الرجل الغريب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
مشكلتي
باختصار هي أنني واحد من أبناء جيل الهجرة .. فلقد هاجر أبي أو سافر للعمل في إحدى
الدول العربية وأنا طفل عمره 3 سنوات وشقيقي الأصغر لم يكمل عامه الأول , واستمر
أبي في عمله في الخارج لمدة 17 سنة لم نكن نراه خلالها سوى شهر واحد كل عامين ,
لأنه كان يفضل أن يعمل عاما بلا إجازات ليتقاضى أجر الإجازة , ثم يعود في العام
التالي لزيارتنا لمدة شهر ولقد وفر لنا سفره للخارج أشياء عديدة , فانتقلنا إلى
شقة أوسع وأرقى وأصبحت لي سيارة خاصة, وأصبح مستوى إنفاقي أكبر من إنفاق
زملائي بلا انحراف والحمد لله لأن أمنا نشأتنا على التمسك بالدين والأخلاق القويمة
, وفجأة منذ 4 شهور قرر أبي مكرها أن يعود من الخارج وأن يستقر معنا في مصر فعاد
واستقر وبدأت مشكلتنا العجيبة .
فالمشكلة
هي أنني وأخي نشعر منذ عاد أبي أن هناك رجلا غريبا عنا يعيش معنا في شقتنا .. رجلا
لم نألفه ولم نعتد الحياة معه ولا نعرف عنه الكثير اللهم إذا اعتبرت الإجازات
القصيرة المتباعدة فترة كافية لمعرفة إنسان والتآلف معه , لكن الواقع الذي
نحسه يقول لنا غير ذلك .
فنحن
"وأكرر مرة أخرى" نشعر بأن رجلا غريبا يعيش بيننا .. وبلا سبب واضح !
كما أنه لا يعرف كيف يتعامل معنا ولا يزال يتصور أننا مازلنا أطفالا صغارا ويتعامل
معنا على هذا الأساس ويعاملنا أحيانا كما لو كنا مرضى بمرض عقلي ويتصرف أحيانا
بطريقة غريبة علينا لا أعرف كيف أصفها لك.
وفي بداية وجوده معنا طلبت منا أمنا أن
نقترب منه وأن نجعله يتآلف معنا ومع طريقة حياتنا , وبالفعل بدأنا نخرج سويا
ونحاول أن نجتذبه إلى عالمنا لكنه رفض بإصرار فهو لا يحب الموسيقى , ويعتبر مثلا
أن سهرة في ملهى ليلي أفضل ألف مرة من سهرة في الأوبرا وقد حاولنا كثيرا أن نتأقلم
معه لكننا وبعد أربعة أشهر من عودته نشعر بأن الحياة معه مستحيلة ويتعاظم داخلنا الشعور
بالغربة عنه وبالكراهية له !
إنني
أشعر بالذنب لهذا الإحساس بل وأخجل منه لأنه بينما يشعر الجميع بالحب لآبائهم فإني
أشعر تجاهه بالكره والاغتراب .. فماذا تنصحني أن أفعل ؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
الطريق إلى جهنم قد يكون مفروشا أحيانا بالنوايا الطيبة ! فلا شك أن نوايا أبيك
عند هجرته كانت طيبة وشريفة وكان إسعادكم وتوفير إمكانات الحياة الكريمة لكم هي
غايته وهدفه , لكن سفره وحيدا وغيابه الطويل عنكم بلا مبرر وتباعد الإجازات وقصرها
قد أفسد عليه أهدافه الشريفة من حيث لا يدري .. ونحن نشجع الجميع على أن يسعوا في
الأرض في مصر وفي خارجها وعلى أن يكافحوا لرفع مستوى حياتهم وحياة ذويهم لكننا
نطالب دائما بالحفاظ على وحدة الأسرة بقدر الإمكان هنا وفي أي مكان , فإذا تعذر
اصطحاب الأسرة فلتكن الهجرة إذن قصيرة ومحددة بأهداف قريبة اتقاء لمخاطر عديدة من
بينها هذا الخطر الجديد الذي تعرضه رسالتك بقسوة بالغة !
إن
الغياب الطويل قد يضعف الروابط لا شك في ذلك .. لكن أيصل الأمر إلى هذا الحد حقا ؟
أم أن هناك نقصا ما لم تلتفت إليه أمكما في ربطكما وجدانيا بأبيكما خلال سنوات
الغياب الطويل هو الذي أثمر هذا الشعور بالغربة والكراهية تجاهه .
لا
أستطيع أن أجزم بالإجابة .. لكني أقول لك على أية حال أن الاقتراب من الآخرين
يتطلب تنازلات متبادلة من الطرفين والصبر على اختلاف الطباع وتلمس جوانب الاتفاق
وتجاهل جوانب الاختلاف وأنتما الطرف المرشح أكثر من غيره لتقديم التنازلات لأنكما
مازلتما في دور التكوين ولم تترسخ طباعكما بعد كما هو الحال مع أبيكما فحاولا أن
تدخلا عالمه بنفس القدر الذي تحاولان فيه اجتذابه إلى عالمكما مع تأييدي لكما في
رفض حكاية الملهى الليلي هذه وخير ما تفعلانه لمقاومة هذا الإحساس الآثم هو أن
تتذكرا دائما أنكما تتعاملان مع أبيكما الذي لا يوجد على ظهر الأرض من يعنيه
أمركما أكثر منه وأن الأب رمز رفيع لمعان جميلة وعميقة وتاج رؤوس الأبناء قد لا
يراه أحيانا إلا من حرموا منه فلا تتبطرا على هذه النعمة الجليلة التي أفاء الله
بها عليكما ... وتذكرا دائما أن محاولاتكما لقبوله والتآلف معه والاقتراب منه هي
أولا وأخيرا واجب إنساني تجاه نفسيكما وتجاهه وحق لأبيكما ... وعبادة لربكما فلا
تقصرا فيها ... والزمن كفيل بتذويب الجليد .
رابط رسالة تاج الشوك تعقيبا على هذه الرسالة
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر