صوت الصمت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 صوت الصمت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990


صوت الصمت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

في قلب الإنسان المنصف متسع دائمًا لهموم الآخرين إلى جانب انشغاله بأموره ومشاكله .. وكلما اتسع هذا المكان في قلبه كان الإنسان غيرْيًا يضع الغير في اعتباره ويهتم بأمورهم وكلما ضاق أو تلاشى كان الإنسان فرديًا أنانيًا يرى الحياة من زاويته فقط ومصالحه واعتباراته وحدها .

عبد الوهاب مطاوع


توفي أبي وكان تاجرًا للحديد المسلح تاركًا لنا ما يكفينا من النقود فواجهت أمي الحياة وحيدة مع ستة أطفال أكبرهم في الثالثة عشرة من عمرها ، وأرادت أن تخفف عنها بعض مسئولياتها فزوجت أختي الكبرى في سن السابعة عشرة من رجل فاضل وبعدها بقليل زوجت أختي الثانية في نفس السن أيضًا ، فأصبحت أنا البنت الوحيدة بين ثلاثة أشقاء ذكور ، وشاء قدري أن تمرض أمي وأن تلازم الفراش عامين كاملين بلا حراك فأصبحت المسئولة عن رعايتها وخدمتها وخدمة أشقائي ، وواجهت صعوبة شديدة في التوفيق بين واجبي تجاه أسرتي وبين دراستي ، وكنت طالبة في الثانوية العامة حين اشتدّ المرض على أمي وأسلمت روحها لبارئها .

 

وتقدمت للامتحان بعدها بأسابيع فرسبت ، ووجدت نفسي وأنا في الثامنة عشرة من عمري مسئولة عن نفسي وإخوتي وحصلت على الثانوية العامة والتحقت بالجامعة الأمريكية – ولم يكن لنا أصدقاء لأن أمي كانت تؤمن بأن الصديق قد يفسد صديقه فنشأنا "في حالنا" واعتدت أنا ألا أشرك أقاربي في مشاكلنا وأن أواجه كل الأمور وحدي بلا سند واخترت ذلك رغم مشقته لكي أتجنب أن تصبح أمور حياتنا مشاعًا في بيوت الأقارب واستراحوا هم لذلك وابتعدوا عنا وتركونا نواجه أقدارنا وحدنا ، وفي هذه الفترة بدأ إخوتي يكبرون ويقضون معظم أوقاتهم خارج البيت فازداد إحساسي بالوحدة وحاولت التغلب عليها بالقراءة والانهماك في الأعمال المنزلية وسماع الموسيقى لكني كنت أتمنى أحيانًا أن يكون لي خطيب أتحدث معه وأحس بالقلق اللذيذ وأنا أنتظره في البيت كبقية زميلاتي .. وكنت حين أحضر زفاف زميلة لي أقارن بين حالها وهي بين أبيها وأمها حيث الأمان والاطمئنان .. وحالي يوم زفافي حين أكون وحيدة بلا أب ولا أم ، وأتساءل هل قدرت زميلتي هذه "النعمة" التي هي فيها أم أن اعتياد الأشياء يفقدها قيمتها ؟

 

وكانت كل حفلات الزفاف التي أحضرها لفتيات أصغر مني في السن ، لأن ارتباطي بأشقائي دفعني لرفض كل الفرص الجيدة التي أتيحت لي في ذلك الوقت ، ومضت بي الأيام وتخرج شقيقي الأكبر وتزوج فور تخرجه من زميلة وسافر للعمل بدولة عربية ، وتخرج بعده بعامين شقيقي الثاني وتزوج أيضًا فور تخرجه وعمل طبيبًا بأحد المستشفيات الاستثمارية ، وتخرج شقيقي الثالث وهو أصغرنا جميعًا وتزوج بعد تخرجه بعامين وانتقل للإقامة في الإسكندرية حيث يعمل عملاً حرًا فيها .

 


 

ومضت الأيام ووجدت نفسي اليوم أحتفل بعيد ميلادي الخامس والثلاثين وحدي وبلا معايدة أو تليفون من إخوتي الذين لم يتذكروا عيد ميلادي وقد أصبحت زيارتهم لي عملة نادرة وحسوبة بالدقيقة وبالثانية .

أما حين أمرض وأحتاج إلى من يرعاني فأعاني الكثير لكي يأتي أحدهم ويقيم معي بضعة أيام .. وأحياناً أمرض ولا أجد من يجلس إلى جواري فماذا جرى في الدنيا يا سيدي حتى أصبحت أعاني من مشكلة أني لا أتكلم مع أحد في بيتي وأعاني من الصمت .. وما الخطأ فيما حدث ؟

هل أخطأت من البداية لأني لم أهتم بنفسي على حساب إخوتي أم أخطأوا هم بانشغالهم عني .. إنها أسئلة كثيرة تدور في ذهني . ورأيت أن أكتب إليك بها لعلي أجد في الكتابة بعض الراحة .

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 في قلب الإنسان المنصف متسع دائما لهموم الآخرين إلى جانب انشغاله بأموره ومشاكله .. وكلما اتسع هذا المكان في قلبه كان الإنسان غيرا يضع الغير في اعتباره ويهتم بأمورهم وكلما ضاق أو تلاشی كان الإنسان فرديا أنانيا يرى الحياة من زاويته فقط ومصالحه واعتباراته وحدها .

 والحياة تزداد صعوبة كلما تراجع فيها استعداد البشر للاستماع للآخرين ومشاركتهم أمورهم ومشاكلهم ولو بالكلمة الطيبة . فما بالك إذا كان هؤلاء البشر هم أهله وعشيرته ، لا لم تخطئي يا آنستي بانشغالك بأمر إخوتك إلى أن تخرجوا وتزوجوا وانصرفوا عنك إلى حياتهم وإنما أخطأوا هم في حقك حين جرفتهم أمور الحياة اليومية عن الاهتمام بأخت لهم تكابد الوحدة بمفردها في شقتها الواسعة بل وقصروا أيضا في بذل الجهد المطلوب باستمرار وعلى المدى الطويل لمحاولة إتاحة فرص الزواج اللائق لك مع أن الساعي في زواج شقيقته ساع في عمل نبيل يقدره له الله ويجزيه عنه خيرا عميما حتى ولو لم يحقق هدفه .

 إن الوحدة تثقل على الرجال الأشداء . ويضعفون أمامها حتى ليتحول بعضهم إلى أشباه مجانين إذا كابدوها طويلا ، والروائي الروسي مکسیم جوري يقول "إن المرء في خلوته يكون أقرب إلى الجنون من الرشد .. إذا راقبت سلوكه" . فكيف بها مع آنسة وحيدة مثلك ؟ إن نصيحتي لك هي أن توسعي من دائرة صداقاتك مع زميلات العمل وأسرهن وأن تزوريهن وتستزيريهن كثيرا وأن تعيدي روابطك العائلية التي تقطعت خلال معركتك مع الحياة ، وألا تتوقفي عن زيارة شقیقاتك وأشقائك وأن تطالبيهم بحسم أكثر بحقك عليهم في الاهتمام بأمرك وفي زيارتك في فترات متقاربة ، وفي رعايتك والإقامة معك إذا مرضت ، وأطالبك بأن تكوني أكثر تمسكا بحقوقك عليهم .

 

فأنت لا تطلبين منهم خدمة تطوعية لهم أن يؤدوها أو لا يؤدوها وإنما بحق لك ليس مقبولاً منهم التقاعس عنه فالتهاون في حقوقنا لدى الآخرين قد يشجعهم أحيانًا على التكاسل عن أدائها واعتياد تجاهلها ، وأنت قد أديت واجبك كاملاً تجاههم وأفضل الأوقات لأداء الديون هو الوقت الذي يكون الدائن فيه في حاجة إلى دينه القديم ، وليس هناك وقت أفضل من هذا الوقت لكي ينهض إخوتك لأداء دينهم لك والاهتمام بك وإشعارك بأن حياتك الماضية لم تكن عبثًا بلا طائل ويبقى الأمل بعد ذلك في أن تجد وحدتك حلها الأمثل في حياة زوجية وأبناء يملأون عليك حياتك .. وتشكين من مشاكلهم لإخوتك كما يشكون لك على أن يكون في قلبك دائمًا وأبدًا متسع أيضًا لمشاكل الآخرين وهمومهم دائمًا بإذن الله .

اضغط هنا لقراءة رسالة السجن تعقيبا على هذه الرسالة

نشرت عام 1990 في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة

نقلها وراجعها / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات