القائمة الرئيسية

الصفحات

لحظة سعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 

لحظة سعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 لحظة سعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990


هل تتذكرني ؟ أنا الطالبة التي كتبت لك منذ 3 سنوات وهي تستعد للذهاب من بلدتها إلى القاهرة للالتحاق بكلية الحقوق وتطلب منك أن تدعو إلى توحيد الزي في الجامعات حتى لا يبدو مظهر البسطاء من أمثالي رثا وفاضحا وسط مهرجان الأزياء الذي تقدمه الطالبات القادرات في الجامعة .. ورويت لك صعوبة ظروف أسرتي الريفية البسيطة وكيف أن أبي - أعانه الله على أحماله - لا يستطيع أن يوفر لي ثمن فستان أو حذاء ادخل بهما الجامعة .

لقد نشرت هذه الرسالة وأسميتها "القضية" وتعاطفت معي .. ودعوتني لزيارتك .. ثم نشرت في الأسبوع التالي أن قارئات وقراء عديدين اتصلوا بك ويصرون على تقديم هدايا وملابس لي  .. وأنك كنت ترجوهم أن يحتفظوا بما يريدون تقديمه عندهم حتى تستدعيني ونجحت في إقناعهم بذلك ماعدا قارئة واحدة جاءت إلى المكتب في غيابك وفشلت كل الجهود في إقناعها وتركت حقيبة ملابس ضخمة وانصرفت ثم استدعيتني فجئت إليك من بلدتي الريفية القريبة من القاهرة خجلى فأقنعتني بقبول هذه الهدايا .. وانصرفت من عندك محملة بالملابس وحقائب اليد والأحذية والهدايا المالية .. وأصررت على أن ترسل معي من يوصلني إلى محطة السكة الحديد .. وعدت إلى بلدتي وأنا لا أصدق نفسي ورویت لأبي الفلاح الطيب وأمي المجاهدة ما حدث فتعجبا .. وتقبلا الأمر راضين وشاكرين وجاء موعد الدراسة فذهبت إليها مرتدية أحد فساتين الحقيبة وأحد أحذيتها وامسك في يدي حقيبة يد من حقائبها .. وشكرت الله أن جنبني الحرج بین زمیلاتي وواصلت دراستي بنجاح والحمد لله فنجحت في السنة الأولى والثانية والثالثة بتقدير جيد .. ووصلت الآن إلى الليسانس .. وأتمنى من الله أن انجح هذا العام بتقدير محترم .. وقد انتهيت من استذكار مقرر الليسانس منذ أيام وبدأت المراجعة الأولى له وأتمنى التوفيق من الله.

وقد ظللت طوال السنوات الثلاث الماضية ارتدي هذه الفساتين ومازلت أرتديها حتى الآن كما أن الله سبحانه وتعالى قد فرج عنا قليلا فاشتريت بعض الملابس التي ساعدت معها في احتفاظي بمظهري البسيط والحمد لله كثيرا على كل ذلك ومازلت أقيم في

المدينة الجامعية، وأذهب لزيارة أسرتي مرة كل شهر .. وقد قرأت رسالة "القلوب الوحيدة" والتي تشكو فيها سيدة من وحدتها عندما يسافر زوجها وتطلب صداقة الوحيدات من مثيلاتها ففكرت في أن أكتب إليك لتعرض على هذه السيدة الكريمة صداقتي فأنا مثلها وحيدة في القاهرة .. وزميلاتي يخرجن من المدينة الجامعية بين حين وآخر ليزرن أقاربهن في العاصمة .. فتذهب هذه إلى عمها .. وتلك إلى خالتها .. وأبقى أنا بين جدران حجرتي وأريد أن يكون لي من أزورها في هذه المدينة الصاخبة .. فهل تقبل هذه السيدة الوحيدة أن أزورها من حين إلى آخر الآن وبعد أن أتخرج إن شاء الله ؟

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لست اشك في أن هذه السيدة الفاضلة سوف ترحب بصداقتك فأنت فتاة كريمة مكافحة تسعد أية سيدة بمعرفتها .. فاتصلي بي مساء الاثنين القادم لأبلغك باسمها وعنوانها بعد استئذانها .

يبقى بعد ذلك أن أقول إنني مدين لك بلحظة سعادة من تلك اللحظات القليلة التي تجود بها الحياة من حين إلى آخر .. عشتها وأنا اقرأ رسالتك وأحاول استدعاء تفاصيل قصتك من غياهب الذاكرة المرهقة .. واستعيد صورتك وأنت تتعثرين في خجلك حين جئت إلى مقابلتي وصورة تلك القارئة الشابة التي شغلت مكتبي بحقيبة ملابسها الهائلة الحجم ورفضت التنازل عن ذلك مهما فعلنا .. ووجوه الأحباء الذين جاءوا إلي يعرضون مساهماتهم وهداياهم لك.

 يا الهي ما أسرع ما تجري أمور الحياة ، كما قالها صادقا الخراط العجوز بطل قصة تشيكوف الرائعة "محنة" .. كأنما يكتشف هذه الحقيقة الكونية لأول مرة !

نعم .. ما أسرع ما تجري أمور الحياة يا آنستي .. فها أنت قد بلغت السنة الأخيرة من دراستك الجامعية بنجاح وقد مضت السنوات بغير أن تعاني من تلك المشكلة التي تعتقدين - في قمة انشغالك بها - أنها أصعب مشاكل الحياة .. فهل كنت تتصورين ذلك وأنت مستغرقة في هذه المشكلة الثانوية ؟ إن استغراقنا في مشاكلنا الوقتية ينسينا أحيانا أنها مهما بلغ من تعقيدها ليست في النهاية سوى عقبة من عقبات الطريق ومشكلة من مشاكل الحياة سوف تجرفها أمواجها فيما تجرفه من صخور وجنادل بدت لنا في بعض الأوقات وكأنها الجبال الرواسي .. في حين أننا لو صمدنا لها واستعنا بالصبر والكفاح والأمل والإرادة عليها .. ومددنا البصر إلى ما بعدها لأصبحت ذكرى من ذكريات الشقاء التي تحفل بها حياة كل إنسان ، ولو فعلنا ذلك لتعاملنا معها في إطارها الصحيح .. ولعرفنا دائما أن الحياة فلك دوار لا يتجمد عند آلامنا وحدها .. ومن المستحيل أن يتجمد عندها ولخطونا فوقها كما خطونا من قبل فوق ما هو أقسى منها وكما سوف نخطو فوق غيرها في المستقبل ... فغدا له رزق جديد ، كما قال الإمام الشافعي .. وغدا له أمل جديد دائما في أن نتخلص من آلامنا ونحقق ما تهفو إليه نفوسنا من السعادة .. أليست هذه هي عبرة رسالتك الجميلة هذه .. أم تراني قد سرحت بعيدا عنها ؟

رسالة القلوب الوحيدة

رابط رسالة القضية 

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير 1990

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما ستشربه غدا

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود