجها الجديد
والثمين والمفيد .. إنها درس قيم يقدم لمن يواجهن نفس المحنة عصارة التجربة وخبرة
الألم .. وينبه الأخريات اللاتي يعفين دائما أنفسهن من كل لوم أو مسئولية عن
انهيار الأسرة والسعادة ويكتفين بالعويل والانفعال أو بندب الحظوظ وإدانة غدر
الأزواج , إلى أن هناك طريقا آخر لتصحيح الأخطاء واستعادة السعادة المفقودة يعتمد
على التحليل السليم للموقف واستعمال العقل للاستفادة من دروس المحنة.
فأنت قد بدأت بمحاولة معرفة الثغرة التي تسللت
منها تلك المرأة إلى حياة زوجك خلال انشغالك بابنائك عنه فالتمست له بذلك أولا بعض
العذر في ضعفه واستسلامه لأهوائه معها وحملت نفسك بعض المسئولية .. ثم قررت ألا
تفرطي فيه وألا تسلميه لمن حاولت أن تسلبه من زوجته وأسرته وأبنائه .. ولكن ليس
بالانفعال الأهوج وهتك الأسرار والاساءة إلى كرامة زوجك رغم عمق جراحك .. وانما
بأن تصلحي من شأنك وأن تحاربي في معركة هادئة طويلة لاستعادته تدريجيا , فالتزمت
بذلك بالمنهج القويم الذي نصحنا به الرسول الكريم حين قال : إن من شر الناس عند
الله منزلة يوم القيامة : الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر
صاحبه , ثم استخدمت كل أسلحتك من الذكاء والحب والنعومة والأنوثة والصبر والفهم
الصحيح لطبيعة الرجل والسخاء العاطفي لزوجك والضعف معه .. وسلاح الضعف الأخير هو
أقوى أسلحة المرأة على عكس ما تتصوره بعض السيدات.
فلا عجب إذن في أن تنتصري في النهاية في مباراة
العمر بالنسبة لك ولا عجب في ألا تستجيبي لرجاء تلك المرأة الغاصبة فى أن تساعديها
فى الاستمرار فى اغتصاب بعض زوجك وسعادتك , فتجارب الحياة قد علمتنا أنه لا مكان
للشفقة في قلب من تحب إذا تعلق الأمر بتنازلها لأخرى عن حقها فيمن تحب .
كما أنها قد أخطأت بتوجهها إليك
بهذا الرجاء الغريب لأنها قد طلبت حاجتها ممن لا يرجو لها نجاحها ! على عكس ما
حذرنا منه العظيم عمر بن الخطاب ! كما كنت أنت منطقية مع نفسك حين رفضت ذلك وواصلت
القتال حتى النصر الساحق الماحق ولا غرابة فى ذلك مرة أخرى ففي دنيا الحيوان
والطيور ليس هناك ما هو أشرس من الحمامة الوديعة إذا قاتلت حمامة أخرى دفاعا عن
وليفها ! فتظل تدميها بمنقارها إلى أن تخر الأخرى على الأرض نازفة ومستسلمة .. فلا
تكف عنها أذاها رغم توقفها عن القتال ولا تدعها إلا بعد أن تنزف آخر قطرة من دمها
فى حين يكف الوحش الضاري عن قتال خصمه إذا طأطأ برأسه ومد ذراعيه على الأرض معلنا
استسلامه ! وهذه هي المفارقة الغريبة بين وداعة الحمامة وبين شراستها فى القتال
لكنها فى حالتك شراسة مشروعة بل ومطلوبة وتستحقين عليها التحية والفوز بالأمان
والاستقرار والسعادة بزوجك وأبنائك وأسرتك , وسوف تسعدين بكل ذلك وتحافظين عليه
إلى النهاية إن شاء الله لأن ما نحصل عليه بالعناء لا نفرط فيه بسهولة ولا نقبل
التنازل عنه لأول طارق.
فهنيئا لزوجك بك وعسى أن يكون قد تعلم درس العمر مما جرى وأن يقدر لك فضلك وحبك " وجهادك" للمحافظة عليه .. ولا عزاء لكل غاصب أو غاصبة وعسى أن يطلب كل انسان سعادته بالطرق المشروعة وليس بالعدوان على حقوق الآخرين وشكرا لك يا سيدتي على رسالتك الفريدة والثمينة هذه !
رابط رسالة الشتاء الكئيب تعقيبا على هذه الرسالة
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يونيو 1991
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر