الحصان الجامح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

الحصان الجامح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

الحصان الجامح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


أنا سيدة في الخامسة والثلاثين من عمري .. نشأت في أسرة ميسورة الحال .. ورحل عنا أبي ونحن أطفال صغار ، فوقفت أمي حياتها على رعايتنا ورفضت الزواج بشدة ومضت بنا الحياة بكل الصعاب التي يمكن أن تعترض أسرة غاب رجلها وتحملت مسئوليتها أرملة شابة جميلة بشكل لافت للنظر إلى أن تخرجنا جميعا بفضل الله وبفضل كفاح أمي العظيمة.

وخلال رحلة الحياة كانت لنا أسرة صديقة كان ربها مزواجا فهجر أسرته وتركها دون مورد إلا أقل القليل الذي يرسله إليها كل شهر .. فكانت أمي تحرص على مساعدتها بقدر إمكانياتها .. وفي مرحلة الشباب تحاببت أنا وأحد أبناء هذه الأسرة .. وكان شابا وسيما جذبني بحلو حديثه رغم بساطة مظهره وبتحمله لظروف حياته وبكفاحه فقد كان يعمل إلى جانب دراسته بإحدى الكليات العملية الصعبة لكن إخوته كانوا يرون فيه دائما أنه مغرور وأناني خاصة وان أمهم تفضله على الجميع مما كان يثير غضبهم أحيانا .

 

وبعد تخرجي في الجامعة تقدم لخطبتي وكان قد تخرج وأنهى تجنيده وكان شرطه الوحيد هو أن اصبر عليه حتى يبني مستقبله .. ورفض بإباء أن نتزوج بما يخصني من ميراث أبي على أن يعتبره دينا يرده في المستقبل .. وأعجبت كثيرا بعزة نفسه وراح يعمل ليل نهار دون أن يستطيع أن يوفر متطلبات الزواج وطالت خطبتنا ثلاث سنوات فتزوجنا في بيت أسرته بلا أثاث ولا حتى غرفة نوم وبعد شهور سافر إلى الخارج يبحث عن حظه وعدت إلى بيت أسرتي انتظره فغاب عاما طويلا ثم عاد مريضا وبلا مال وأقمنا في بيت أسرتي وقمت على رعايته حتى شفي من مرضه وبعد فترة سافر مرة أخرى وعمل وبدأ يرسل إلي كل ما يكسبه .. وبعد عام سافرت إليه وعشنا هناك ٤ أعوام رزقنا خلالها بطفلين .. وادخرت كل ما استطيع ادخاره لكي نستطيع شراء شقة في مصر .. فكنت أوفر من نفقات حياتي الضرورية وأقوم بكل الأعمال من خياطة إلى إصلاح الأحذية حتى عدنا لمصر واشترينا الشقة وأثثناها بأثاث جميل واستنفدنا في ذلك كل مدخراتنا .. وكان علينا أن نبدأ من جديد فعدنا إلى وظائفنا الأصلية واعتمدنا على مرتبينا .. ووجدت فرصة عمل مسائية فعملت بها لنواجه نفقات حياتنا وكان زوجي أيضا يعمل صباحا ومساء بحكم طبيعة عمله فكنا نعود إلى البيت آخر اليوم مهدودين ولكن متحابين .. وفي قمة السعادة .

 

وبعد فترة انتقل زوجي إلى وظيفة أخرى براتب كبير فاستقرت حياتنا لأول مرة بعد عودتنا ورزقت بالطفل الثالث فتخليت عن عملي المسائي واكتفيت بوظیفتی وأردت أن أحصن سعادتي بإزالة الخلافات بين زوجي وأسرته بعد أن كان على خلاف معها من قبل زواجنا .. وشيئا فشيئا بدأ زوجي .. الحصان الجامح يهدأ قليلا قليلا حتى عادت المياه إلى مجاريها بينه وبين أسرته وسعدت بذلك لأن أسرته في غاية الطيبة وكانت علاقتي بها دائما طيبة .. وكانوا يتعجبون كيف عشت معه كل هذه السنوات في سعادة وهدوء لأنه عصبي المزاج وحاد جدا .. وقد اكتشفت ذلك فيه فعلا بعد الزواج فتحملت عصبيته وبذلت معه جهدا كبيرا حتى أصبح يتحكم في أعصابه بعض الشيء .. وكنت دائما على استعداد لأن أتحمل حدته لأن الحب الذي يجمعنا قادر على احتواء أي صدام بصرف النظر عمن المخطيء فيه .

 

وفي وسط هذه السعادة كنت مع زوجي وأولادي في سيارته الجديدة التي اشتراها بعد استقرار الأحوال فإذا بنا نتعرض لحادث طريق بسبب خطأ شخصي منه .. راح ضحيته أكبر أبنائي وأصيب الاثنان الآخران أما أنا فكان نصيبي من الإصابات كبيرا ونقلت إلى غرفة العناية المركزة لفترة طويلة وفقد الجميع الأمل في شفائي .. فإذا بقدرة الله سبحانه وتعالى تكتب لي النجاة وتكتب لطفي الباقيين الشفاء وأجريت عدة عمليات جراحية .. وعدت بعد عام طويل إلى حياتي العادية وفي قلبي جرح لا يندمل هو رحيل أكبر أبنائي بهذا الشكل المفجع وقد استعوضت ربي فيه .. واستطعت بفضل إيماني بالله ورضائي بقضائه وقدره وتماسكي أن أعود إلى حياتي العادية .. فكان أول ما صدمني هو أن زوجي الذي كان في الأيام الأولى بعد الحادث شديد الحزن والهلع ويقوم بخدمتي كاملة قد بدأ طبعه الجامح يغلب عليه مرة أخرى وأصبح شديد العصبية ويعاملني بقسوة غريبة مما أثار دهشتي واستنكار الجميع .. وظل هكذا حتى بعد شفائي الكامل .. وأصبح شديد السخط على كل شيء حتى لم أعد أعرف ماذا يرضيه وكانت العمليات الجراحية الكثيرة قد استنفدت كل ما جمعناه فأسرع يعد أوراقه للسفر ويسافر خلال 3 أسابيع على أن نلحق به في أقرب فرصة .. لكن الشهور مضت وهو يماطل في استدعائنا بحجة أنه يعمل في مكان ناء حتى مضى عام كامل وعاد في أجازة وخلال الأجازة وجدته يخبرني فجأة بأن هناك من تحبه وأنها أرسلت إليه خطابا على بيت أسرته .. لكنه حب من طرف واحد وأنه كان فقط يستريح للكلام معها ولا يلقي إليها بالا وأدركت على الفور أن زوجي اخبرني بذلك قبل أن يخبرني به أحد إخوته الذين أحبهم ويحبونني وتظاهرت بتصديقه، وعقب خروجه فتشت في أوراقه فوجدت خطابات لا خطابا واحدا وقرأت كلاما كثيراً عن الشوق والهيام والذكريات ورأيت صورها فعجبت من أنها ليست جميلة وأني أكثر منها جمالا بمراحل كبيرة .. وأحسست فجأة بكل أمراض الدنيا تحل بي .. ولزمت الفراش مريضة وأبت علي كرامتي أن أفاتحه بما علمت وانتهت الأجازة وحل موعد سفرنا معه فطويت نفسي على جراحی وسافرنا وهناك بدأت ألاحظ تغير معاملته لي بشكل واضح .. فهو خارج البيت رقيق ومبتسم و مجامل وداخل البيت عابس وساخط وشديد التجريح، وقد بدأ يسبني لأول مرة في حياتنا وبدأت أضيق به وکثرت مشاجراتنا.

 

 وفي يوم من أسوأ أيام حياتي بعد يوم فقدي لولدي بدأت بيننا مشاجرة عادية فإذا به يسبني ويسب أمي التي كان يقول عنها أنها سيدة عظيمة وصاحبة فضل عليه .. ووصفني وإياها بأفظع الصفات فانفجرت فيه بدوري كالبركان أسبه وألعنه ورددت عليه كل اهاناته بكل عنف فراح يضربني بقسوة بالغة أمام الطفلين حتى سقطت على الأرض ولم أدر إلا وهما يصرخان ويندفعان لضربه والدفاع عني ومحاولة إنقاذي من تحت قدميه وتركني أخيرا مذهولة من هول ما جرى .. وفي الصباح طلبت الطلاق والعودة لبلدي مع أولادي فوافق وقال لي أنه ليس بالرجل الذي يقبل أن يعيش مع امرأة لا تريده وبعد ذلك بأيام فوجئت به قد تبدل مرة أخرى فأصبح رجلا عطوفا ورقيقا ورحيما ومحبا ويتفانى لإسعادنا وعاد ينفق علينا بسخاء ويشتري لنا كل شيء بعد أن كان قد بدأ يبخل علينا لأول مرة في الفترة الأخيرة .. ولم اقبل الحديث معه إلا لكي أعالج ابني الذي أصيب بحالة نفسية أدت إلى معاناته من التبول اللا إرادي بعد المعركة وواصلت الإصرار على طلب الطلاق والعودة فذهب إلى شركة الطيران وحجز لنا تذاكر العودة بعد ثلاثة شهور لأنه لم يجد موعدا أقرب من ذلك .. واستمر خلال هذه الشهور في معاملته الحسنة لنا .. ثم اقترب موعد العودة فبدأ طفلاي يقولان لي أن أباهما يقبلهما ويبكي بعيدا عن أنظاري وأحسست بذلك .. وقال لي إنني إذا كنت مازلت مصممة على الطلاق فسوف يعطيه لي وسيهاجر هو تاركا الطفلين معي مطمئنا إلى أنهما سيكونان معي في حال أفضل مما لو استأثر بهما .. لكنه فقط يطالبني بشيء واحد هو أن أتذكر دائما أنني ظلمته .. لأنه في هذه الحال سيكون قد حرم من كل شئ.

 

 وعدت بابني وهداياي وجراحي إلى مصر .. ولم اطلع أحدا من أسرتي على ما جرى كعادتي دائما ولم أبح لهم سوى برغبتي في الطلاق .. لكنهم رفضوا الطلاق وظنوا أنني أبالغ في غضبي وأن ما جرى شيء عادي .. وأجل زوجي عودته في الأجازة عن موعدها ثلاثة شهور أملا في أن يصرفني طول الوقت عن طلبي وقد بدأ بفتح حساب باسمه يحول إليه مدخراته بعد أن كان كل شيء باسمي .. ولم التفت لذلك لأن المال لم يكن مطلبي ذات يوم وسوف أعطيه كل مليم يخصه حين يعود .. إذ ماذا يساوي المال .. وقد بدأنا من تحت الصفر



ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

أرجو ألا تغضبي مني حين أقول لك ومن واقع ما أقرؤه كثيرا في رسائل البريد وأسمعه من زوجات حائرات في مكتبي أن ما ترينه في زوجك جموحا يستحق من أجله لقب "الحصان الجامح" قد يعتبر عند زوجات أخريات من أدب الخيل المروضة بالقياس إلى ما تفعله بعض الخيول البرية حقا بزوجاتها وبعد ذلك أقول لك إنه لا شك قد أجرم بسبه لأمك مهما كانت الظروف والأسباب واخطأ بسبه لك وباعتدائه الوحشي عليك بالضرب أمام طفليك مما أدى إلى إصابة ابنك بالتبول اللا إرادي .. وقد قلت مرارا أن أفظع ما يرتكبه أب فى حق أبنائه وزوجته هو أن يعتدي عليها بالسب والضرب أمام صغاره فيعرضهم لعوارض نفسية سلبية أهونها هو هذا المرض اللعين الذي يعكس إحساس الطفل بافتقاد الأمان ولاشك أيضا أنه أجرم في حقك بهذه النزوة اللا أخلاقية التي لا مبرر لها .. لكن دعينا يا سيدتي نعد ترتيب الأوراق مرة أخرى بهدف تبسيط الأمر .. لقد اعتدى عليك وعلى أمك بالسب فانفجرت فيه کالبركان .. ورددت له الصاع صاعين وبعنف شديد كما تقولين وأنت تعرفين أنه حصان جامع حاد المزاج سريع الالتهاب فماذا عن مسئوليتك أنت في تصعيد الأزمة إلى قمتها الدرامية ؟

إن دموع المرأة هي أقوى أسلحتها .. فلماذا لم تستعيني بها عليه في هذا الموقف بدلا من أن تلقي لهبا جديدا على لهبه وبعدها لك أن تختاري العقاب المناسب له سواء بالهجر لفترة أم بأي إجراء آخر ثم لماذا كثرت مشاجراتكما وعلا صوتكما معا حتى أصبح الشجار من مظاهر حياتكما اليومية قبل هذا الانفجار الأخير والشجار وقود الشجار .. وهو بكل أسف نار تطلب المزيد كلما وجدت من يلقي إليها بالحطب .. وقد بدأتما الطريق معا .. فلا عجب إذن أن تتدهورا معا إلى هذا الدرك .. إن كلامي هذا لا يقلل من استنكاري لما فعل ولا من رفضي له لكني أقول لك فقط أنه كان من الممكن تجنب ما حدث لو لم تتعمدا معا سياسة الصدام .. ولو لم تفقد قدرتك على امتصاص حدة طبعه كما كنت تفعلين معه طوال السنوات الماضية.

 

 إنني أعرف أن لك بعض العذر في ذلك وهو انطواؤك على الإحساس بالثورة عليه بعد اكتشافك نزوته .

عموما يكفي حتى الآن كل ما جرى .. فابتعادك عنه كل هذه الشهور عقاب كاف له عما اقترف في حالك ، ولقد أبدى ندما صادقا على ما فعل بعودته مرة أخرى محبا عطوفا كريما معك ومع أبنائك ، وبتعمده تأخير أجازته حتى يعطيك الفرصة الكافية لمراجعة نفسك . وحسنا فعلت حين كتمت ما حدث منه عن أسرتك حتى لا تزداد الأمور تعقيدا وتحفر في النفوس ما قد يستحيل محو آثاره .. فصارحيه عند عودته بما علمت عنه وبدوافعك للصدام معه وطالبيه باعتذار صريح عن سبه لأمك ولك وعن اعتدائه عليك .. وبوعد قاطع ألا يتكرر ذلك منه مرة أخرى مهما حدث وإلا فسوف يكون الانفصال هو مصيركما بغير تردد.

وأكدي له حاجتك إلى الاطمئنان إلى أن تلك النزوة قد انتهت ولن تتكرر لأنها قد زلزلت كيانك كله بعد كل ما كان بينكما من حب وكفاح وتاريخ وساعديه يا سيدتي على ألا يتمادى في الخطأ بقبولك عودته إلى بيتك قبل أن يعتاد مثل هذا السلوك ويتعذر عليك إصلاحه بعد ذلك فأنت ستعودين إليه عاجلا أو آجلا .. وأنت راغبة فيه كما هو راغب فيك وروابطكما أعمق مما تتصورين فما معنى إطالة المعاناة ؟

ثم أين حديث الأبناء في كل ما تفكرين فيه .. وماذا تعرفين عن تمزقهم وحيرتهم بين الأبوين المنفصلين ؟  إن لم تعرفي شيئا عن ذلك فاقرئي الرسالة المجاورة واقرئي ردي عليها "رسالة بعد العاصفة" .. وبعدها سوف تعرفين القرار الصائب إن شاء الله.

رابط رسالة بعد العاصفة المشار إليها

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات