القطة المتمردة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1996

القطة المتمردة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1996

                       القطة المتمردة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1996


قرأت رسالة "القطة المدللة" للزوجة التى كانت "آية في الجمال" منذ صباها وتزوجت وأنجبت بضعة أبناء, والآن تسئ معاملة زوجها وترى نفسها ثروة نفيسة من الجمال لا يستحقها زوجها وتفرق فى المعاملة بين أبنائها, فتميز من يمدحونها وينافقونها ويوافقون على موقفها من زوجها الصابر الذى ينغمس فى العمل هربا من المشاكل معها, وتنبذ وتسئ معاملة أبنائها الآخرين الذين لا يوافقونها على معاملتها الجافة لزوجها ويقولون لها إن الله سبحانه وتعالى لن يغفر لها ما تفعله به, وتضيق بهم إلى حد أن تصارحك بأغرب ما يمكن أن يرد على لسان أم وهو أنها "تكرههم" .. أي أنها تكره بعض أبنائها لهذا السبب.

ولقد سميت رسالتها "القطة المدللة" ورددت عليها ردا حكيما صريحا يحلل نفسيتها تحليلا صائبا ويكشف ما تشعر به هذه السيدة تجاه زوجها من إدلال عليه بجمالها وعدم اقتناع به رغم عشرة السنوات الجميلة.

وإني معك تماما فى كل ما قلته لها يا سيدي لكني أختلف معك فقط فى العنوان الذى أخترته لرسالتها وهو "القطة المدللة" وأفضل أن يكون العنوان هو"القطة المتمردة" لأنها كذلك ولأني رأيت نفسي للأسف في هذه الرسالة كأنما قد كتبتها عن نفسي مع بعض الاختلافات البسيطة, فأنا أيضا يا سيدي كنت قطة متمردة وكنت منذ صغري أية في الجمال , ومتفوقة في دراستي وأحلم باستكمالها حتى الشوط الأخير فيها, لكن أبي رحمه الله قد أوقف دراستي وزوجني رغما عني, ربما لأنه قد استشعر الخوف  علي من جمالي, وربما لأنه أراد أن يطمئن على استقرارى في عصمة رجل يحميني من الإغراءات المختلفة فيستريح قلبه, وكانت النتيجة أن تزوجت فى سن مبكرة وأنجبت أنا أيضا حفنة من الأبناء ككاتبة الرسالة, وفعلت مع زوجي للأسف نفس ما فعلت ومازالت تفعله هذه السيدة , فعاملته دائما باعتزاز شديد بنفسي وبشئ غير قليل من "القرف" كأنما كنت أقول له بغير كلام إنه يكفيه أنني قد تزوجته وما كان أصلا يستحقني, وحاسبته خلال رحلة العمر حساب الملكين على كل شئ وعلى كل هفوة, ولم آبه لشئ سوى إحساسي بالقوة معه وبرغبتي في الانتصار عليه ولأتفه الأسباب كنت أختصمه واعتزله وأبتعد عنه, فيروح يصالحني بصبر ويستعين بشتى الحيل والوسائل لكي أصفو له مرة أخرى وترجع المياه بيننا إلى مجاريها معتصما بالصبر وطول البال .. وكنت أستغل فيه بكل صراحة رغبته في كزوجة وأنا سيدة جميلة وهو رجل متدين ومستقيم الطبع ولا يعرف العبث, فإذا اختلفنا على شئ تافه لا يستحق الاختلاف حوله, افتعلت الغضب منه وابتعدت عنه, وترصدت محاولاته للاقتراب مني وواجهتها بجفاء, وراقبته خلسة وهو يحاول الصبر على نفسه لكيلا يقترب مني .. ويضطر للاعتذار عن خطأ لم يرتكبه, باستمتاع شديد, إلى أن يضعف نهائيا ويعتذر لي وهو غير مخطئ.

 

 وبدلا من أن أقدر له ذلك وأعتز برغبته في وإخلاصه لي كزوج كنت أتهمه بيني وبين نفسي بالحيوانية وأنه لا يهمه من الحياة سوى هذا الأمر, ولم يكن ذلك صحيحا, ولا عادلا, بكل أسف فلقد كان يضيق بالنكد ويريد أن يعيش فى سلام ويتفادى أسباب الخلاف معي ومع كل إنسان, ويستجيب لكل رغباتي بلا معارضة.

وكما فعلت كاتبة الرسالة مع أبنائها فعلت أنا أيضا يا سيدي فأحببت منهم من يسمعون إلى شكواي من أبيهم ويوافقونني عليها أو لا يعارضونني, وكرهت منهم من يدافعون عن أبيهم دائما ويعارضونني في موقفي منه, ويناقشونني في خلافاتي معه ويرونني مخطئة فيها ومتجنية على أبيهم الذى يرونه فى غاية الطيبة والرقة معي ومع الجميع .. وكانت النتيجة أن غمرت المؤيدين لي بحبي وعطفي وعطائي, ونبذت الآخرين وغضبت منهم وحرمتهم من رضاي وحناني, وكان أكثر هؤلاء المنبوذين تألما لموقفي منه هو ابنى الأكبر الشاب الرصين الذى تزوج واستقل بحياته عنى وأنجب طفلين والذى راح يحاول بكل وسيلة التقرب إلي ومصالحتي ونيل رضاي عنه بلا جدوى حتى يئس مني تماما وابتعد عني قانطا, وكان ابني هذا هو أقرب أبنائي لأبيه مع أن زوجي كان يحب كل أبنائه بلا استثناء ويعطف عليهم جميعا ولا يفرق بينهم فى العطاء والحب والمشاعر , لكنه يبدو أن وحدة الشعور بالظلم قد قربت بينه وبين هذا الابن المنبوذ أكثر من غيره من اخوته فضلا عن أنه الأكبر والأقرب لشخصية الأب وأفكاره .. ولست أعرف ماذا كان يقولولان عني فيما بينهما .. ولم أهتم بذلك ومضيت في طريق الجفاء إلى نهايته مع زوجي وهذا الابن, وإخوته المنبوذين .. فكأنما قد أراد الله أن يطيل لي حبال الصبر حتى يأخذني أخذ عزيز مقتدر حين يئون الأوان, وقد آن ذلك الأوان اللعين منذ حوالي عامين بكل أسف يا سيدي وتزلزلت الأرض فجأة تحت أقدامي .. فلقد لقي زوجي وابني الأكبر مصرعهما فى يوم واحد وفى حادث سيارة, كانا يركبانها معا وقضى على حياتهما معا كما عاشا متقاربين متفاهمين .. وصدمت صدمة العمر المروعة التي أذهلت عقلي وهزت كياني من الأعماق وعرفت بعد فوات الأوان قيمة الأيام التى كدرت صفوها بالكآبة والجدال حول أتفه الموضوعات وافتعال كل ما يعكر علي وعلى زوجي وأبنائي صفو الحياة .. وذقت معنى الحسرة الحقيقية وطعم الألم الحقيقي الذي يعتصر القلب بقسوة .. ويخنق الأنفاس, وليست تلك "الآلام" المرفهة المفتعلة التى كنت أشكو منها بسبب زوجي في أيام الجهل والحمق وعمى البصر والقلب, وأدركت بعد هذا الزلزال المدمر أن أبنائي الذين "كرهتهم" كانوا أحبائي الحقيقيين الذين كانوا يريدون لي أن أفيق من غيبوبتي وأرى الحياة بشكل أفضل وأكثر إنصافا, وأن أبنائي الآخرين الذين كانوا يسمعون لي في صمت ويوافقونني على الحق والباطل إنما كانوا أبناء سلبين معي ويؤثرون سلامتهم على حساب الحق والعدل والمصلحة فأعانوني بذلك ومن حيث لا يدرون على التمادي في الظلم والبطش بأبيهم وبباقي إخوتهم المنبوذين مني, أما زوجي الذي تمنيت ألا أعيش معه وشكوت منه أناء الليل وأطراف النهار ولم أر فيه ميزة واحدة وهو على قيد الحياة ويحاول بكل جهده إرضائي بشتى السبل, فلن تصدقني حين أقول لك أنني لا أتذكر له الآن إلا كل ما هو طيب وجميل ولا أتذكر من ملامحه سوى ملامح الألم فى وجهه وهو يصبر علي وعلى اتهاماتي له وقد عرفت الآن قدره وقيمته وأدركت فداحة خسارتي فيه.




 انتهزوا فرصة الأيام فإنها لا تطول, ولا تفسدوها بالشقاق والجفاء والنزاع حول أتفه الأسباب وأملأوا عيونكم من وجوه الأحباب والأعزاء فلعلكم لا ترونها بعد حين وارتفعوا فوق الصغائر والدنايا والسفاسف لتجعلوا من رحلة العمر إبحارا سعيدا فى نهر السلام .. فغدا تصل السفينة إلى مرفئها الأخير ويتفرق الركاب , فلماذا نفسد على أنفسنا أيام الرحلة القصيرة ولماذا لا نرضى بما سمحت لنا به الحياة من أسباب!

 

وفى نهاية رسالتي هذه فإني أشكرك كثيرا على نصائحك الغالية التى لم أقرأها للأسف إلا بعد فوات الأوان, وأطالب هذه السيدة بأن تستفيد منها وأن تزيل الغشاوة عن عينيها وتتوقف عن إيهام نفسها بأنها مظلومة وضحية ومغلوبة على أمرها فى حياتها .. فالأم هي قائد سفينة الحياة, وبمقدورها دائما أن تجعل الرحلة سعيدة وآمنة .. إذا أفاقت من الغيبوبة والضلال فى الوقت المناسب .. وليس بعد فوات الأوان والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

ولــكـــاتــبة هــذه الـرسـالـة أقــول:

 

فى أعماق الجحيم نتعلم الحكمة دائما يا سيدتي .. والسعداء من الناس هم من يعتبرون بتجارب الآخرين .. ويتعلمون دروسها الحكيمة بغير أن تستأديهم الحياة ثمن تجاربهم الباهظة من أمانهم وسعادتهم, أما التعساء منهم والموعودون دائما بالشقاء والمعاناة, فهم أولئك الذين لا يستبينون الرشد دائما إلا "ضحى الغد" وبعد أن يكون الأوان قد فات لتدارك الأخطاء وتمادوا إلى ما لا نهاية فى الغي والجهالة, حتى ضاعت فرصة الأيام, وتفجرت ينابيع الألم والشقاء في حياتهم .. فتزول الغشاوة حينذاك فقط عن قلوبهم ويهتفون شاكين متألمين مع الشاعر الأسباني الصريع جارسيا لوركا:

آه يا صوت حقيقتي .. آه يا صوت جنبي الجريح!

مع أن "صوت الحقيقة" هذا كان يتردد دائما فى الأجواء المحيطة , لكننا قد سددنا دونه الأسماع .. وكرهنا كل من حاول أن يلفت انتباهنا إليه واسترحنا وأحببنا كل من تجاهله معنا وأعاننا على عدم الاستجابة إليه.


أما الأكثر مدعاة للحزن والأسى حقا يا سيدتي, فهو أننا حين نبلغ مرحلة الحكمة وتتم لنا السيادة على أنفسنا والسيطرة على أهوائنا فإن شمس العمر تكون كما يقول الأديب العظيم برناردشو , قد أذنت غالبا بالمغيب ولم يبق لنا الكثير لكي نستفيد خلاله بالحكمة التى اكتسبناها.. وخبرة الحياة التي تعلمناها بدروس الألم, بعد التخبط الطويل فى التجربة والألم.

إن هذا هو المحزن حقا يا سيدتي وما يستحق من كل منا أن يقول لنفسه صادقا :أحزن على أنك لم تحزن لنفسك في الوقت المناسب ولم تردها عن غيها وضلالها حين كان فى مقدورك أن تتدارك كل الأخطاء وتنصف الآخرين منك وتعرف لهم أقدارهم وتسعد بالحياة بينهم وتسعدهم بها.

 

ومن هنا تأتي أيضا أهمية أن نراجع أفكارنا وحياتنا ومواقفنا تجاه الآخرين كل حين فى وقفة حساب مع النفس نتجرد فيها من الأهواء والمغالطات فلا نرضى لأنفسنا بالبغي على الآخرين أو الاجتراء على حقوقهم وأقدارهم ولا نغفل عن رؤية الحق فى مواقفهم منا وإدراك مزاياهم وفضائلهم التى ننكرها عليهم .. وفي الوقت المناسب لإصلاح الأخطاء وليس بعد أن تفرق بيننا وبينهم الأقدار.

 ومن هنا تأتي كذلك أهمية أن ننأى نحن بأبنائنا عن كل نزاعاتنا مع شركاء الحياة ومواقفنا منهم, وألا نشركهم فيها أو نطالبهم بالاختيار بيننا وبينهم فنعرضهم بذلك للتمزق بين الطرفين ونطالبهم بما لا طاقة لهم به ولا عائد عليهم منه سوى الضرر النفسي والألم في كل الأحوال ذلك أنهم إذا وافقونا صادقين فى مواقفنا وآرائنا فإننا نكون قد أفسدنا عليهم صفو مشاعرهم تجاه الطرف الآخر وسلامهم النفسي معه ورضينا لهم ببعض العناء الذى نشكو نحن منه وإن وافقونا غير صادقين فى مشاعرهم على مواقفنا اتقاء  لغضبنا منهم أو طلبا لرضائنا عنهم فإننا نكون بذلك قد أفسدنا عليهم بعض قيمهم الأخلاقية.

ودربناهم مبكرا على مخالفة ضمائرهم وإعلان غير ما يبطنون, ومناصرة الباطل على حساب الحق, فنعرضهم بذلك للإثم ونرشحهم للتعامل مع الحياة بقيم فاسدة ومعايير أخلاقية غير سليمة.

لهذا كله فإني أؤمن دائما بأن من واجب الأبوين أن يتحملا أقدارهما وحدهما ويجنبا الأبناء دائما محنة الاختيار بينهما والانتصار لأحدهما على حساب الآخر فإذا خرج أحد الأبوين على هذا المبدأ التربوي السليم فمن واجبه فى هذه الحالة أن يعين الأبناء على الانتصار للحق ويتقبل منهم شهادة الصدق ولو كانت في غير صالحه .. أما إرهابهم عاطفيا لكي يشهدوا بغير ما يؤمنون به ويستريح إليه ضميرهم, ونبذهم حين يفعلون ذلك فليس من العدل ولا من الرحمة ولا من التربية السليمة, وحكم من يدلي منهم بغير شهادة الحق إذا دعى إليها فى ذلك فى تقديري هو حكم من يدلي بشهادة الزور ومن يعين على الباطل فيأثم مع مرتكبه.

 

ورسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه يقول لنا ما معناه

"خير الأصحاب من إذا ذكرت الله عنده أعانك وإذا نسيت الله ذكرك, وشر الأصحاب من إذا ذكرت الله عنده لم يعنك, إذا نسيت الله لم يذكرك".

والأصحاب هنا يشملون كل من يقترب الإنسان منهم ويؤثرهم بمودته وفى مقدمتهم الأبناء ولعلك قد عرفت الآن يا سيدتي أن فريق المؤيدين من أبنائك لم يكونوا من خير هؤلاء الأصحاب لأنهم لم يذكروك بما نسيت ومن نسيت فى الوقت المناسب مع أنك كنت قد دعوتهم بالفعل للشهادة وأشركتهم فى مشكلتك مع أبيهم, فأعانوك بذلك وكما أدركت أنت الآن على التمادي فى الظلم والبطش بأبيهم وإخوتهم, أما فريق المنبوذين من أبنائك فلقد عرفت الآن أيضا إنما كانوا يريدون بك الخير .. لكن هكذا النفس الإنسانية غالبا يا سيدتي, تميل لمن يوافقها على أهوائها أو يزينها لها أو يلتزم عدم المعارضة الصريحة لها .. وتنفر ممن يخالفها ويذكرها بما تنساه ومن تنساه.

فإذا كان الأوان قد فات لتعويض الأعزاء الراحلين عما عانوه من ظلمك لهم بغير الحق ففي صدق الندم والاستغفار متسع للجميع, وفي الاعتراف لهم الآن أمام الأبناء والمحيطين بفضلهم وفضائلهم التي لم نتبينها للأسف إلا ضحى الغد, بعض ما يرد إليهم اعتبارهم ويحفظ لهم ذكراهم الطيبة فى نفوس الأعزاء .. وبعض ما يصحح أفكار من تابعونا على الباطل فى موقفنا منهم .. وهو واجب أخلاقي في عنقك تجاه زوجك الآن وهو بين يدي مولاه وتجاه ابنك الشاب يرحمه الله عليك بأدائه كاملا عسى أن يخفف عنك ذلك ويتشفع لك عند رب العرش العظيم, أما رعاية أحفادك واحتضان أحدهم فلا شك في أنه يخفف عنك أيضا بعض ما تشعرين به من تقصير في حق أبيهم الراحل, أعانك الله على أحزانك عليه .. وخفف عنك ناره المشتعله في صدرك.

 

 أما هواجسك بشأن مشاعر طفله الأكبر تجاهك فلا محل لها ولا خوف منها, فقلوب الأطفال لا تعرف أحقاد الكبار وحسابهم القاسي للآخرين, وهو لم يع موقفك السابق من أبيه ولم يجد لديك إلا كل الحب والرعاية والحنان ولن يحمل لك بإذن الله إلا مشاعر الولاء والعرفان, فلا تقلقي بهذا الشأن وواصلي رعايتك وعطاءك له بلا حدود.

 وأما نداؤك الأخير للقطة المدللة ..أو المتمردة كما تقولين فنداء صدق وعدل وخير لأنه صادر من أعماق الحسرة والألم والندم على كل ما راح ولن يعود, فعسى أن تتفهم القطة المتمردة عمق مغزاه, وعسى أن تتعلم الحكمة , وشمس العمر مازالت فى كبد السماء وأشعتها الارجوانية تغمر الأجواء.

وشكرا لك لاهتمامك النبيل , بإثراء خبرتها بدروس تجربتك المؤلمة .. وعلى نصائحك الحكيمة لها .. والسلام.

اضغط هنا لقراءة رسالة القطة المدللة 

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة"  يونيو 1996

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات