البخار المكتوم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
قرأت
رسالة السراب التي يحكى لك فيها زوج كيف عاش ثلاثين سنة مع زوجة هادئة مطيعة كانت
تبكي إذا اضطرته ظروف عمله للسفر بعيدا عنها لبضعة أيام, حتى كبر الأبناء وتزوجوا,
فإذا بها تنقلب عليه فجأة وتعتصم ببيت أهلها وتتركه وحيدا وترفض العودة إليه, وتطلب
الطلاق وتصفعه بأنها لم تحبه يوما واحدا في حياتها .. وقد دفعتني هذه الرسالة لأن
أحكي لك قصتي.
فمنذ 25 عاما كنت شابا في مقتبل العمر أعمل في
وظيفة لائقة وأعجبت بفتاة بين أسرتي وأسرتها صلات نسب وخطبتها وتزوجتها وعشنا معا
ثلاثة أعوام لم تخل من المشاكل بسبب عنادها وحبها للسيطرة لكني تغلبت على ذلك بهدوئي
وميلي للمهادنة ورغبتي في نجاح حياتي معها خاصة بعد أن أنجبنا ولدين .. ورغم ذلك
لم يعرف الهدوء حياتي .. وعند أي بادرة خلاف بسيطة تطلب مني الطلاق ..فانظر إلى طفلي
الصغيرين وأتخيل ما سوف ينتظرهما من عذاب إذا انفصلنا فيتمزق قلبي .. وأحاول أن
أعيد إليها عقلها فلا تقبل إلا بمقابل واحد وهو الاستسلام التام لكل مطالبها
فاستعين عليها بأهلها فلا تسمع لأحد, حتى صفعها أبوها ذات مرة أمامي ولم تتزحزح عن
موقفها , فأتنازل عن كرامتي حرصا على أبنائي وألبي مطالبها.
وهكذا
مضت حياتي معها .. وأرجو ألا تتهمني بضعف الشخصية .. فإن الجميع يشهدون لي بغير
ذلك كما يشهد لي به أيضا نجاحي في عملي الذي أقود فيه عشرات العاملين معي بالحب
والعدل .. فالحقيقة هي أنها كانت تستغل في نقطة ضعفي .. وهي خوفي من أن يعيش طفلاي
ممزقين بين الأب والأم كما عشت أنا طفولتي وحرصي الشديد على أن أجنبهما نظرة الضيق
الخفي التي كنت أحسها في وجه زوجة أبي حين أزوره, ونظرة الضيق الصريحة في عين زوج أمي
حين كنت أزورها .. ونشأتي محروما من حنان الاثنين في بيت جدتي, فتمادت في ضغطها علي
من هذه الناحية.. وفى هذه السنوات ورثت عن أبي بيتا صغيرا في عاصمة أحد الأقاليم
واستشرت أهل الرأي في كيفية استثماره فنصحني الجميع ببيعه ووضع ثمنه في البنك ليدر
علي عائدا يساعدني على مواجهة الحياة, وكنت أميل إلى ذلك لكني فوجئت بزوجتي ترفض
بإصرار وتصر على الاحتفاظ به, وفشلت في إقناعها بالحسنى واستجبت لرغبتها فإذا بها تطالبني
بنقل ملكيته إليها كضمان لها بأني لن أبيعه .. هذا أو الطلاق فاستعنت عليه بأهلها
فكاد أخوها الأكبر وهو صديق عمري أن يضربها لكنها لم تتزحزح قيد أنملة عن عنادها,
وكان أبوها قد رحل عن الدنيا فطلب مني أخوها ألا أسمع لها حتى ولو انتهى الأمر
بطلاقها لأنها كما قال حمقاء وجاحدة للنعمة.. وخلال هذه الأزمة قاطعتني وهجرتني
واستعدت علي كل أفراد الأسرة ففكرت طويلا.. وقلت لنفسي قبلت هذه الحياة وتحملت
آلامها من أجل ولداي .. فماذا يساوى بيت صغير إلى جانب ما تحملته خلال السنوات
الماضية وهكذا نقلت ملكية البيت إلى الولدين وأمهما .. واسترحت وأرضاها ذلك فعشنا
عدة شهور في وئام, ثم طلعت علي فجأة برغبتها في ترك القاهرة حيث مقر عملي وحيث
نقيم في شقة واسعة والانتقال إلى هذا البيت القديم لتكون بالقرب من أسرتها
وقريباتها بالرغم من أنها لا تحبهم وقد حرمت عليهم بيتي في السنوات الماضية ورغم
استحالة انتقالي إليه لأن عملي مرتبط بالقاهرة .. ودخلت فى نفس الدوامة من جديد ,
من خصام إلى عراك إلى هجر بالشهور إلى جلسات عائلية يؤيدني فيها الجميع فلا تقيم
وزنا لرأي أحد إلى استسلام في النهاية من جانبي تخالطه نظرات الرثاء لي من جميع
أفراد الأسرتين .. ثم قمت بإنفاق معظم مدخراتي على تجديد البيت وأنفقت هي شيئا
قليلا من مالها لاستكماله ثم نقلت الولدين إلى مدرسة في نفس المدينة لا تقارن
بالمدرسة الخاصة التي كانا يدرسان بها.. ولم يهمها ذلك في شئ .. وانتقلت زوجتي وولداي
إلى البيت الجديد ووجدت نفسي أعيش في شقة واسعة خالية من الأثاث ليس بها إلا سرير
ومائدة صغيرة ودولاب من دواليب الأولاد وطقم انتريه من القش وبدأت أشتري بالتقسيط
موقد بوتاجاز وثلاجة
وفى هذه الظروف وبعد فترة حصلت على أجازة وذهبت
إلى أسرتي لأقضيها معها.. فاكتشفت بعد أيام من وجودي بالبيت أن الولدين يدخنان
السجائر في سن السادسة عشرة وأنهما لا يصليان ولا يذاكران وأن زوجتي تعرف ذلك ولا
ترى بأسا به لأنهما "شباب" ولا داعي للتضييق عليهما! .. فثرت لأول مرة في
حياتي .. وأردت تأديبهما فوقفت بيني وبينهما وحولت القضية إلى خلاف بيني وبينها.. وطالبتني
كالعادة بالطلاق ! فخرجت غاضبا من البيت لأعود إلى القاهرة.. وركبت السيارة فإذا
بشئ يسقط فوقها ويحدث صوتا عاليا ففزعت وخرجت لأرى ما حدث.. فإذا بزوجتي الفاضلة
قد ألقت بحقيبة ملابسي التي نسيتها من شرفة البيت فوق السيارة .. كأنها تقول لي.. إلى
حيث ألقت! فأخذت الحقيبة وقدت سيارتي إلى القاهرة وعدت إلى شقتي .. ونمت نوما
محموما، تخالطه الكوابيس والأفكار المزعجة وصحوت في الفجر كما تعودت فوجدت نفسي
واعيا لكل شئ من حولي لكني لا أقوى على النهوض من السرير وحاولت النهوض فإذا بى
أقع وأستلقي على السرير مرة أخرى.. فتحاملت على نفسي ومددت يدي إلى التليفون وطلبت
شقيق زوجتي واستغثت به فجاء ومعه طبيب ونقلاني بحرص شديد إلى المستشفى وتبين أني
أصبت بإصابة خفيفة في المخ استغرق علاجي منها ثلاثة شهور زارتني زوجتي وولداي
خلالها فى المستشفى عدة مرات ورفض الطبيب أن يسمح لها بالإقامة معي في المستشفى
بعد أن عرف بظروفي تجنبا للانفعالات.
ثم
خرجت من المستشفى وبدأت أستعيد توازني وعافيتي وقررت أن أعمل بنصيحة الطبيب الذي حذرني
من الانفعال, وعدت إلى عملي وسعدت بمشاعر زملائي ومرءوسي الطيبة, وواصلت حياتي بين
العمل والشقة وخدمة نفسي والاستغراق في الصلاة.. وتباعدت زياراتي لأسرتي حتى لا
أرى ما يهيج انفعالاتي.. وأصبحت أرسل لزوجتي مصروف البيت مع رسول أو مع شقيقها
واستراحت هي إلى ذلك فلم تعد تزورني أو أزورها إلا في المناسبات.
وكأني
والله يا سيدي قد سمعت صوتا يجيبني.. بأن ذلك لا يرضيه وأن علي أن أدافع عما بقي لي
من حياتي.. فنهضت وأنا أحس أني خلقت من جديد, وذهبت إلى عملي وخرجت منه إلى شقيق زوجتي
وصارحته برغبتي في الزواج مادامت زوجتي لا تريد أن تضمنا معا حياة واحدة وفوجئت به
يقول لي أنني لا أكره شقيقتي لكني أكره الظلم وأنا أراها ظالمة باغية عليك فافعل
ما تشاء يا صديقي فهذا حقك ولن أغضب منك مهما حدث فنهضت أقبله شاكرا وعرضت الأمر
على أقاربي وأقاربها فقالوا جميعا نفس الشئ وعرض علي أحدهم الزواج من مطلقة من
أقاربنا في سن السابعة والثلاثين ولا تنجب وأكد لي قبولها إذا عرض عليها الأمر وفوضته في ذلك فجاءني
بعد أيام يزف إلي البشرى وكنت أعرفها بالطبع وأستريح لها كأخت فهي منكسرة وعاقلة
ولديها قدرة كبيرة على الحنان والعطاء .
وتحدد
يوم لأزورها في بيتها لقراءة الفاتحة وكانت الساعة الخامسة حين ارتديت ملابسي
وجلست انتظر قريبي واسطة الخير ليصطحبني إلى بيتها فإذا بى أشعر فجأة بخجل غريب من
وضعي كعريس في الخمسين من عمره وأفكر في الاعتذار.. وبينما أنا كذلك إذا بجرس
الباب يدق وأفتح لأجد مظاهرة من أقاربي وأقارب زوجتي جاءوا مبتهجين ليصحبوني إلى
قراءة الفاتحة وهم جميعا يتبارون في مجاملتي وتشجيعي.. ويصاحبونني في عدة سيارات
إلى بيت العروس .. وإذا بسيدات الأسرة جميعا يستقبلننا في شقة العروس بالزغاريد كأنني
شاب يتزوج لأول مرة.. ويتبارون فى إظهار فرحتهن بالزواج كأنهن يقلن لي بغير كلام:
أن الله قد عوض صبرك خيرا وإذا بأم العروس تسحبني من يدي لأرى مائدة السفرة
الكبيرة وقد غطتها زجاجات الشربات التي أرسلها أو جاء بها كل أفراد أسرتي وأسرة زوجتي
على السواء!
ولم أستطع أن أحبس دموعي.. تأثرا بمشاعر الأهل وتكررت نفس المظاهرة في الأيام التالية.. فقد قام عني أقاربي وأقاربها بشراء الشبكة والأثاث وحجز قاعة عقد القران في أحد مساجد القاهرة ومساعدة العروس في إعداد ما تحتاج إليه وتم عقد القران وسط مشاعرهم الفياضة .. واعتصمت بالمسجد ورفضت الخروج منه.. ما لم يتنازل أحد أقارب زوجتي المقيمين في البلدة وهو من أحبهم إلى قلبي عن إصراره على أن يرقص بالحصان على باب البيت الذي أقيم فيه حيث ذهب فعلا إلى نزلة السمان بالقرب من الهرم واستأجر حصانا وفرقة مزمار بلدي دفع لها خمسين جنيها مقدما وجاء بها إلى البيت ووقف ينتظر ليرقص أمام البيت عند عودتي مع زوجتي .. وظلت المراسيل بيني وبينه حتى تنازل عن رأيه ودفع خمسين جنيها أخرى للفرقة وصرفها بسلام قبل عودتي إلى البيت.
ودخلت زوجتي بيتي.. وعرفت لأول مرة معنى المودة والرحمة التي أوصانا الله أن نعامل شركاءنا بهما .
ولـــكـاتــب هـــذه الرسالة أقـــول:
إن
كنت قد أخطأت في شئ يا صديقي ففي أنك قد أطلت لزوجتك الأولى حبال الصبر حتى تمكنت
منك وشلت قدرتك على إدارة مملكتك الصغيرة وتوجهيها إلى حيث ينبغي أن تتجه فانفردت هي
مع عنادها وحمقها وغرورها بتنشئة ولديك حتى أفسدتهما عليك وأساءت إليهما بالتدليل
الأخرق حتى طاشت سهامها .. وخسرت أنت بذلك مشاعرهما وتضحياتك التي قدمتها من
أجلهما هذا هو الخطأ الوحيد في القصة كلها.. وإن كانت دوافعك إليه نبيلة وطيبة
كنفسك الطيبة المحبة للآخرين, لكن النيات الطيبة وحدها لا تكفى أحيانا لتحقيق
الأهداف, ولابد أن نساندها دائما بحزم عادل وقدرة معتدلة على الدفاع عنها وعلى
التصحيح ورفض الخطأ فى الوقت المناسب.
ومع
ذلك فإني لا ألومك يا سيدي لأن ما كان قد كان.. ولأن كل إنسان ميسر لما خلق له, ولأن
الحياة تصبح غير محتملة فعلا إذا كانت حلقات متصلة من الصراع بين إرادتين وأنت قد
أثرت التنازل دائما أملا في أن تظل السفينة طافية وتحملت نفسك ما لا تطيق حتى ضاق
بك صبرك وفاض الإناء بما فيه حتى جاءت لحظة الطوفان متأخرة بعض الشئ لكنها كانت
حتما سوف تجئ لأن لكل إنسان قدرة على الاحتمال لا يستطيع تجاوزها وإلا عرض نفسه
وصحته للخطر .. والبخار المكتوم إذا لم يجد مسربا له دمر الإناء وحوله إلى أشلاء
وهذا ما كان يحدث معك حين سقطت مريضا لولا أن كتب الله لك النجاة .. لهذا فإني
اتفق معك تماما في أن الرجل كالمرأة قد يختزن آلامه طويلا إلى أن تتحرر إرادته مما
يرده عليها من قيود تتعلق بالأبناء, والعلاقات الاجتماعية.. فينطق الأخرس ويتحرر
الأسير.. ويطلب الحقوق الضائعة ويسعى إلى سعادته.
ومن حق كل إنسان يا سيدي أن يلتمس سعادته بالطرق
المشروعة ما لم تتعارض مع سعادة الآخرين وما لم يظلم بسعادته أحدا, وأنت لم تظلم
زوجتك الأولى بل هي من ظلمت نفسها بمجافاتها لك وتنكرها لعشرتك وإفسادها لولديها
عليك وبكرهها للبشر وللجميع على السواء فحق عليها الجزاء وكانت مظاهرة أقاربك
وأقاربها ابتهاجا بزواجك دليلا صادقا على تعاطفهم معك.. وعلى أن من لا يحب أحدا لا
يحبه أحدا.. وعلى"....أنه لا يفلح الظالمون"
وما
أظنها بعد ذلك قد خسرت شيئا إلا كبرياءها كامرأة لأنها رتبت حياتها من قبل على ألا
تحتاج إليك كزوج وباعدتك سنوات طويلة بلا مبرر وليس من حقها بعد ذلك أن تعترض على
حقك المشروع في طلب الرفيق والشريك والزوجة مادمت في حاجة إليها, بل لعل في ذلك
تحقيقا لروح العدل التي افتقدتها هي وتحقيقا للغاية المثلى من الحياة فالحياة ليست
رحلة صراع وشقاء وألم.. والحق سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان ليشقى.. بل ليسعد
بهبة الله له ويذكر اسم ربه كثيرا , وقد آن الأوان لأن تسعد وتقضي أيامك في صحبة
من تخفف عنك آلامك وتغمرك بحبها وبعطفها وحنانها وتعوضك عما ضاع من العمر في
المعاناة والاكتئاب .. فهنيئا لك ما اختاره الله لك .. ومن اتكل على حسن اختيار الله
له لم يحب سوى ما اختاره له ..كما قال صادقا الإمام الحسن بن علي.
وأنت قد أحببت ما اختاره الله لك فى البداية وفى النهاية ورضيت به ولم تعترض على أقدارك في المرة الأولى مع كل ما لاقيت فيها.. فحقت لك السعادة وحق لك الهدوء والأمان إلى آخر العمر إن شاء الله.
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر