تاج الشوك .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

تاج الشوك .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


 تاج الشوك .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

قرأت رسالة "الرجل الغريب" الذي يتحدث فيها شاب عن أبيه الذي عاد إلى مصر بعد عشرين عاما من العمل في الخارج لم يكن يرجع خلالها إلا شهرا كل عامين وعن إحساسه بوجود رجل غريب عنه في البيت لا يكاد يعرفه - ومشاكله معه - وقرأت ردك عليه مطالبا إياه بأن يعامل أباه بالحسنى لأن الأب كما قلت له تاج على رؤوس الأبناء لا يراه إلا من حرموا منه وأن يصبر عليه حتى يألفه ويتذكر دائما أنه أبوه الذي وفر له هذه الحياة.


وأنا یا سیدي أتساءل .. أين كان هذا التاج ، طوال عشرين سنة .. ولماذا لم يضم أسرته إليه فينشأ أبناؤه بين أحضانه .. فلقد التقيت أنا أيضا "بتاج" من هذا النوع تزوجته وسافر للعمل بالخارج وأولادي في مدرسة الحضانة وبكيت بين يديه دما لكي يصطحبنا معه في هجرته فرفض وهاجر وحده، وتركني في مدينتي "الإسكندرية" ألاطم الحياة مع أطفالي وحدي ، فكنت أحمل طفلي الرضيع كل صباح إلى شقة جارتي وأحمل أطفالي الصغار على كتفي وفى يدي إلى مدرسة الحضانة ثم أذهب إلى عملي وهكذا تبددت أحلى سنوات العمر في الشقاء والمعاناة .. ولم تتخللها سوى زيارات قليلة كان يجيء فيها لزيارتنا فتضيع في دعوات الأصدقاء والأقارب والذهاب إلى البنك وإلى مكاتب الطيران والى أطباء الأسنان والعيون وفى الفحوص الطبية التي يؤجلها إلى حين عودته لأنها هنا ارخص ! وتتبخر أيام الأجازة سريعا .. وأجدني أودعه مرة أخرى وهكذا مضت حياتي معه من سفر إلى سفر عشرين سنة كبر خلالها الأبناء والتحقوا بالمدارس والجامعات وادخرت كل ما كان يرسله إلي من نقود ، ثم عاد الطير المهاجر أخيرا .. واستقر معنا لأول مرة .. وأملت أن يلتئم شملنا إلى الأبد .. وأن نعيش حياتنا كما يعيشها الآخرون لكني فوجئت كما فوجيء هذا الابن كاتب الرسالة برجل غريب أخر يعود إلى حياتنا .. لا علاقة له بزوجي الذي عرفته .. وإنما هو إنسان آخر عصبي المزاج حاد الطبع سريع الغضب .. لا يعجبه شيء في بلدنا من الشوارع إلى المكاتب إلى الخبز إلى الزوجة بل إلى الأولاد أيضا - ويتطاول بأقذع الشتائم علي أمام أبنائي .. وذات يوم ثار على أمي عندما ذكرته على استحياء بكفاحي معه وصبري على غيابه كل هذه السنوات فتألمت المسكينة وزادت وطأة مرض السكر عليها وماتت بعد أسابيع كمدا وحسرة رحمها الله وانقضت أيام الحداد الكئيبة وانتظرت لأرى ماذا سيفعل بحياته وحياتنا معه بعد عودته فوجدته كما هو لاهيا ساخطا وقد ازداد تفاخره بالشقة التمليك والسيارة المرسيدس والتليفون الفوري والتكييف وملابس بيير كاردان وولاعته الكارتييه وساعته الفاخرة .. وتمنيت أن يقيم مشروعا صغيرا يشغل فراغه حتى ولو لم يحقق دخلا كبيرا .. لعله يجد لحياته معنى .. ويكف عن سخطه وتبرمه لكنه آثر حياة الفراغ والضجر والملل .. ثم قرر أن ينشط فجأة فإذا به يجمع من مدخراته ومدخرات أبنائه ما يزيد على مائة ألف جنيه .. ويجمع من مدخرات عشرات الزملاء بالشركة آلافا ومن أقاربه مثلها ويقدمها كلها لتاجر جملة للفاكهة يتعامل بالملايين ليوظفها له كمشاركة مقابل ربح قدره ٤٢٪ من المبلغ ولم تمض شهور حتى انفجرت كارثة شركات الأموال وهرب التاجر المعروف وتبخرت تحويشة العمر وانهار زوجي .. وتهرب منه الجميع وقاطعوه ولم يجد إلى جواره إلا زوجته الصابرة .. أشاركه همومه وأبكي لحاله وأفكر معه .. وأمضي الليل مؤرقة خوفا من ضياع زوجي وأولادي .. وأتألم حين أراه عاجزا أمام فاتورة التليفون أو عداد المياه ، وتجهمت الحياة في وجوهنا عاما طويلا طويلا .. ثم قرر زوجي أن يعود للسفر مرة أخرى .. وتمنيت أكثر من أي وقت مضى أن يصطحبنا معه أو يصطحب معه أحد أبنائه على الأقل بعد أن بلغ أولادي سن الشباب وأصبحت حاجتهم إلى رعاية الأب ورقابته أشد لكنه لم يفعل وتركنا وسافر وحيدا كما فعل من قبل لأنه لا يحب أن يتحمل المسئولية .. وسلمت أمري لله .. وتعلق أملي بأن يكون قد اتعظ بالكارثة التي هزت كيان أسرتنا وأن يحرص على روابطنا العائلية بعد أن أثبتت له الدنيا أنه لم يقف إلى جواره في محنته غيري لكن هيهات يا سيدي .

 

 فبعد قليل بدأ يمطر أولاده بالمئات من الجنيهات لينفقوها دون مراجعتي أو استشارتي .. ويعتصرني الخوف عليهم من أخطار النقود وهم في السن الخطيرة . فأراجعهم فيما ينفقون وفيما يفعلون فأفاجأ بابني يجيبني بأنها نقود أبيه ومن حقه أن يفعل بها ما يشاء .. ثم أفاجأ بخطاب من الأب "الرمز" و "التاج" يبعث لأبنائي بخطاب يقول لهم فيه : يا شباب افعلوا ما تريدون وعرفوا أمكم ما لها وما عليها .. وإذا ضايقتكم أوقفوها عند حدها.

هل تتصور ذلك يا سيدي .. هل تتصور أن يستعدي أب أبناءه على أمهم ويغريهم بالرشوة على مخالفتها والاجتراء عليها لكي ينسوا غيابه وبعده عنهم .



 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

أسوأ ما تتعرض له أسرة هو أن يتعامل فيها أحد الأبوين مع الأبناء كما لو كان مرشحا في انتخابات داخلية يتنافس فيها مع الآخر لنيل أصوات الناخبين على حساب القيم التربوية السليمة والأخلاق ومبدأ الثواب والعقاب .. وواضح أن زوجك قد قرر أن يخوض معركة الانتخابات الداخلية ضدك وأن يستخدم أحقر أسلحتها وهو المال الذي لم تعرف البشرية سلاحا مثله يفسد الضمائر ويفسد العلاقات الإنسانية.

 

وأنت يا سيدتي مهمومة دائما بمستقبل أبنائك وقد فرضت عليك ظروف حياتك أن تقومي بدوري الأب الغائب والأم معا .. فتمنعين وتراقبين وتشددين خوفا عليهم .. والأب الغائب يمنح ويرخي الحبال ولا يمنع ولا يحاسب .. وهكذا اجتذبهم إلى صفه .. مؤقتا لكنه لن يهنأ طويلا بهذا النصر الرخيص .. وقد يبغض الخير أحيانا ويحب الشر، ولكن ليس إلى النهاية .. وإنما إلى حين.

لقد قال هذه العبارة الصادقة الصديق أبو بكر وهو على فراش الموت حين استخلف عمر بن الخطاب فكره البعض ذلك خوفا من شدة عمر في الحق وراجعوا أبا بكر فيه فأبى ودعا عمرا وقال له يا عمر أحبك محب .. وأبغضك مبغض .. وقد يبغض الخير أحيانا ويحب

الشر، فبكى عمر وقال : ليست لي بها حاجة أي إلى الخلافة فأجابه من وضع الله أقدار المسلمين في عنقه لكن بها حاجة إليك ! وهكذا لا يصح إلا الصحيح في النهاية .. فما أسهل نيل رضا الآخرين على حساب الحق والعدل والخير وما أصعبه على من يلتزم بروح العدل فيغضب البعض بتشدده وقيوده التي تستهدف المصلحة البعيدة ولاشك أنك تستهدفين مصلحة أبنائك .. ولاشك أن لهم بك حاجة وحاجة شديدة وإن تصوروا غير ذلك في طيشهم واندفاعهم وعقوقهم .. بل لعلهم يحتاجون إليك الآن أكثر من أي وقت مضى والى رعايتك وتوجيهك وحمايتك لهم من أدواء الحياة وانحرافاتها .

 

ولقد خسرت سعادتك الشخصية خلال سنوات هذا الزواج الطائر .. وليس من الحكمة أن تضيفي إلى خسائرك خسارة أبنائك بابتعادك عنهم وتركهم يصارعون أمواج الحياة بلا شراع .. فلا تقطعي خيوطك معهم حتى لا يزدادوا تدهورا يا سيدتي ولا تدخلي المنافسة عليهم مع زوجك بتعداد ما تدخرين لهم وما تشترينه لهم من مشغولات ذهبية .. فلسنا في مزايدة انتخابية .. وإنما نحن بصدد علاقة أبناء بأم لن ينالوا رضا خالقهم ولن يسعدوا يوما في حياتهم إلا بحبها وبرها وخفض جناح الذل من الرحمة لها بلا حاجة إلى دفاتر توفير ولا هدايا ذهبية فقط عليك يا سيدتي ألا تدعي إحساسك الدائم بالمسئولية وخوفك عليهم يطغيان على تعاملك معهم .. فلا يرونك إلا محاسبة متحسبة وأرخي لهم حبال الصبر على غاربها واخلطي حنانك بهم بتوجيهك لهم وتعاملي معهم كشبان وفتيات ينتظرون منك أن تكوني لهم الصديقة قبل الأم .. وقدمي لهم مشورة الصديق قبل توجيه الأم الملزم .. لأنهم بلغوا مرحلة السن التي تتطلب قدرا أكبر من إشعارهم ببعض الحرية الشخصية وسوف يكتشفون يوما بعد يوم ما في رأيك من سداد .. وما وراء توجيهاتك من رغبة مخلصة في مصلحتهم وسوف يعودون إلى دفء أحضانك يلتمسون منك الرأي والمشورة .. لأن ما بينك وبينهم أعمق من أي مؤثرات وقتية أما الأب الغائب الذي يشجع أبناءه على مخالفتك ويطالبهم لا سامحه الله بإيقافك عند حدك .. فلقد زرع شوكا في بستان أسرته لا يقدر مدى خطورته .. ولسوف يجني ثماره إن عاجلا أو أجلا إن لم يرجع عن خطته ويعد أبناءه إلى الجادة .. ويطالبهم باحترام أمهم ويغاضبهم ويقبض يده عنهم إن لم يفعلوا لسبب بسيط أن من يعق أمه اليوم سوف يعق أباه غدا مهما قدم له ومهما رشاه أملا في كسب حبه الزائف ومن يزرع الشوك اليوم ليس من حقه أن يتوجع غدا إذا أدمى أصابعه.

 

 فاصبري یا سیدتي وواصلي دورك مع أبنائك .. فهو قدرك ومسئوليتك .. أما حديث التيجان فهو صحيح .. فالأب تاج فعلا ولكن لمن يؤدى دور الأب حقا كما أراده خالقه ولمن يرعى ربه وضميره في تعامله مع أبنائه ومع زوجته .. وكما أن هناك تيجانا من ذهب وأحجار كريمة .. فهناك أيضا تيجان من سعف النخيل وخشاش الأرض .. فلينظر كل إنسان مم صنع تاجه ؟ .. وكيف أراده لنفسه ولأبنائه ولكل ما فعل .

رابط رسالة الرجل الغريب 

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات