المباراة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

 المباراة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

المباراة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

إن الحب الحقيقي تضحيات متبادلة بين الطرفين وحرص مشترك على عدم تكليف كل طرف بما لا طاقة له به أو بما يؤذي أعزاءه ويدمر حياتهم .
عبد الوهاب مطاوع

حين كنت فتاة جامعية تعرفت على شاب ونشأ بيننا حب عميق وبارك الله حبنا الطاهر فصمد لكل العواصف والعقبات طوال 5 سنوات حتى تم الزواج وتحقق حلمنا الكبير وتعاهدنا على الوفاء .. وكان زوجي قد تراءت أمام عينيه بعض صور الخيانة فجعلته لا يرجو من ربه أكثر من زوجة مخلصة تحفظ عهده وترعاه . واستجاب الله لدعائه ودعائي فما خان أحدنا عهده أمام الله ..

 

ودام الحب عشرين سنة رزقنا الله خلالها بثلاثة من الأبناء بلغ اثنان منهم سن الشباب ويدرس أصغرهم بالمرحلة الثانوية، وطال شهر عسلنا حتى استغرق كل سنوات زواجنا ولم تحدث بيني وبين زوجي ورفيق عمري أية مشكلة أو خلاف طوال تلك السنين حتى أصبحنا موضع حسد بعض الأقارب، وكان زوجي بالنسبة لي دائمًا هو أجمل ما في حياتي وكنت كذلك بالنسبة له حتى لقد كان يفضلني ويقدمني في كل شيء على أبنائنا ولم يكن غريبًا أن أتفانى في حبه ورعايته والإخلاص له .

 

ثم بدأت إحدى زميلات زوجي تجلس بجواره كل يوم في العمل وتجعله يعيش مشاكلها مع زوجها وتقص عليه القصص الملفقة ليتعاطف معها ويرق قلبه لها .. وساعدها في ذلك مظهرها المحتشم الذي يبعدها عن الشبهات فالتفَّت خيوط العنكبوت تدريجيًا حول زوجي واستمالته إليها، وحين تأكدت من ذلك طلبت الطلاق من زوجها على الفور وبين خيوطها فريسة هي زوجي الذي لا يعرف إلا الحب والإخلاص والقيم والمبادئ والذي يحظى باحترام الجميع وليست في حياته أية شائبة ولم يفعل إلا الخير منذ عرفته منذ 25 سنة ونحن طالبان بالجامعة إلى أن سقط في خيوط العنكبوت وهو في الخمسين من عمره .

 

وحصلت زميلة زوجي المحتشمة التي مرت بأكثر من تجربة فاشلة قبل الزواج على الطلاق سريعًا وبدأت "تلاعب" زوجي بأسلوبها المتمكن حتى لم يعد يرى غيرها في الحياة، وعندما تمكنت منه طالبته بهدم البيت الذي لم ترتفع قوائمه إلا بحنانه وعطفه والذي لم يعرف إلا النجاح والسعادة والاستقرار، واشترطت عليه زميلته أن يحضر إليها ورقة طلاقه لي أولاً لكي توافق على الزواج منه فانقلب الحمل الوديع رجل المبادئ والقيم الذي يكره الخيانة إلى إنسان آخر يبرر خيانته ويدافع عنها ويجرح مشاعري بأقسى الكلمات وبلا أي عرفان للجميل أو احترام للعشرة الطويلة ولكل ما كان يجمع بيننا فيعترف لي صراحة وبغير مراعاة لقلبي الذي ينزف الدم أن تلك السيدة هي أول حب في حياته وأنه لم يسبق له أنه أحب قبلها، وبعد ذلك أصبح زوجي على استعداد لأن يتنكر لكل الأشياء الجميلة التي ربطت بيننا طوال 5 سنوات من الحب الصافي وعشرين عامًا من الزواج السعيد، ويتفادى لقاء كل الأهل والأصدقاء الذين يعرفون ما كان بيننا من حب ووفاق ويحاول الالتصاق بأصدقاء جدد لا يعرفون شيئًا عن حياته السعيدة السابقة.

 

 واستمر هذا الحال عامين طويلين وأنا أعاني من القهر والألم ومن الذل العاطفي والإنساني ورغم قسوة ما أعانيه لا أتصادم مع زوجي ولا أثير له المشاكل بل ألتزم الصمت وأتكتم مصيبتي وأحرص في علاقاتي العائلية والاجتماعية على ألا يعرف أحد شيئًا عما يجري وعلى أن أبدو وكأنما لم يحدث شيء ولم تعترض حياتنا هذه الكارثة وذلك حتى لا ينهار بيتي ويفقد أبنائي أباهم الذي يمثل بالنسبة لهم كل شيء إلى الأبد وخلال ذلك اضطررت إلى أن أذهب وأنا في قمة تعاستي وكربي إلى تلك السيدة التي زلزلت حياتي، وتحدثت معها بغير أن أحاول الإساءة لها أو استفزازها وناشدتها بقلب الزوجة والأم ألا تهدم أسرة عاشت عشرين سنة في سعادة واستقرار وحاولت إفهامها أن الخيوط الملتفة حول زوجي الآن لابد أنها ستتحطم ذات يوم وسوف يتخلص منها ويعود لأبنائه الشباب الناجحين الذين يفخر بهم أي أب.




 
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

يبدو أن زوجك يا سيدتي يواجه ما يسميه علماء النفس بأزمة منتصف العمر، وهي أزمة تعترض حياة الرجال والنساء أما المرأة فإنها تصاب فيها بسبب بعض التحولات البيولوجية التي تنهي قدرتها على الحمل والإنجاب بتذبذب في العاطفة وحساسية شديدة وقدر كبير من التوتر والقلق وقد تهاجمها خلالها نوبات من البكاء والحزن وقلة النوم وبعض الأعراض الصحية الأخرى كسرعة ضربات القلب مع الميل لعدم الاطمئنان لزوجها والشك في تصرفاته . وأما الرجل فإنه في هذه المرحلة التي تبدأ من الخامسة والأربعين إلى الخمسين وما حولها يبدأ في الإحساس بأن ما تبقى من سنوات عمره أقل كثيرًا من تلك التي عاشها ويزداد إحساسه بذلك كلما تلقى أنباء الراحلين من أصدقائه أو زملاء العمل والدراسة .

 

وكرد فعل نفسي لهذا الإحساس المؤلم يصبح أكثر قلقًا وعصبية مما كان طوال حياته، وقد يحاول التغلب عليه بالتغيب كثيرًا عن البيت، أو يحاول أن يثبت لنفسه أنه مازال نفس الرجل الذي كان في سنوات الشباب والإقبال على الحياة فيتورط بلا احتراس في مغامرة عاطفية طارئة أو نزوة غير متوقعة ، وتظهر عليه غالبًا بعض علامات الاهتمام بأناقته إلى جانب ميل أكبر لأن ينال المزيد من عطف زوجته وتدليلها وحنانها .

 

ويبدو أن تلك السيدة قد صادفت زوجك وهو في قمة معاناته لهذه الأزمة فتسللت إلى دنياه كالحية الرقطاء والتفت حوله بطياتها وهصرته هصرًا بعضلاتها القوية فأذهلته عن حب العمر وعن أسرته وبيته وكل ما هو جدير بالحب والاحترام في حياته الماضية . لهذا فلا عجب أن يفر من الأهل والأصدقاء القدامى لأنهم رموز هذا العالم القديم الذين يذكرونه بخطيئته في حق زوجته المخلصة وأسرته ولأنه يصعب عليه أن يبرر أمامهم هذا الذهول المفاجئ بالمبررات التقليدية كالتعاسة الشخصية وسوء معاملة الزوجة وجفاف نبع الحب في قلبها إلخ .. ولا عجب أيضًا في أن يلتصق بأصدقاء جدد لا يمثلون بالنسبة له صوت الضمير ولا يحس باحتجاجهم الصامت على تصرفه ، لأن خائن العهد يفضل دائمًا أن يبتعد عمن يذكره بخيانته لعهده أو يدينه بها .

 

لكن زوجك بالرغم من أنه الجانب الضعيف المغلوب على أمره في قصته مع تلك المرأة فإنه ليس متسرعًا أو متهللاً لهدم أسرته كما تتصورين بل إنه متروٍ فعلاً ويدرك استحالة الاستجابة لشرط تلك المرأة الجبارة بطلاقك لكنه يكرر ما يتصوره بعض الرجال الذين يواجهون هذه المحنة الحل الأمثل للاستمتاع بالحياة وهو أن يحتفظوا بالزوجة المحبة المخلصة والبيت المحترم الذي يجد فيه الأبناء رعاية الأم ، ثم يجمعوا إلى ذلك هوى القلب أو نزوته الطارئة في عالمين متوازيين الأول لراحة النفس والضمير وتفادي الإحساس بإضاعة الأبناء والتقصير في حقهم والمظهر الاجتماعي المحترم، والثاني لهمسات الحب وأناشيد الغرام وهو حل أناني يعكس مغالاتهم في الطلب من الحياة بأن تعطيهم الحد الأقصى من كل شيء وألا تحرمهم من أي متعة وبلا خسائر أو تضحيات، أو حرمان تفرضه عليهم الاستقامة والإحساس بالواجب العائلي والإنساني العام .

 

لكن زوجك لو أزاح الغطاء قليلاً عن عينيه وتفكر في شرط تلك السيدة في أن يطلق زوجة محبة فاضلة مثلك ويزلزل حياة أبناء صالحين كأبنائه لكي تنال هي الأخرى الحد الأقصى من الأشياء وتتزوجه بلا أي استعداد للتنازل أو قبول الحل الوسط وهو زواجه منها مع احتفاظه بأسرته، لرأى فيه قسوة لا إنسانية وأنانية مخيفة خليقة بأن تثير الرعب في قلبه من معاشرتها وربط حياته بها . إذ أنه حتى الزواج الثاني الذي يزلزل سعادة أسرة هانئة وزوجة محبة ويعرض الأبناء لمشاكل هم في غنى عنها ، لا تقبله ولا ترضى به، فكيف إذًا يطمئن لعشرة من تصمم على الإطاحة بسعادة 4 أشخاص بغير أن تطرف لها عين لكي تقيم عش البوم الذي لا يسعد إلا في الخرائب .. وهل هذا هو الحب الحقيقي الذي يشقى بأنه لم يتوجه بالزواج ؟

 

إن الحب الحقيقي تضحيات متبادلة بين الطرفين وحرص مشترك على عدم تكليف كل طرف بما لا طاقة له به أو بما يؤذي أعزاءه ويدمر حياتهم فأين هو مما تطالبه به هذه السيدة ؟ . وكيف يغيب عن حكمته إدراك الفارق الجوهري بين حبك له وصبرك على العناء والحرمان والآلام عامين طويلين بغير أن تسيئي إليه أو تشوهي صورته أمام الأبناء والأهل والأقارب والأصدقاء بل ومع الحرص الشديد على ألا يحس أحد بما تكتوين بلهيبه مع الأمل في استعادته إلى حد أن تذهبي لمناشدة تلك السيدة في مشهد ذليل فلا يلين لكِ قلبها ولا تتزحزح عن موقفها، وبين ذلك الحب المدمر الأناني الذي يجمعه بها إن كان ثمة حب من جانبها .

 

يا سيدتي إنها مباراة حقًا لكنها مباراة بين الإخلاص والوفاء والتضحية والأمومة ورعاية الأبناء وكل القيم السامية الجديرة بالاحترام وبين الأنانية والمغامرة والاستسلام للأهواء على حساب كل الاعتبارات ولابد أن ينتصر الحق والعدل والخير في النهاية، فإن انهزمت كل هذه المعاني الجميلة – وقد تنهزم أحيانًا مرحليًا حين يشتد عمى الأعين وذهول القلب عن الفضائل – فازت المعاني الأخرى فوزًا مؤقتًا لا يشرف صاحبه .. ويحصل الرابح فيه على كأس تشينه وتدينه وتبشره بما وعد به ربك المعتدين الظالمين "إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد" .

صدق الله العظيم

رابط رسالة "رسالة من الطرف الآخر" لكاتبتها السيدة التي اتهمتها كاتبة الرسالة بخطف زوجها

رابط رسالة السلاح الفتاك تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة الشتاء الكئيب تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مايو عام 1991

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات