رسالة من الجانب الآخر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
شقاء البشر قد ينجم أحيانًا عن تعارض الوسائل التي يلتمسون بها تحقيق سعادتهم .. فإذا ما طلب كل إنسان سعادة بغير أن يتوقف طويلاً للتفكير فيما استلب من سعادة الآخرين أو من وطأهم بأقدامه بلا رحمة وهو يهرول إلى سعادته الخاصة، فإن الحياة حينئذٍ تتحول إلى غابة لا ينال السعادة فيها إلا الأقدر على اغتصاب أسبابها .
أنا يا سيدي الوجه الآخر
لرسالة "المباراة" أو أي قصة أخرى تشبهها .. فأنا المرأة التي اتهمتها
كاتبة الرسالة بأنها خطفت زوجها وطُلِّقت لكي تتزوجه وتصر على رفض الزواج منه قبل
أن يطلق زوجته ويهدم أسرته .. ولقد قسوت عليَّ في ردك على رسالتها ومع ذلك فلست
أكتب إليك دفاعًا عن نفسي وإنما لأني أعتز بكلماتك التي تعودت عليها كل أسبوع،
وأعرف أن ما قلته هو رأيك في كل سيدة تقبل أن تكون الزوجة الثانية لرجل متزوج
ولديه أبناء .
لكن لماذا يا سيدي نقف
دائمًا في صف الزوجة الأولى مهما كان خطؤها في حق زوجها ونفسها ونلتمس لها الأعذار
دائمًا وننسى في نفس الوقت أن الإنسان إنما يعيش حياة واحدة وأن هذه الحياة مهما
طالت قصيرة .. وهل كُتب على كل رجل أخطأ في اختيار شريكة حياته أن يعيش معها عمره
كله شقيًا وتعيسًا ؟
لقد اتهمتني صاحبة الرسالة
بأني نسجت خيوطي كالعنكبوت حول زوجها وهي لا تعرف كم عانيت لأبعده عني ولأصد حبه
الذي تسلل إلى قلبي بغير أن يكون لي أو له يد فيه ولم تسأل نفسها وماذا في زوجها
من مغريات لكي أنسج خيوطي حوله وقد كنت قبل حبي له أعيش حياة رغدة فتنازلت عنها
بكل سهولة وتنازلت عن كل حقوقي وكل ما كتب لي زوجي السابق من أموال لكي أكون
بجانبه ونبدأ معًا من جديد حيث إنه لا يملك شيئًا ولا يشغل مركزًا مرموقًا – كما
قالت – وليس لديه ما يغري امرأة "لعوب" كما وصفتني زوجته بنسج خيوطها
حوله .
نعم ليس عنده شيء من ذلك
لكنه غني بصفات أخرى لا تقدر بمال أحببته من أجلها هي الوفاء والأمانة والإخلاص
والصدق، وهذه الصفات هي نفسها سبب مشاكله حاليًا مع زوجته فلأنه صادق فقد رفض أن
يعيش معها وقلبه ملك لأخرى ولأنه أمين فقد رفض أن يتزوجني دون علمها مع أني كنت
على استعداد لتقبل هذه التضحية من أجله وأجلها ومن أجل أولاده، كما أني لم أصر على
طلاقها كشرط لزواجه مني كما تصورت بل إنه هو الذي أصر على ذلك لأنه يعرف تعاليم
دينه ويعلم أنه إذا تزوجني مع احتفاظه بها فلن يستطيع أن يعدل بيننا ورفض أن
يظلمها ظلمًا مستمرًا، وفضَّل أن يظلمها مرة واحدة بدلاً من أن تظل تتألم في كل
مرة تراه عائدًا إليها من عندي !
لقد قررت أن أطلعك على
الوجه الآخر للزوجة الثانية حتى لا تظلمها دائما وأرجو أن تصدق أني وزوج كاتبة
الرسالة لم نحاول الاقتراب من بعضنا البعض، وإنما حاولنا مرارًا أن نتباعد وأن
نقتل تلك العاطفة التي نمت بيننا لكنه القدر الذي قدره الله علينا فجعل كلا منا لا
يستطيع الحياة بدون الآخر .. وإذا ضحينا وقاومنا حكمت الحياة علينا بالتعاسة
والشقاء نحن ومن حولنا، ذلك أني لم أكن أستطيع الحياة مع زوجي السابق وقلبي ملك
لشخص آخر أراه كل لحظة في خيالي فاخترت الطريق الصعب وحصلت على الطلاق، وهو لم يكن
يستطيع إسعاد زوجته وهو يرغب بصدق في الزواج مني، وكل ذلك لا سلطان لنا عليه لأنه
من أمور القلب الذي وضعه الله في صدر كل إنسان وسواء أكان ردك معي أو ضدي فإني
أهديك التحية وأشكرك على رغبتك في التخفيف عن قرائك .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
ترددت في نشر رسالتك
متخوفًا من أن أرتكب جريمة "تحسين الخطأ" أو تبريره، وهو هدف أحرص عليه
في بريد الجمعة مقدمًا فيه الاعتبارات الخلقية على كل الاعتبارات لكني بالرغم من
ذلك قد مِلتُ إلى نشرها لكي نطلع معًا على منطق الرأي الآخر عسى أن يزيدنا ذلك فهمًا
أكثر للحياة وقدرة أكبر على التعامل معها، وتعليقي على رسالتك يا سيدتي هو أن شقاء
البشر قد ينجم أحيانًا عن تعارض الوسائل التي يلتمسون بها تحقيق سعادتهم فسعادتك
مع شريكك في تلك القصة تتعارض مع سعادة زوجته وأبنائه كما تعارضت مع سعادة زوجكِ
السابق وأبنائك إن كان لكِ أبناء منه، فإذا ما طلب كل إنسان سعادة بغير أن يتوقف
طويلاً للتفكير فيما استلب من سعادة الآخرين أو من وطأهم بأقدامه بلا رحمة وهو
يهرول إلى سعادته الخاصة، فإن الحياة حينئذٍ تتحول إلى غابة لا ينال السعادة فيها
إلا الأقدر على اغتصاب أسبابها .. وإلا الأقل تفكيرًا في انعكاس سعادته تلك على
شقاء الآخرين، لهذا فلابد دائمًا من ضوابط تجعل الخروج على مألوف الحياة أمرًا لا
يمكن التسليم به بسهولة، ولابد أيضًا من أن يبذل كل إنسان عادل غاية جهده في ألا
يكون طريقه إلى سعادته مفروشًا بالضحايا من الجانبين، فإن فعل فقد حمى سعادته من
ظلم الآخرين وانتظارهم لانتقام السماء ممن ظلمهم، وإن لم يستطع أن يفعل وبعد
مجاهدة طويلة للنفس فليتحمل وليحاول أن يقلل بأقصى ما يستطيع مما يسببه للآخرين من
آلام .. وبشرط أن يرضي ربه وضميره وأن يقتنع اقتناعًا صحيحًا كاملاً بأنه لم يكن
أمامه بديل لما اختار إلا الضرر الأكبر وهو ضرر الإثم والخطيئة .
بهذا فقط تستقيم الحياة ..
ويظل الخروج على قوانينها هو الاستثناء الذي لا نسلم به إلا للضرورة القصوى، أما
استسلام الإنسان لأهوائه بلا مقاومة .. وانقياده الأعمى لهوى القلب بغير مغالبة
للنفس، واستسهاله كل ما يحقق سعادته الخاصة بغير وضع سعادة الآخرين في الاعتبار،
بمنطق الحياة القصيرة التي لا يعيشها الإنسان إلا مرة واحدة، فإنه لا يثمر إلا
الاضطراب والتفسخ والمزيد من الضحايا الذين لا ذنب لهم في تقلبات الأهواء، بل إنه
لا يثمر أيضًا سعادة حقيقية مبرأة من الإحساس بالذنب أو سلامًا نفسيًا أو
اطمئنانًا حقيقيًا للأيام . ذلك أن من لا يهتم بالآخرين هو أحق الناس بمعاناة
شدائد الحياة ، كما يقول عالم النفسي النمساوي أدلر .
ولا يقتصر هذا الرأي على
الزوج الذي يستسلم لهوى القلب بلا تردد أو توقف أمام مصلحة أبنائه وزوجته، وإنما
يشمل أيضًا الزوجة التي تضحي بسعادة أبنائها بلا مراجعة جادة للنفس واستسلام لنفس
الهوى، كما يشمل أيضًا الزوجة التي قد تساهم في إضعاف مقاومة زوجها لعواصف القلب
الخارجية بجفائها له وأنانيتها معه وانشغالها بنفسها التي تراها مركز الكون ناسية
أن العطف إنما يورث العطف وأن البغضاء إنما تورث البغضاء، فإن اتفقتُ معكِ بعد ذلك
في شيء فهو فقط في أن الزوجة إذا أصبح قلبها أسيرًا لغير زوجها واستنفدت كل
الوسائل لمقاومة ذلك، فإن الأكرم لها عملاً بمبدأ أهون الضررين هو أن تنفصل عن
زوجها حماية لنفسها من إثم الخيانة . وعملاً بنفس هذا المبدأ الشرعي ومن باب
الاستثناء الذي لا أسلم به إلا للضرورة القصوى فإني أرى لكِ بعد أن جرى ما جرى ولم
يعد في الإمكان سوى تقليل الخسائر بقدر المستطاع أن تحثي زوج كاتبة الرسالة على
ألا يطلق زوجته ما دامت راغبة في استمرار الحياة معه وما دامت تقبل بهذه التضحية
الجسيمة حرصًا على أبنائها فهي المضحية ولستِ أنتِ، ذلك أن منطقه في الإصرار على
طلاقها على غير رغبتها قبل أن يتزوجكِ وبدعوى أنه يعرف دينه ويعرف إنه لن يعدل
بينكما لهذا فقد آثر أن يظلمها مرة واحدة بدلاً من أن يظلمها باستمرار، هو بالفعل
منطق خاطئ، ولا ينم عن معرفة حقيقية بدينه ، فشرط العدل الذي قيَّد به الإسلام
الزواج من أكثر من زوجة إنما ينصرف في رأي الفقهاء إلى العدل بين الزوجتين في
المأكل والمشرب والملبس والمسكن والنفقة والمبيت، وقد حظر الله على من لا يثق في
قدرته على الوفاء بهذه الحقوق بالعدل الزواج من أكثر من واحدة، أما الميل الذي
حذّر منه الرسول الكريم في حديثه الشريف : "من كانت له امرأتان يميل لإحداهما
على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطًا أو مائلاً" فإنما يعني به
انتقاص تلك الحقوق لإحدى الزوجتين لا ميل القلب لواحدة . فالعدل في ميل القلب يدخل
في دائرة العدل الذي لا يستطيعه أحد وقد عفا عنه الله وسامح فيه عباده رحمةً بهم
وإدراكًا من خالقهم لاستحالته فكان الرسول الكريم يقسم بين زوجاته ويعدل، ثم يدعو
ربه قائلاً : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك قاصدًا
بذلك ميل قلبه إحداهن .
وبالتالي فإن شريكك يستطيع
أن يحتفظ بزوجته وأن يحفظ على أبنائه شكل الأسرة ما دام عاجزًا عن رد نفسه عن
هواها، بغير أن يخشى ربه إن لم يعدل في هوى القلب وبشرط أن يعدل في كافة الحقوق
الأخرى لكنه لا يريد فيما يبدو أن يتحمل حتى هذه التكاليف النفسية لسعادته التي يطلبها
معكِ ويريد أن يشرب رحيق السعادة صافيًا من شوائب بعض المعاناة النفسية مع زوجته
وأنتِ فيما أظن لا تضغطين عليه لقبول ذلك ولو فعلتِ لما تردد .. فافعلي يا سيدتي
وتخلصي أنتِ أيضًا من رغبتكِ في ارتشاف الرحيق بغير شوائب واعتبري ذلك قربانًا
تقدمانه على مذبح سعادتكما عسى أن يخفف بعض آلام ضحاياها ولا تترددا في قبول
الشوائب الضرورية .. إذ أي الناس تصفو من كل الشوائب مشاربه ؟
رابط رسالة الشتاء الكئيب تعقيبا على هذه الرسالة
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر