السجن .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990
أنا شاب من هؤلاء الأبناء الذين يعتبرهم الآباء جهازا من الأجهزة
المنزلية الغالية الثمن التي يحرصون على حمايتها من أي خطر .. ويغطونها بالمفرش
لكي يحميها من التراب .. فأبي يا سيدي يعمل في بلد عربي وقد درست مراحل دراستي
كلها بهذا البلد وبعد الثانوية العامة عدت لمصر مع أختي التي تكبرني لالتحق
بالجامعة وقبلت بكلية التجارة ومضت السنة الدراسية الأولى وظهرت النتيجة فإذا بي
قد رسبت مع إني وأقسم لك قد بذلت مجهودي العادي الذي حصلت به على الثانوية العامة
في البلد الذي درست به .. وما أن علم أبي وأمي بالنتيجة حتى قاما بحجز تذاكر السفر
لي ولأختي لنعود للإقامة معهما بحجة أن رسوبي في هذه السنة یعني أنني سأفشل في
دراستي وأنني سأصادق أصدقاء السوء وسوف يجرفونني إلى إدمان السموم البيضاء والى
الانحرافات مع أني لم أعرف في مصر سوى صديقين من أبناء نفس الحي يعرفهما أبواي
جيدا ولا غبار على أخلاقياتهما إطلاقا لكن الرعب من السموم البيضاء آثار الفزع في
نفوس الآباء إلى درجة خطيرة فلم يعودوا يفرقون بين أصدقاء السوء وأصدقاء الخير .
فلقد أصر أبي
على حرماني من الحياة في مصر بعد أن اعتدت عليها وأعادني للبلد الذي يعمل فيه ولم
استطع الالتحاق بالكلية هناك سوى منتسبا فأصبحت أمضي أيامي كلها نائما ومتكاسلا لا
هم لي إلا الأكل واللبس ومشاهدة التليفزيون وأصبحت واحدا من ضحايا خوف الآباء على أبنائهم
من هذه السموم حتى أصبحوا يتمنون لو كانوا يستطيعون
أن يحبسوا ابنهم إلى جوارهم طوال الوقت فلا يخرج ولا يصادق أحدا ولا يتحدث مع أحد
خوفا من أن يجره إلى الهاوية وليس من حق الابن بعد ذلك أن يخرج من البيت إلا مع أهله
.. وليس من حقه أن يحصل على مصروف يد لأن كل شيء يطلبه سوف يحضرونه له .. فلماذا
يريد النقود إلا إذا كان يريد شراء هذه السموم ؟ فهل هذه حياة شاب يا سيدي .. وما هو ذنبي في وجود السموم البيضاء
وانحراف بعض الشباب لكي يحرمني ذلك من حقي في أن أذهب وأجئ وحدي وأن يكون لي أصدقاء
من سني أشاركهم أفكار الشباب واهتماماته .
إنني أعيش حياة كئيبة في البلد الذي يعمل به أبي
واشتاق إلى مصر وأريد العودة للحياة فيها .. وأريد أن اعتمد على نفسي لأستطيع أن أواجه
الحياة لكن أبي وأمي يرفضان تماما فكرة أن أعود للإقامة مع أختي وحدنا والدراسة في
مصر .. وقد عدنا الآن للقاهرة في الأجازة الصيفية التي أوشكت على الانتهاء وأبي وأمي
من قرائك المتابعين لآرائك .. فأرجو أن تكتب إليهما حتى يفرجا عني من هذا السجن
ولك شكري وتقديري .
ولكـاتب هذه الرسالة أقول :
المغالاة في
الخوف من المرض قد تكون أحيانا اکثر ضررا على النفس والجسم من المرض نفسه، لهذا فإن
أبويك مطالبان بالاعتدال في خوفهما عليك من السقوط في هاوية الإدمان وأنت من ناحية
أخرى مطالب بأن تتفهم دوافعهما لهذا الفزع المغالى فيه .. فلا شك أن رسوبك في عامك
الدراسي الأول بمصر قد أثار هواجسهما وأحدث شرخا خطيرا في جدار
الثقة
التي وضعاها فيك ، ومسئوليتك أنت الآن هي أن تعيد ترميم هذا الجدار بالتزامك
بالسلوك القويم ومضاعفة جهدك الدراسي لتبدد فزعهما وتقنعهما بخطأ هواجسهما.
والحق أني لست من أنصار إقامة فتى وفتاة مثلكما
وحيدين في القاهرة وأبواهما في الخارج في هذه السن الحرجة إلا إذا لم يكن أمامهما
بديل آخر .. فإذا كانت ظروف أسرتك تسمح لكما بلم شملكما تحت سقف واحد فماذا يمنعك
من أن تحظى برعاية أهلك خلال السنوات الباقية من دراستك وأن تتمتع بها إلى أن تنهي
دراستك ثم تصنع بحياتك بعدها ما تشاء .. لذلك فإني لن أطلب
من أبويك بالسماح لك بالعودة للإقامة وحيدا في مصر لكني سأطالبهما بأن يكونا أكثر
ثقة بك وأكثر إيمانا بأن الله خير حافظ و بأننا مهما بذلنا من جهد ومهما استسلمنا
للهواجس والمخاوف فإننا لا نملك لأبنائنا إلا أن نؤدي واجبنا في رعايتهم وأن نحاول
بقدر الإمكان تعميق القيم الدينية والخلقية في وجدانهم، ثم لن يكون من أمرهم بعد
ذلك إلا ما شاء الله لا ما شئنا نحن.
فإذا انتهينا إلى هذا الإيمان استراحت نفوسنا واطمأنت
خواطرنا وسلمنا بما ليس في مقدورنا إلى من في مقدوره كل شيء عز شأنه .. كما سأطالبهما
أيضا بأن يعطياك حقك الطبيعي في الخروج وحيدا من حين لآخر وفي مصادقة بعض الشباب
ممن يستريحان إلى أخلاقهم وفي الحصول على مصروف شخصي معتدل ، وفى أن يكون لك قدر
عادل من الاستقلال الشخصي الذي يساعدك فعلا على الاعتماد على نفسك ومواجهة الحياة
فيما بعد مقابل أن تشجعهما أنت على ذلك بالالتزام الخلقي والتفوق الدراسي .
أما السجن
الذي تتحدث عنه فما
أكثر من يغبطونك عليه ويتمنونه لأنفسهم لولا أن الحياة لا تعطي كل إنسان أحيانا ما
تهفو إليه نفسه .. ولعلك تقرأ رسالة "صوت الصمت" المجاورة لتعرف كم هي
محنة قاسية ألا يكون للإنسان أحيانا أب وأم يشكو من مغالاتهما في الحرص عليه
وحمايته من الأخطار !
ولعلك تقدر لهما هذا الحرص حتى ولو مبالغا فيه إذا أدركت هذه الحقيقة البديهية التي تغيب أحيانا عن بعض الأبناء في غمار انشغالهم بالشكوى وهي أن أبويك يا صديقي لن ينالا جائزة نوبل لتربية الأبناء إذا نجحا في حمايتك من السقوط في هاوية الإدمان ولن يعطيهما أحد شيكا بمليون جنيه تقديرا لجهدها في ذلك وتعويضا لهما عما كابداه من الخوف والقلق عليك وإنما أنت أنت من سيجني ثمار هذا الخوف وهذه الرعاية حين تنجو بنفسك من الانحراف وتعيش حياة ناجحة سوية لست فيها عبدا للسموم البيضاء ولا أسيرا لها .. فهل فكرت في ذلك من قبل ؟
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سبتمبر 1990
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر