بعد العاصفة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
أكتب إليك هذه الرسالة لعلمي أن أغلبية القراء يقرأون هذا الباب .. إن هذه رسالة من زوجة وأم انفصلت عن زوجها بالطلاق .. وليس المهم الآن أسباب الانفصال وإنما النتائج التي تحملها أبنائي بعد هذا الانفصال .. فلقد انفصلنا أنا وزوجي منذ حوالي ثلاث سنوات وبعد طلاقي بعامين تزوجت وعاش أولادي معي واتفقت مع زوجي السابق وديا على كل شيء وبصدر رحب حتى لا يتعرض الأبناء لمحنة نفسية تدمر مستقبلهم .. فاتفقنا على أن أرعى أنا الأبناء وأن يتكفل هو بنفقات مدرستهم وكل مطالبهم الخاصة وأن يقضوا معه يومي الأجازة كل أسبوع، ونفذنا الاتفاق بأمانة فاحتضنت أولادي في بيتي وفى مطلقي بكل التزاماته .. وأصبح أبنائي يغادرونني في نهاية الأسبوع لقضاء الأجازة مع أبيهم ويعودون سعداء بعدها وأتحدث عن أبيهم أمامهم باحترام ويتحدث هو عن أمهم أمامهم باحترام .. ثم بعد زواجي بعدة شهور تزوج مطلقي فكانت الطامة الكبرى بالنسبة لأبنائي .. فقد بدأوا يحسون بالضياع الداخلي بغير أن يستطيعوا التعبير عنه إلا بالدموع الصامتة .. ولا استطيع أن أصف لك عمق الحزن الذي أحسست به حین رأيت انكسارهم وضيقهم وحزنهم ودموعهم بعد عودتهم من زيارته في أول أسبوع من زواجه .. فلقد هلعت حين رأيت دموعهم وألححت عليهم في السؤال عما يحزنهم .. فعرفت أن سبب بكائهم هو أنهم كانوا يتمنون أن نعيش جميعا معا وأن نخرج جميعا معا على حد تعبيرهم !
إنك لن تتخيل
عمق ما أحسست به من ألم في هذه اللحظة القاسية .. لقد شعرت بأني أبكي دما لا دموعا
لحزن أولادي .. وأحسست بالندم يعتصرني على أنني لم أتحمل أكثر وأكثر حتى تمر
العواصف العديدة التي شهدتها حياتي مع أبيهم .. ولابد أنه هو أيضا الآن بنفس هذا الإحساس
.. ولكن متى؟ بعد فوات الأوان .
إنني أناشد كل
أم .. باسم الأمومة .. وباسم رمز الأم التي جعل الله الجنة تحت أقدامها أن تصبر وأن
تتحمل مهما كانت الظروف وأن تحاول أن تصلح من أمر حياتها مع زوجها دون تكبر رحمة بأبنائها
وبنفسها أيضا مما سوف تعانيه من أحزان من أجلهم وأوجه نفس هذا النداء إلى كل أب بان
يتخلى عن أنانيته وأن يصبر ويتحمل مسئوليته مع زوجته إلى أن يصلا بأبنائهما إلى بر
الأمان.
إنني أناشدهما
معا وبإخلاص حتى لا يعانيا عذابي الآن وإحساسي بالقهر والعجز أمام مسحة الحزن التي
أراها الآن في عيون أطفال أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم ولدوا بين أم وأب لم يقدرا
المسئولية .. ولم يتحملا.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
أما أنا فإني أناشدهما أن يقرآ رسالتك وأن يتفهما معانيها وأن يتفهما أحاسيسها الصادقة وأن يستفيدا بدروسها .. فليس كتجارب الآخرين نبع يمكن أن نتعلم منه الحكمة بغير أن ندفع ثمن التجربة من حياتنا كهذا النبع .. ولو استهدى الإنسان بدروسها لتجنب الكثير من العثرات والمحن .. لكن الكارثة هي أننا لا نتعلم التجربة إلا بعد أن تكرر نفس القصة ونشرب من
نفس الكأس ..
وهذا هو أكثر وجوه القصور الإنساني مدعاة للرثاء.
إن الخلافات بل والعواصف الصغيرة أيضا من طبيعة
العلاقات الإنسانية .. وقلما خلت حياة زوجية من خلاف منذ فجر البشرية وحتى الآن
مهما كانت درجة الوفاق والمثالية فيها .. فما هو الجديد إذن لكي يهدم كل أبوين ضاقا
بمشاكلهما الصغيرة عشهما فوق رءوس ضحاياهما من الأبناء ... ألم يغاضب الرسول
الكريم بعض زوجاته وهو من هو عدلا ورحمة وحسن معاشرة .. ومن أدبه ربه فأحسن تأديبه
؟ ألم يستدع هو ذات مرة أبا بكر ليحكم في خلاف زوجي بينه وبين عائشة فكاد أبو بكر
يعصف بابنته لولا أنه حماها منه ؟ الم يحكم هو نفسه في خلاف زوجي آخر بين علي كرم
الله وجهه وبين فاطمة فحكم عليها بخدمة البيت ورعاية الأبناء وحكم على علي بالعمل والكسب
؟
إن الحياة
مزيج دائم من الصفاء والشقاق .. لكن المهم هو أن نعرف كيف نتعامل مع هذه الخلافات وكيف
نضعها في حجمها الصحيح ونحول بينها وبين أن تصل بنا إلى مرحلة تعذر استمرار الحياة
.. وكل إنسان له دائما من حياته ما يرضيه .. ومن حظه ما لا يرضيه .. فلماذا نتصور أحيانا
أننا وحدنا الأحق بإكتمال الأسباب ؟ ولماذا نتجاهل في لحظات الغضب الأعمى حق أبنائنا
في أن نوفر لهم الحياة الطبيعية ولو تنازلنا نحن عن بعض حقوقنا وأحلامنا ؟ إنني لا
أناشد معك فقط يا سيدتي .. بل إنني أتوسل !
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر