القائمة الرئيسية

الصفحات

الشقيقان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

بريد الجمعة عام 1989


 الشقيقان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


 

تفتحت عيناي على الحياة فوجدت نفسي أحد ابنين لأب عامل فني بأحد المصانع وأم طيبة مستسلمة دائما لأقدارها .. نقيم في شقة صغيرة في أحد الأحياء الشعبية .. وقد التحقت مع شقيقي الذي يكبرني بعام واحد بمدرسة الحي فأظهرنا تفوقا طيبا رغم ضيق الحال وكانت مكافأتي من أبي كلما حصلت على الدرجة النهائية في أي اختبار هی قرشا كاملا يعطيه لي بأريحية .. وأتلقاه بفخر واعتزاز فأشتري به بعض الحلوى التي أصر على اقتسامها مع شقيقي الوحيد .

ومضت بنا الحياة فتقدمنا في الدراسة .. وشهدت حياة أبي تطورا مفاجئا لم استوعبه في حينه حين زف إلينا ذات مساء أنه سيترك المصنع الذي يعمل به ويفتتح لنفسه ورشة صغيرة لصنع علب الصفيح .. وأنه كان يعمل لهذا طوال عمره وادخر كل قرش ليجد من يبدأ به مشروعه، وأن أمنا قد حرمت نفسها من كل شيء لتساعده في تحقيق هدفه وأعطته قطعتها الذهبية الوحيدة ليدفع خلو المحل الذي يبدأ به مشروعه .. وسعدنا بهذا التطور وأمضينا ليلة سعيدة ونحن نحلم بأن تعرف حياتنا بعض الرخاء وبأن أعرف لأول مرة في حياتي الملابس الجديدة بعد أن عشت كل طفولتي وأنا أرتدي ملابس أخي القديمة وأحذيته .

وبدأ أبي مشروعه الجديد لكن حياتنا لم تختلف في شيء عما كانت عليه لأن العمل مازال في بدايته .. وأصبح أبي يخرج في الصباح ولا يعود إلا في المساء واستمر الحال هكذا عدة سنوات .. وصلت خلالها مع شقيقي إلى المرحلة الثانوية ثم نجح أبي عن طريق أحد عملائه الجدد في الحصول على قرض من البنك الصناعي الشراء ماكينة حديثة يسدد ثمنها بالتقسيط وجاءت الماكينة فزاد العمل والربح وانتظم في سداد الأقساط ولم تتخفف حياتنا من تقشفها وجفافها وواصلت وشقيقي دراستنا بنجاح .. وقد ربطت الحياة بيننا برباط متين ثم تزايدت أعمال أبي فطالت أوقات غيابه عن البيت فأصبحنا نمضي الأيام أنا وشقيقي بغير أن نراه وبدأت ألاحظ على أمي سهومها واكتئابها .. إلى أن كانت ليلة وكنت مستغرقا في النوم بعد ساعات طويلة من المذاكرة .. فصحوت على صوت بكاء ونحيب ففتحت عيني مضطربا فوجدت شقيقي نائما بجواري في هدوء فخرجت إلى الصالة فوجدت أمي تجلس على الكنبة وهي منخرطة في بكاء يمزق القلب .. وسألتها منزعجا فأجابتني بعبارة لم انسها أبدا بعد ذلك هي : أبوك تزوج .. ورحت أطيب خاطرها .. وأشد من أزرها حتى استسلمت لرغبتي ونهضت للنوم .. وأمضيت أنا الليل مؤرقا وتفكرت مع شقيقي في هذه المصيبة الجديدة .. واستقر رأينا على أن نركز جهدنا على التخفيف عن أمي وأن نحاول ألا يؤثر ذلك على دراستنا .. وفوجئنا بعد ذلك بأيام بأمي الطيبة المستسلمة لأقدارها تطلب منا أن نزور أبي في مسكنه الجديد لأنه لا يصح أن يزوره الجميع ماعدا ابنيه .. واستسلمنا لرغبتها وذهبنا يا سيدي إلى مسكن أبي لتهنئه بزواجه من غير أمنا .. فاستقبلنا بمشاعر متضاربة من الفرح بمجيئنا ومحاولة التظاهر أمامنا بأنه لم يحدث شيء .. أما عروسه فقد قابلتنا ببساطة ورحبت بنا فأشفقت عليها لأنها كانت صغيرة في السن ولم أشك في أن الحرمان هو الذي دفعها لقبول هذا الزواج .. فلم أكرهها وقلت لأخي .. إنها ضحية مثلنا .. فلماذا نحاسب الضحية ولا نحاسب الجاني ؟

 

وازدادت حياتنا صعوبة بعد زواج أبي .. فقد ازداد تقتيره علينا في نفس الوقت الذي ازدادت فيه مطالبنا .. وازداد الأمر سوءا بعد إنجابه من زوجته الجديدة وإغداقه عليها وعلى أبنائه منها حتى بدأت لأول مرة أتساءل .. لماذا يحرمنا من أبسط الحقوق .. ويغدق بها وبأكثر منها على بيته الآخر .. فتسارع أمي بتحذيري : إياك أن يدخل الحسد قلبك فلا تعرف الراحة طوال عمرك فأعود إلى نفسي واستغفر الله من هواجس النفس الأمارة بالسوء.

..

وفي مثل هذه الظروف واصلنا تعليمنا بصعوبة شديدة وفي حرمان اشد، فتخرج أخي في إحدى الكليات الجامعية وتخرجت أنا في أحد المعاهد الفنية العالية وجلسنا ننتظر الوظيفة فإذا بأبي يستدعينا ويطلب منا العمل معه لأن الورشة تحولت إلى مصنع ولأنه يحتاج إلى من يقف إلى جواره من أبنائه .. فلم يتردد شقيقي وكان دائما هادئ الأعصاب في الاعتذار بأدب لأنه يريد أن يشق طريقه بعيدا عن هذا المجال .. ولم يتراجع أمام إلحاح أبي ولم يتأثر بكلامه العاطفي فلما يئس منه التفت إلي متسائلا : وأنت .. فعجزت عن الرفض وقبلت العمل معه وكنت قد انتهيت لتوي من أداء الخدمة العسكرية .. فسلمني العمل وحدد لي ٤٠ جنيها وهو راتب أقل مما يتقاضاه أي عامل فني في المصنع وحملني أعباء أكثر من عملي ، فرحت أعمل معه من الفجر حتى المساء بلا أي أمل في تحسين راتبي أو وضعي أو ادخار أي مبلغ لأبدأ به حیاتي أما شقيقي فقد بدأ رحلة البحث عن عمل عن طريق الإعلانات .. وكعادتنا معا في اقتسام كل ما يصل إلى أيدي أي منا فقد اقتسمت معه راتبي فأصبحت أعطيه أول كل

شهر ۲۰ جنيها ليواجه بها حياته في انتظار العمل .. وقد ظل عاما طويلا بلا عمل دخل خلاله عشرات المسابقات حتى وفقه الله في الحصول على وظيفة بالقطاع العام وبراتب يزيد عن راتبي من أبي فتوقفت عن إعطائه المصروف الشهري وقبض هو أول راتب له وأراد هو أن يسدد لي ما أعطيته من راتبي على أقساط كل شهر فرفضت وطالبته بتأجيل ذلك إلى أن يبني نفسه ويقف على قدميه.

 



ومضت الأيام بلا جديد ولا أمل .. حتى احتاج المصنع إلى ٤ عاملات جديدات وكلفت بالإشراف عليهن .. فباشرت مسئوليتي وحرصت على حسن معاملتهن لأني اعرف تماما معنى الحاجة إلى ممارسة عمل شاق كهذا العمل .. ولفتت نظري إحداهن بهدوئها وجمالها وأخلاقها وتقديرها لمعنى الكفاح في الحياة ووجدت مشاعري تتجه إليها فلم نمض شهور حتى كنا قد ارتبطنا عاطفيا .. وصارحتها من أول يوم أنني موظف مثلي مثلها وأنني لا املك سوى راتبي الضئيل ولا انتظر من أبي أي مساعدة الآن أو في المستقبل .. وأن لي إخوة من زوجة أبي هم غالبا من سيرثون هذا المصنع ، كما تنبئ الشواهد فلم يغير ذلك من مشاعرها تجاهي وإنما زادتها عمقا .. وبعد شهور أخرى اتفقنا على أن التقي بأبيها .. ففاتحت أمي في الأمر فقالت لي افعل ما تراه .. فمن حقك أن تسعد بعد أن شقيت طوال حياتك.

 

وانتهزت فرصة اختليت فيها بأبي داخل المصنع وفاتحته فثار ثورة عارمة ورفض الموافقة على اختياري ولم يكتف بذلك وإنما فصل فتاتي وقام بطردها من العمل أمام الجميع .. وأنا واقف أمامه مندهشا وشاعرا بالمهانة والذل .. ففاض إناء صبري ولم اعد احتمل أكثر مما احتملت فأعلنته أني مستقيل من العمل وخرجت مسرعا وراء فتاتي فلحقت بها في الشارع وهي تبكي وتتعثر في مشيتها من الخجل .. فلم أقل لها سوى إنني قد تركت أبي وأصبحنا معا بلا عمل فهل مازلت تريدنني ؟ .. ولم استطع أن امنع نفسي من الابتسام رغم الغيظ والقهر حين عجزت عن الكلام فهزت رأسها وهي مستمرة في البكاء بالموافقة .. فأمسكتها من يدهـا وقدتها إلى أقرب تاكسي وذهبت معها إلى بيتها وقابلت أباها وهو موظف متدين فاستقبلني الرجل استقبالا كريما .. ورويت له القصة كاملة وأكدت له أني لا أملك شيئا ولا حتى عملا في الوقت الحالي لكني سأكافح لأبني حياتي ولن يساعدني أبي في شيء ولن أرث شيئا .. فرحب الرجل وأعلن قبوله لي كما أنا وبلا أي مساعدة من أبي لكنه اشترط فقط ألا تتم الخطبة رسميا إلا إذا جاء أبي معي لأنه لا يقبل أن يزوجني ابنته بغير موافقته الأدبية ، فوعدت رغم عدم تفاؤلي بالمحاولة مرة أخرى ورحت أبحث عن عمل حتى وفقني الله للعمل في مصنع آخر بعد 3 شهور براتب يزيد على ضعف راتبي من أبي وبعد شهور أخرى استطعت أن ألحق فتاتي بالعمل معي في نفس المصنع .. ووجدت الوقت مناسبا لتكرار المحاولة مع أبي فذهبت إليه راجيا منه أن يشرفني بالذهاب معي لأبيها .. مع عدم التزامه بأي شيء من تكاليف الخطبة والزواج .. فرفض من جديد مؤكدا لي أن نجوم السماء اقرب إلي من الحصول على موافقته على هذا الأمر .. فعدت لأبيها الذي تمسك بموقفه مع ترحيبه بي وكررت المحاولة مع أبي ومع أبيها عدة مرات على مدى سنة كاملة فلم يتنازل أحدهما عن رأيه و استشرت أمي وأرسلت إلى شقیقي الوحيد في الحياة أستشيره وكنت قد حكيت له كل التفاصيل أولا بأول فأيدني في تركي العمل مع أبي وفي تمسكي بفتاتي وكتبت إليه هذه المرة اسأله النصيحة بعد أن يئست تماما من أبي وأبيها فأجابني إجابة غامضة وطلب مني أن انتظر وصوله خلال أيام ولم يشر لموضوعي بكلمة وانتظرت حتى جاء موعد وصوله من الخارج واقترضت سيارة رئيسي في العمل واصطحبت فتاتي معي وذهبت لاستقبله فكان عناقنا في المطار بعد غياب 3 سنوات ونحن اللذين لم نفترق طوال العمر وجمعنا الحب والغلب والإحساس بالظلم مؤثرا للغاية فقد انفجرت في البكاء كالطفل وأنا أعانقه بعنف وارفعه عن الأرض عدة مرات وبكى هو بشدة رغم قدرته على التحكم في مشاعره حتى بكت زوجته التي جاءت معه وبكت خطيبتي تأثرا والتفت في غمرة مشاعري إلى زوجته التي لم أرها من قبل والى طفلته الوليدة فرحبت بها وحملت ابنة شقيقي وحقائبه وركبنا السيارة ونحن نضحك بانفعال ودموعنا مازالت على وجوهنا .. أما لقاؤه بأمي فقد كان مناحة أخرى حاصرناها بسرعة لكيلا تفسد علينا فرحتنا .. وأقام أخي وزوجته معنا ويا سبحان الله يا سيدي فكأننا كنا نعرف زوجته طوال العمر فلم تحس بيننا بغربة ولم نشعر نحن بأنها غريبة عنا وأحببناها من قلوبنا وعرفت من أخي أنها نشأت يتيمة الأم وعانت من قسوة زوجة الأب ومن تأثر أبيها بزوجته الكثير وأن هذا هو أحد الأسباب التي قربت بينهما في الغربة .. واستسلمنا لمشاعرنا طويلا ولم اسمح لشقيقي بأن يغادرني لحظة واحدة بعد هذا الغياب .. فرحنا نتسامر طوال الليل .. ونمنا على نفس السرير الذي شهد فصول حياتنا نتحدث حتى أشرقت الأرض بنور ربها ولم أفاتحه في موضوعي .. ولا تحدث هو عنه وتفرغنا بالاحتفال به و بزوجته عدة أيام .. وفي اليوم الرابع طلب مني أن أحدد له موعدا مع والد فتاتي في المساء وقبيل الموعد فوجئت به يطلب من أمي وزوجته أن تصحبانا وذهبنا معا واستقبلنا الأب بترحيب وبعد قليل من المجاملات خاطبه شقیقي بهدوئه المعروف قائلا : بلغني يا سيدي أنك تتمسك بعدم إعلان خطبة ابنتك لهذا الشاب إلا إذا حضر معه أبوه وأنت محق في ذلك .. لهذا فقد حققت رغبتك وجئت من أقصى البلاد خصيصا لأطلب يدها منك .. فأنا أبو هذا الشاب وأخوه وليس لكل منا سوى الآخر وقد كلفني بأن أقدم إليك هذه الشبكة لابنتك .. ثم اخرج من حقيبته شبكة ماسية فاخرة وضعها أمامه .. ونظر إليه بهدوء فلم يملك الأب سوى الموافقة .. فإذا بزوجة أخي تطلق زغرودة طويلة فتجاوبها زغاريد شقيقة خطيبتي وأمها .. وتم كل ذلك أمامي وأنا مذهول .. فأنا لا اعرف شيئا عن هذه الشبكة ولا استطيع سداد ثمنها لو أردت وبعد أن عدنا للبيت سألته متحيرا كيف سأسدد ثمن هذه الشبكة الغالية فنظر إلي طويلا ثم قال : لقد سددتها من قبل يا أخي .. أنسيت نصف راتبك الذي كنت تدفعه لي شهريا قبل أن اعمل .. لقد حسبت حسابي فوجدت أن كل جنيه أعطيته لي كان يساوي عندي وقتها عشرة أضعاف قيمته بالنسبة لي الآن فسددت ديني لك بالعدل ولم أعطك أكثر من حقك .. أما ما تحتاجه للزواج بعد ذلك فسأقدمه لك قرضا تسدده حين تستطيع وبلا إرهاق.

 



ولقد مر الآن على زواجي عامان أنجبت خلالهما ولدا أسميته باسم شقيقي الوحيد وأنا منتظم في سداد ديني لأخي وأضع القسط بانتظام أول كل شهر في حسابه هنا بالبنك .. وقد تحسنت أحوالي في العمل وأصبحت رئيس قسم .. وتم تثبيت زوجتي فيه .. وشقيقي يخصص لأمي مبلغا شهريا رغم عدم تقصيري في حقها .. ويغمرنا بالهدايا في المناسبات .. وقد كتب إلي يطالبني بالاستعداد للاستقالة من العمل في نهاية هذا العام لأنه سيعود وينشئ مشروعا صغيرا يجعلني شريكا فيه بالمجهود ويشرف عليه هو إلى جانب وظيفته بالقطاع العام .. وكل شيء جميل في الحياة فأمي تحب زوجتي وترعى ابني وزوجتي تحبها وترعاني .. وتوصيني دائما بأمي ولا شيء ينغص حياتي سوى أن أبي قد نسي تماما أن له ابنين شابين أنجبهما من صلبه ، فلا يزورنا ولا يقابلني مقابلة مشجعة حين أزوره في المناسبات الدينية كالأعياد إطاعة لأمر ربي وابتغاء لمرضاته كما أنه قطع الصلة تماما بين إخوتي منه وبيني مع أني لا اضمر لهم حسدا والله على ما أقول شهيد .. وإنما يؤلمني فقط أن يكون لي إخوة لا اعرفهم ولا يعرفونني .. وأسألك كيف تموت مشاعر الأبوة فجأة في قلوب بعض الآباء تجاه أبنائهم وأنا من لا ينام الليل إذا اشتكى طفلي ألما ؟ .. وأسألك كيف يقسم الله قلوب بعض الآباء فيغمرها بالحب لبعضهم وبالقسوة على البعض الآخر .. ألسنا جميعا أبناءهم .. فلماذا يكرهون البعض ويحبون البعض الآخر يا سيدي وهل هذا يرضي الله الذي أمرنا بأن نخفض لهم جناح الذل من الرحمة.

إنني لا أريد من أبي شيئا .. ولا انتظر منه شيئا لكني اسأل فقط لماذا الظلم والقسوة على من لا يطلبون سوى رضاهم ومشاعرهم .. فهل عندك جواب عن هذه التساؤلات ؟

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

 كل ما بنا من خير فمن الله وكل ما بنا من شر فمن أنفسنا .. والله جل شأنه لم يقسم قلوب بعض الآباء والأمهات فغمرها بالحب والعطف على بعض الأبناء وبالكراهية والجفاء والفتور للبعض الآخر لكنها نفوسنا حين تستسلم لنوازعها وتعمى عن نداء العدل والحق .. فحتى لو كان ثمة ضرورة للتفاضل بين الأبناء في قلوب بعض الآباء والأمهات فهو تفاضل ينبغي أن يكون في مراتب الحب فيكون الحب لبعض الأبناء والحب الزائد للبعض الآخر .. هذا إن لم يستطع المرء أن يسوى في قلبه بين كل أبنائه .. وبشرط ألا ينعكس هذا الإحساس على الأبناء في فعل أو تصرف يميز هذا عن ذاك ونحن من أمرنا بأن نعدل بين أبنائنا ولو في القبل .. فكيف يكون الحال في الرعاية والإنفاق وتوريث الأملاك.

 

لكن لماذا تشغل نفسك بكل هذه الخواطر المؤلمة وأنت من اختار لنفسه أن يعيش بعمله غير نادم ولا محروم .. لقد أرضيت ربك يا صديقي تماما في تعاملك مع أبيك فإن كان قد أصر على ظلمه لك ولأخيك ولأمك فما هو إلا طائره الذي سيحمله في عنقه يوم الحساب .. وما هو إلا القاطع لرحمك وأنت المقطوع به .. ولا يسأل المرء عما لم يرده لنفسه ولم يرض به وإنما يسأل عنه من جناه ومن اختاره بملء إرادته.

 

فاسعد بجوانب حياتك الأخرى ولا تأس على شيء فاتك .. فقد يحمل إلينا التدبير الإلهي أحيانا بعض ما نكره لكي يحقق لنا بعد حين أجمل ما نحب .. وإلا فكيف تفسر لي هذه العلاقة الإنسانية الحميمة التي تستدر الدمع والمرء يتابع صورها النبيلة بينك وبين شقيقك الوحيد وكيف تفسر لي هذا التراحم والتعاطف الذي يظلل حياتكم مع كل من يستظل بخميلتكم البسيطة من زوجتك إلى زوجة شقيقك التي أحببتموها وأحسستم كأنها قد عاشت عمرها معكم منذ أول لقاء .. أليس هذا هو التعويض الإلهي الذي وصل به الله سبحانه وتعالى ما قطعه أبوكم من علاقات المودة والرحمة ؟

 

أو ليست هذه هي المحنة التي صهرت المشاعر فقامت بتنقيتها من الشوائب فلم يعد لكل منكم في قلب الآخر سوى الحب والعطف والرحمة .

 إن شجرة الحب لا يفوح منها سوى أريج العطر وشجرة الكراهية لا تنفث إلا البغضاء لهذا فلا مكان في خميلتكم إلا للمشاعر الإنسانية النبيلة ولا مكان فيها لكراهية أحد حتى ولو ظلمكم ولا يبقى بعد ذلك سوى أن تفعل كما فعل أخوك العقلاني المتزن وتوفر على نفسك معاناة لا طائل وراءها سوى إفساد ما أتاحته لك الحياة من أسباب السعادة وثق أن الله لن يتخلى عنك وعن شقيقك فما حرمتما منه قد لا يساوي الكثير بالنسبة لما تستطيعان تحقيقه معا بتعاطفكما وإخلاصكما .. ومن يدري أليس من المحتمل أن يأتي يوم يطلب فيه عونكما من نال ما لا يستحق لأن كل بناء يرتفع على غير أساس من العدل لابد أن ينهار ذات يوم.

 وإذا كان الأمر كذلك فأي شيء في الحياة يستحق أن تأسى عليه سوى الصحة والسعادة وراحة البال وقد من الله بها عليكم جميعا ؟ يا صديقي اصبر كما صبرت من قبل إلى أن يحكم الله بينك وبين من ظلمك وهو خير الحاكمين والسلام .

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس عام 1989
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما ستشربه غدا

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود