الانتقام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
قرأت رسالة خيوط العنكبوت التى
يحكي فيها إنسان عن مأساته مع فتاته التى أحبها وانتظرها 15 عاما حتى آن الأوان
وتزوجها بعد ثلاث زيجات سابقة لها فلم تلبث أن بدأت ألاعيبها للطلاق منه .. وكيف
تملكته الرغبة فى الانتقام منها بعد أن ظل أسيرا لها أكثر من 20 سنة فجردها من كل
شئ وانتزع طفلته منها وفر بها للخارج .. وتوقفت في ردك عند العبارة التى تقول له
فيها إن الرشيد حقا هو من لا يشعر فى نفسه بالرغبة فى الانتقام من أحد لأن عدالة
السماء كفيلة بأن تقتص له ممن أساء إليه اليوم أو غدا أو بعد حين.
فوجدت دموعي تسيل على الصحيفة, وأنا
أقرأ هذه الكلمات.. وقررت أن أكتب لك قصتي وأطلب رأيك فيها.
فلقد تفتحت عيناي على الحياة
فوجدت نفسي ابنة وحيدة لأب طاعن فى السن يعمل صائغا متوسط الحال, فى أحد أحياء
القاهرة العريقة .. وكنت ابنته الوحيدة فتركز كل حنانه في, لكنه لم يلبث أن رحل عن
الدنيا وأنا فى المدرسة الاعدادية فتركني وأمي وحيدتين تماما فى الدنيا لأنهما من
أصل تركي بعيد وقد هاجر معظم أقاربهما ولم يتبق من أسرتهما سوى بعض العجائز اللاتي
يعشن في الإسكندرية ولا نراهن الا فى المناسبات العائلية.. فواجهنا الحياة بعد
رحيل أبي وحدنا.. وتعاون الجيران الطيبون على رعايتنا وساعدونا فى الاجراءات
الرسمية, وفى بيع محل الصائغ وتسديد الالتزامات.. وإيداع ما تبقى من ثمنه فى البنك
لنعيش من عائده حتى اتخرج وأعمل ولم يكن بالكثير فعشنا حياة بسيطة متقشفه فى شقتنا
الواسعة القديمة في حي العباسية وواصلت دراستى حتى تخرجت من الجامعة وعملت فى احدى
الشركات الكبرى وتقدم لي شاب موظف يخطبني.
فاستشارت أمي رب أسرة الجيران
وكان رجلا فاضلا يعمل ناظرا لمدرسة ثانوية, فأجرى تحرياته عنه وعاد ينصحها بعدم
قبوله.. فرفضته أمي.. لكنه لم يقتنع بالرفض وعاد يلح عليها من جديد ويسوق إليها
الوساطات لفترة طويلة حتى لانت أمي ووافقت عليه بحجة أننا في حاجة إلى رجل
يحمينا.. وشجعني على قبوله أني وجدت في نفسي ميلا له.
وتم الزواج وكان شرط أمي الوحيد
أن نتزوج فى نفس الشقة وأن نعيش معها ورحب زوجي
بذلك .. وانتقل إلى شقتنا الواسعة التى جددنا بعض أثاثها وبعد عامين من
الزواج بدأ زوجي يتضجر من وضعه فى البيت ويقول أنه يشعر بأنه ضيف فيه وليس رجله
لأن كل شئ فيه بإسم أمي من عقد الايجار إلى عداد النور إلى التليفون .. ثم طلب
بصراحة تغيير عقد الايجار باسمه.. وسألني عن رأيي فسكت.. وسأل أمي عن رأيها فرفضت..
فهاج وماج وغادر البيت غاضبا وتركنا .. وانتظرت عودته فلم يعود فذهبت إليه فى عمله
فقال لي أنه لن يعود إلا بعد قبول شروطه.. وكنا قد اعتدنا على أن يكون لنا رجل كما
كنت أنا أفتقده.. فاحترنا ماذا نفعل وظللنا على هذا االحال 3 شهور وهو يرفض
العودة.. حتى استسلمت أمي ووافقت على تغيير العقد على أن يدفع هو للمالك المقابل
وكان الفين من الجنيهات هي كل ما كان يملكه من نصيبه فى شقة الأسرة التى استقل بها
اخوه وعادت حياتنا إلى طبيعتها.. ولم أكن قد انجبت رغم مرور 3 سنوات على الزواج
ورغم تأكيد الأطباء لي أنني طبيعية وأنه كذلك.. فبدأ يتهمني بتعمد عدم الانجاب منه
مع أنه لم يكن لي فيه حيلة وبدأ يغيب عن البيت كثيرا ويسهر إلى وقت متأخر.. فقد
عاتبته على ذلك لأننا وحيدتان ونحتاج إليه .. فانهال علي ضربا فإذا تدخلت أمي لحمايتي
انهال عليها هي الأخرى ضربا حتى أصبحت تخشاه وتتجنبه كأنه شيطان.
وأصبحنا تحت رحمته تماما.. يفعل
بنا ما يريد.. فاستولى على مرتبي ثم مصاغي الذي ورثته عن أبي ثم غير عقد التليفون
والكهرباء بإسمه وكلما ابدينا أي اعتراض انهال علينا ضربا وخرجت مع أمي هاربتين
إلى شقق الجيران ..وحدثت أكثر من مشاجرة بينه وبينهم تبادلوا فيها اللكمات وأصبحت
سيرتنا على كل لسان! واستقر خوفي منه في أعماقي حتى أصبحت لا أجرؤ على رفض طلب
له.. ولا أستطيع فى كثير من الأحيان أن أناقشه فى شئ.. فينعقد لساني إذا زجرني أو
زمجر فى وجهي ورغم تماديه فى العدوان علي فإني واعترف بذلك لم أفكر في طلب الطلاق
منه, لأني كنت أرغب فى الحياة معه.. وأحلم بأن تتحسن طباعه وأخلاقه بالعشرة
والانجاب الذى كنت أتوق إليه.. وفى يوم تجرأت على مناقشته فى امكانية أن يكتب عقد
الشقة باسمي واسمه لكي اشعر بالأمان والاستقرار فانفجرت براكينه واعتدى علي بالضرب
فحاولت فى ذعري أن أدافع عن نفسى فازداد هياجه وراح يطاردني بالشلاليت حتى باب
الشقة وأسرعت أجري لأنزل إلى الجيران فلاحقني بضربة قوية من قدمه جعلتني أتدحرج
على السلم.. وهو من خلفي لا يرحمني كلما نهضت حتى تصدى له أحد الجيران واشتبك معه
فأسرعت بدخول شقته.. ونصحنا الجيران باللجوء إلى الشرطة لتحمينا منه ولاجباره على
اعاده عقد الشقة مقابل اعطائه ما دفع للمالك.. لكن رعبنا منه لم يدع لنا مجالا
للتفكير.. فقد تسلط علي وعلى أمي الوهم بأنه أقوى من الشرطة ومن كل شئ وإننا لن
ننجو من شره مهما بعدنا عنه.
وتأثر رئيسي
في الشركة بحالنا فعرض علي انتدابي إلى فرع الشركة فى إحدى عواصم المحافظات لأقيم
بصفة مؤقتة فى استراحته مع أمي فقبلت شاكرة وانتقلت إلى تلك المدينة.
وبعد شهور من الإقامة هناك
نصحني زملاء العمل بتقديم طلب للحصول على شقة تعاونية من المحافظة والاقامة نهائيا
فيها.. وتدبرت الأمر مع أمي فوجدنا أنه لم يعد هناك ما يربطنا بالقاهرة.. فلا أهل
ولا زوج ولا شقة.. فتقدمت بالطلب ودفعت ما بقي معي من مدخرات, واستقرت بنا الحياة
فى هذه المدينة ووسط أهلها الطيبين وطلبت نقلي إليها نهائيا..
وبعد عام حصلنا على الشقة وكان
يوم انتقالنا إليها عيدا أحسسنا فيه بالسعادة لأول مرة بعد هذه المحنة الكئيبة.. وأثثنا
الشقة بأثاث بسيط.. واسترحنا إلى جيراننا الجدد.. وتوثقت علاقاتنا بهم وحاولت أن
أنسى ما جرى وكلما طافت بي ذكرياته هززت رأسي بعنف لأطرد هذا الشريط الدامي من مخيلتي.
ومرت الأيام وقاربت الثلاثين وبدأت أمي تشعر بالقلق
على مستقبلي وتحدثني في أمر الزواج.. فما أن أسمع ذلك حتى أحس بتقلصات حادة فى
معدتي ..وباختناق فى صدري حين أتصور أني يمكن أن أعيش مرة أخرى مع رجل يبطش بي كما
فعل زوجي السابق.. فلم أسمح لأحد بالاقتراب مني وكلما استشعرت اعجاب رجل بي ورغبته
في تحويل الحديث إلى الأمور الخاصة فوجئت بهذه التقلصات تعاودني فتترك على وجهي
تعبيرا ينفر أي رجل مني .. فابتعدوا وأراحوا.. ولم أهتم بقول بعض من رفضتهم أني
معقدة من الرجال.. وبعد فترة أخرى رشحني رئيسي للعمل في الخارج لمدة 4 سنوات,
فاصطحبت أمي معي وأقدمت على التجربة لكي أؤمن مستقبلي واحتمي بما أجمعه من مدخرات
من غدر الزمان, وعشت فى الخارج 4 سنوات كاملة, عدت خلالها مرتين محملة بالهداية
لجيراني الطيبين في المدينة الصغيرة..
وفكرت فى زيارة صديقاتي فى
البيت القديم لكن فكرة اقترابي من حيث يعيش زوجي السابق كانت كفيلة بأن تملأني
خوفا وانتهت فترة العمل فى الخارج.. فرشحتني الشركة لمنصب في مقرها الرئيسي يتطلب الإقامة
في القاهرة.. فبعت شقة الأقاليم واشتريت شقة مناسبة فى حي راق.. واستقررت بها
وملأت فراغ حياتي بالصلاة وحفظ القرآن وتعلم اللغات وتعلمت العزف على بيانو آخر
اشتريته بدلا من البيانو القديم ولم أشعر بأي فراغ في حياتي إلى أن جاء يوم ودخل
مكتبي عميل له عمل مع شركتنا.. فأطال الحديث معي.. وانتهز فرصة مناسبة لابداء اعجابه
بي بأدب فلم أشعر بتقلصات المعدة أياها لأول مرة وانصرف الرجل وعاد بعد أيام.. وتكررت
لقاءات العمل.. واتصل بى تليفونيا عدة مرات ثم فوجئت به يدعوني للغداء في مطعم
عام.. فإذا بتقلصات المعدة تستيقظ من جديد وإذا بخوف الدنيا يتملكني ورفضت باستياء
فانصرف مرتبكا.
وصارحت أمي بما حدث.. فطالبتني
بألا أغلق الباب فى وجهه فلعله الرجل الذى تعوضني به الدنيا عن سوء حظي.. فلما عاد
مرة أخرى وجدتني أعامله برقة وبدأت أرتبط به ولكن ببطء شديد وبغير استقرار فى
المشاعر.. فأنا أقبل عليه فى بعض الأحيان .. وابتعد عنه في أحيانا أخرى واستمرت
صلتنا فى شد وجذب عدة شهور زارنا خلالها مع شقيقه وزوجته وطلب يدي من أمي وعرفت
عنه أنه مطلق مثلي وله طفلة في السادسة تعيش مع مطلقته وأنه ضحية لقصة عذاب مع
زوجة لم تحسن معاشرته وتزوجت بعده..
وبدأ يلح علي في الزواج منه..
وكلما اقتنعت بذلك استيقظ خوفي القديم وأسأت التصرف معه لكنه لم يفقد صبره علي بل صارحني
بأنه استشار طبيبا نفسيا صديقا له.. ففسر له موقفي بأن صورة زوجي وهو يضربني ويطردني
قد صورت لي أنه وحش من وحوش الاساطير وأن كل الرجال كذلك بدليل استمرار خوفي من
الاقتراب من الحي القديم الذي به صديقاتي ومن الاقتراب من البيت الذى تربيت فيه
ويعيش فيه زوجي السابق .. ففكرت في كلامه فوجدت له صدى فى نفسي وسألته عن الحل
فقال أن أذهب معه لزيارة بيتي القديم.. وأتخلص من خوفي من الاقتراب منه وحبذا لو
قابلت زوجي السابق لأرى أنه رجل عادي لعله الآن قد ضعف ولم يعد فيه ما يخيف!
فكرت طويلا فى كلامه ثم قررت أن
أذهب.. وذهبت إلى الحي القديم وتوقفت أمام بيتي السابق.. ونزلت من سيارتي .. ورفعت
رأسي إلى أعلى أتطلع إلى شرفات البيت عسى أن أرى بعض صديقاتي فوجدت البيت قد ازداد
قدما وسوادا ولاحظت أن السواد كثيف فى شرفة شقتي القديمة وحول نوافذها ودخلت فما
أن صعدت عدة درجات فى السلم حتى التقيت بإحدى صديقات طفولتي فأخذتني في أحضانها ثم
اجتذبتني إلى شقتها ..وتحدثنا طويلا فهل تعرف ماذا قالت لي؟
لقد عرفت منها أن زوجي السابق
سامحه الله قد تزوج بعد طلاقي بشهور من زوجة لم يرها ولم تره قبل الخطبة.. وأنجب
منها بنتين وأساء معاشرتها كمل فعل معي.. وضربها عدة مرات فصبرت عليه ثم ضربها ذات
مرة فأصابها بشج عميق فى رأسها فإصطحبت طفلتيها وخرجت من البيت وهي تنزف إلى بيت
أسرتها.. فلم تمض ساعتان.. حتى جاء أهلها وهم من تجار روض الفرج فضربوه ضربا مبرحا
فى شقته ثم ساقوه على السلالم ضربا وهو يتدحرج أمامهم.. ثم تبادلوا ضربه واهانته
فى الشارع تحت انظار الجيران جميعا!! وذهبوا به إلى المأذون وطلقوها منه.. وعادوا
وأنزلوا أثاثها وملابسها وتركوا له الشقة على البلاط, ولم يجرؤ على الاعتراض ولا
على الشكوى للشرطة, وفرضوا عليه بغير محاكم نفقة لابنتيه تزيد على نصف مرتبه
يدفعها صاغرا.. ويذهب بنفسه إلى محلهم ليدفعها فلا يقدمون له كوب ماء ولا يدعونه
للجلوس.. ويتذلل لهم لإعادة زوجته فلا يقبلون .. ويتذلل لهم لرؤية طفلتيه فلا
يوافقون إلا بعد أن يبكي ويولول ويشفق عليه زملاؤهم من تجار السوق فيتدخلون بينه
وبينهم بالحسنى.. وهكذا يرى طفلتيه مرة واحدة كل شهر وبعد هوان وقد ظل الأمر
يراوده فى إعادة مطلقته إليه.. حتى فوجئ بعد شهور بأهلها يزوجونها لأحد من أقاربها
فإنهار وراح يشكو "الظلم" لكل من يقابله!
أما الشقة التي اغتصبها مني فقد
كادت تتسبب فى انهيار البيت كله.. بعد الطلاق بقليل فقد اشترى بعد أن كنسوا الشقة
من محتوياتها بعض الاثاث القديم وعجزت امكانياته عن شراء بوتاجاز جديد, فاشترى
بوتاجازا مسطحا قديما وأنبوبه قديمة ليطهو عليه طعامه, وذات مساء تسرب الغاز من
المنظم التالف والبوتاجاز مشتعل فنشبت النيران فى الشقة كلها فدمرتها تدميرا وأسرع
هو بالفرار بعد أن احترقت يداه ولم تلفح محاولات إطفاء النار إلا بعد أن أتت على
جدرانها وسقوفها ونوافذها وأخشاب الأرضية وتركتها خرابا يحتاج إلى الآف الجنيهات
لكي تعود إلى حالتها الطبيعية وهو لا يملك مليما واحدا وينام على حشية من الاسفنج
فوق الارضية المتفحمة تحت السقف الكآبي ووسط الجدران السوداء.. وليس فى الشقة سوى
هذه الحشية وكرسيين وموقد سبرتو وعدة أكواب والتليفون ولا تسمح امكانياته بشراء أي
شئ آخر بسبب نفقة البنتين ونفقة المتعة التى فرضها اهل زوجته وقدروها على هواهم
بغير حكم من المحكمة واجبروه على أدائها فدفع فيها كل ما بقي له من مدخرات وهو
الآن لا مأوى له سوى هذه الشقة ويحلم ببيعها على حالتها ليستأجر شقة أخرى لكن من
يراها يرفض أن يدفع له أكثر من آلاف محدودة لن تكفيه لاستئجار غرفة أخرى!
ولــكــاتــبة هــذه الـرسـالـة أقــول:
لا عجب فيما رويت يا سيدتي لأن
" من لا يَرحم لا يُرحم" كما قال الرسول الكريم .. وكما تعلمنا الحياة
كل يوم, "ولأن الإنسان فى النهاية هو ما يفعله" كما تقول إحدى شخصيات
المفكر الفرنسي أندريه مالرو.. إن خيرا يره وإن شرا يره, ولأن الإنسان أيضا لن
يلتقى فى أي طريق يمضي فيه إلا بنفسه.. فكن كاذبا تسرع إليك الأكاذيب .. وكن مجرما
تتمسك بك الجرائم.. كما جاء على لسان ميترلنك وهو يتحدث عن العدالة فى هذا الكون.
لقد قلت من قبل أني من المؤمنين
بالحكمة الصينية التى تقول: لا تقتل خصمك وإنما إجلس على حافة النهر وانتظر.. وسوف
ترى جثته طافية فوق الماء! أتدرين لماذا؟ لأنه لو كان ظالما باغيا فلابد أنه سوف
يلتقي بمن هو أشد منه ظلما وبغيا فيقهره ويقتص لك منه بغير أن تلوثي يديك
بالانتقام منه.. وهل هناك أدل على ذلك من مشهد السلم المؤلم الذى أطاح بك زوجك
السابق عليه ولاحقك بضرباته وأنت تتدهورين عليه, فسلط الله عليه من أذاقه نفس
الهوان.. وبنفس الطريقة المهينة , وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا, كما يقول الحق
سبحانه أو ليست هذه هي القصة القديمة الجديدة التي لا يتعلم بعضنا درسها الثمين
إلا إذا تجرع نفس مرارة القهر والهوان الذي أذاقه لغيره؟
أو ليست هذه طبعة جديدة من قصة
وزير الخليفة العباسي المعتصم ابن الزيات الذى صنع آلة جهنمية لتعذيب المطلوبين
بالأموال فكلما تقلبوا داخلها انغرزت سنونها في أجسامهم وكلما صاح أحدهم الرحمة:
أجابه الوزير المختال بقوة زائفة وعز لا يدوم.. الرحمة خور في الطبيعة يقصد أنها
ضعف فى الطبائع لا يليق بالرجال ثم زالت دولته كما ستزول دول كل المغرورين بأعراض
الدنيا وأعتقله الخليفة المتوكل فعذبه داخل نفس الآلة التى اخترعها فلما صاح
الوزير الضرغام : الرحمة:أجابه بنفس إجابته الشهيرة الرحمة خور فى الطبيعة: إنها
نفس القصة.. في كل زمان وأوان لكن بعضنا لا يصدق ذلك إلا حين يجد نفسه داخل آلة
العذاب التى سلطها على غيره.. ومشهد السلم الغريب ليس أخطر ما في رسالتك رغم
فظاعته.. وإنما أخطر ما فيها هو هذا الاحساس الكامن فى نفس زوجك السابق بالقهر
والخوف والذل تجاه أهل زوجته حتى ليعجز عن أن يلجأ للشرطة لحمايته منهم متصورا بتأثير
الخوف الذي استقر في أعماقه أنهم مردة وشياطين لا يطولهم عقاب! إن هذا الأحساس
انتقام آخر من السماء لك لأنه نفس احساسك السابق تجاهه حين عجزت عن إسترداد حقوقك
منه.. وعن الاقتراب من حيك القديم سنوات وسنوات خوفا ممن كنت تحسبينه وحشا من وحوش
الأساطير فإذا به وحش من ورق لا يخيف هرة! ثم أليس فيما جرى للشقة التى سلبك أياها
ظلما وعدوانا أكبر دليل على أن الجريمة لا تفيد وإن طال الزمن؟
إنني لا أريد أن استسلم لخواطري
التي أثارتها رسالتك وسأتجاوزها لأجيب على سؤالك الآخر .. وأقول لك أن الخوف هو
أعدى أعداء سعادة الإنسان.. وأنك قد فقدت بعض سعادتك بسبب تمكن الخوف منك حتى تعمق
داخلك وتحول إلى رهبة من الزواج ومن الرجال.. وليس هذا بالرأي الصائب لك بعد كل ما
جرى ولعلك الآن قد فقدت كل أو معظم هذا الخوف فلم يبق إلا أن أقول لك فى كلمة
مختصرة أن الناس ليسوا اشباها على أية حال وأنه ليس معنى أن الحظ العاثر قد أوقعنا
مرة فيمن لم يرعوا حقوقنا أننا لن نلتقي إلا بأمثالهم فى الحياة, بل لعل الأقرب
للعدل والمنطق أن يرشحنا هذا الحظ العاثر نفسه وهذه التعاسة لأن تعوضنا الحياة عما
لقيناه فيها فننال حظنا العادل من السعادة, وإني أستشعر من رسالتك صدق رغبة هذا
الرجل فيك وفى السعادة التى يتطلع إليها بعد أن ظلمته الدنيا كما ظلمتك فاقبلي
الزواج منه.. وانزعي الخوف من نفسك بعد أن زالت كل أسبابه.. وأقبلي على التجربة
الجديدة مزودة بالخبرات الثمينة التى اكتسبتها بالألم والمعاناة.. وثقي أن السعادة
سوف تكون فى انتظارك معه وإلى النهاية إن شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير
1989
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر