القائمة الرئيسية

الصفحات

هدية من السماء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

هدية من السماء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


هدية من السماء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

هل تذكرون قصة الطفل الوليد خالد الذي عثر عليه طبيب فاضل بإحدى مدن الوجه القبلي فضمه إلى أسرته رغم أن لديه ٤ أطفال، ثم كتب إلي بعد شهور يطلب مني اختيار أسرة محرومة من الإنجاب لكي تضم هذا الطفل الوليد إليها واشترط لذلك أن يحتفظ الطفل باسمه الثلاثي الذي تم استصدار شهادة ميلاد له به وأن يكون من حقه أن يزور الأسرة التي يقع عليها الاختيار من حين إلى آخر ليطمئن على هذا الطفل المحروم ويتابع تنشئته.

 لقد نشرت رسالة هذا الطبيب في الصيف الماضي بعنوان "العطر الأخاذ" لما شممته بين سطورها من عطر إنساني أخاذ وتلقيت بعد النشر عروضا من أسر عديدة تطلب ضم هذا الوليد المحروم إليها فنشرتها بعنوان "العطر الفواح" وطلبت مهلة قصيرة لدراسة هذه العروض والتشاور مع الطبيب في أمرها ثم اتصل بي مصري يقيم في ايطاليا يطلب انتظار عودته لمصر في أجازته ليقدم عرضه فأجلت المهلة حتى عاد والتقيت به ثم درست العروض كلها أو اخترت منها ما رأيت أنه تتوافر فيه الظروف التي حددها راعي الطفل المحروم وأولها أن ينشأ في بيت يتردد فيه ذكر الله كل يوم .. واتصلت بالطبيب تليفونيا في مدينته البعيدة وعرضت عليه هذه العروض وتبادلنا الرأي حولها وزكيت له بعضها وتركت له الوقت للتفكير في أفضلها .. ومس قلبی تأكیده لي أنه لن يتعجل الاختيار لأن الطفل وديعة أودعتها السماء لديه وأنه قد أصبح عضوا في أسرته وأحبته زوجته وأحبه أبناؤه الأربعة حتى بدأوا يلحون في الإبقاء عليه معهم إلى النهاية لكنه يحاول تغليب العقل على العاطفة ويرى أن من مصلحة الطفل أن ينشأ في أسرة لم ترزق أطفالا لكيلا يواجه فيما بعد مشاكل التفرقة بين الأبناء، ولكي تسعد به هذه الأسرة ويسعد هو برعايتها.

 وانتهى الحديث بيننا على وعد بالاتصال مرة أخرى لأعرف قراره .. ثم جرفتنا مشاغل الحياة أسابيع وشهورا حتى وجدت في بريدي هذا الأسبوع هذه الرسالة من صديقي الطبيب يقول لي فيها :


حضرت إلى القاهرة لأشارك في المؤتمر العلمي عن أمراض التخاطب بجامعة عين شمس واتصلت بالأهرام لألتقي بك لأول مرة فعلمت من المكتب أنك بعافية وسلامة في البيت فأسفت لذلك وتمنيت لك الصحة وعدت إلى بلدتي وها أنا اكتب لك لأبلغك بما حدث بعد اتصالنا الأخير ، فلقد وضعت جميع العروض التي أبلغتني بها أمامي وفكرت فيها طويلا ووضعت مصلحة الطفل أمام ناظري وعاهدت الله ألا اسلم الأمانة إلا إلى أهلها .. وصليت صلاة الاستخارة عدة مرات واطمأن قلبي وضميري إلى اختيار الأخ المهندس .. لتسليمه الطفل ، فبادرت بالاتصال به ودعوته لزيارتي في مدينتي فشرفني بالزيارة مع السيدة الكريمة زوجته ووجدتهما فعلا أهلا للأمانة ولن أصف لك فرحة اللقاء بين أفراد الأسرة الجديدة فقد استقبلناهما بالفرح والترحيب واستقبلهما الطفل الوليد خالد بالفرحة والابتسامة السعيدة كأنه يعرف أن الله سبحانه وتعالى قد اختارهما لرعايته وحضانته وأنهما سيصبحان منذ هذه اللحظة أبويه اللذين يتوليان أمانة المسئولية عنه ، أما هما فقد لقياه بالشوق والحب وكأنه هدية السماء لهما وتفتحت له أبواب قلبيهما منذ اللحظة الأولى التي وقعت عليه فيها أنظارهما .. وفي غمرة الفرحة التي عمت الجميع لم ننسك يا سيدي بالدعاء والأمنيات الطيبة فشكرنا لك جهدك ودعونا لك ولأسرتك بالخير والسعادة وأمضت الأسرة الكريمة معنا وقتا جميلا معبقا بنسائم الخير والإنسانية ثم حان موعد الرحيل فاعددنا ابننا خالد لمصاحبتهما .. وحملت السيدة الفاضلة ابنها الجديد وامتدت الأيدي لتتصافح فإذا بالدموع تنساب في وداع خالد من زوجتي وأطفالي بل ومني أنا أيضا بعد أن استودعناه أسرته الجديدة ودعونا الله أن يسعدها به وأن يسعده بها .. وتحرك القطار إلى القاهرة وعدنا إلى بيتنا ومشاعرنا موزعة بين الفرح لخالد برعاية أسرته الجديدة وبين الحزن لفراقه .. وعشنا بعدها فترة ونحن نفتقده كثيرا ونتمنى له الخير .. ثم جاء هذا المؤتمر العلمي في القاهرة فانتهزت فرصة سفري للقاهرة لحضوره وزرت أسرة خالد للاطمئنان عليه فسعدت بما رأيت من الحب والعناية والرعاية التي يتمتع بها في حضانة هذه الأسرة بما كنت ربما لن استطيع توفيره له لو استمر في رعايتي .. فحمدت الله كثيرا على ذلك ... وأحسست بان من واجبي أن أبلغك بما تم لتطمئن أنت أيضا ولتسعد بما تحقق على يديك والحمد لله والسلام عليك ورحمته وبركاته.

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

الحمد لله أولا وأخيرا يا سيدي فهو من استودعك هذه الوديعة فحفظتها وتحملت تبعاتها وأديت أمانتها خير الأداء .. وهو أيضا من هداك إلى أسرة هذا المهندس الفاضل لتحمل عنك هذه الأمانة وتواصل رعايتها بعدك فالأمر كله منه واليه وما نحن في النهاية سوى أدوات ييسرها خالقها لتنفيذ مشيئته الواجبة الأداء

والتنفيذ .. فلقد قال لنا في كتابه الكريم "إنما المؤمنون إخوة" ، فنسينا ذلك كثيرا وتذكرناه قليلا لكننا كلما تذكرناه وعملنا به کانت النتيجة عملا إنسانيا رائعا كهذا العمل الذي قمت به أنت وشاركك فيه هذا المهندس الكريم .. فعسى أن نتذكر دائما تلك الحقيقة وأن نجعل منها دليلا لأعمالنا وتصرفاتنا .. وعسى أن نخجل من أنفسنا حين نتذكر أن أحد الحكماء في العصور الوسطى كان يطالب بأن تمتد هذه الأخوة لتشمل الإنسان والحيوان والطيور والنبات ويناجي الطيور السابحة في السماء فلا يناديها إلا بهذا النداء : أخي الطير .. فهل كثير بعد ذلك أن يوجد في الحياة من هم مثلك وأمثال غيرك من الفضلاء الذين يرعون الله في حياتهم وأعمالهم.

 رابط رسالة العطر الأخاذ

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما ستشربه غدا

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود