السراب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
أكتب إليك لأقص عليك قصتي بعد أن أصبحت
قصص أصدقائك المعذبين هي سلواي الوحيدة الآن .. فأقول لك إنني قد بدأت حياتي في أسرة
ريفية صغيرة في رعاية أب تقي ورع وأم بسيطة طاهرة ، وتعلمت حتى حصلت على شهادة
متوسطة . وكان يوم حصولي عليها مناسبة سعيدة في قريتنا الصغيرة لتوافد الأهل والأصدقاء
للتهنئة والتبريك وجاء عمي بعد انصراف المهنئين ومعه ابنته وهنأني و تهيأ للانصراف
فرافقه أبي حتى الباب ثم عاد إلي مسرورا ليزف إلي موافقة عمي على خطبتي لابنته ..
وفرحت بهذا النبأ السعيد وفرحت خطيبتي فرحة غامرة وتسلمت أنا عملي بعد قليل وتزوجت
بعد فترة قصيرة وعشت في بيت أسرتي في جو عائلي مليء بالسعادة والحب، وتبدت مهارات
زوجتي في شئون البيت الذي تجيد كل فنونه .. وانعم الله علينا بولد وبنت ملآ حياتنا
بهجة وسروراً وبعد سنوات من زواجنا رحل أبي وأمي عن الدنيا وهذه سنة الحياة
فعوضتني زوجتي بحنانها عن فقدي لهما .. ومضت بنا الأيام وتقدم الأبناء في دراستهم
.. وتحملت زوجتي عبء إدارة الأسرة بحكمتها وحسن تدبيرها فكنت اقبض مرتبي كل شهر وأضعه
لها في الدولاب واخذ منه ما احتاج إليه المصروف الخاص فقط وادع لها حرية التصرف في
الباقي .
وكلما اقتضت طبيعة عملي أن أسافر
سفرا قصيرا لمدة يومين أو ثلاثة تتوتر زوجتي وتضطرب وتعد لي حقيبة السفر ودموعها
تسيل في صمت على خدها كأني ذاهب إلى مجاهل أفريقيا، وحين جاء دوري للترقية إلى
وظيفة أعلى بشرط إنتدابي إلى محافظة قريبة لبضعة شهور هلعت زوجتي من فكرة ابتعادي
عنها وبكت فقررت التنازل عن الترقية وارتاحت لذلك وارتحت أنا أيضا ، وواصلنا
حياتنا الهانئة إلى أن أنهت ابنتي تعليمها وتخرجت وأنهى ابني تعليمه العالي وسافر
للعمل في إحدى الدول العربية، ومات عمي وصهري فانتقلت زوجتي إلى بيت أسرتها لتقبل العزاء وعشت في بيتي
وحيدا انتظر بفارغ الصبر مرور ذكرى الأربعين
لتعود زوجتي إلى بيتها وأحسست بالوحدة الشديدة لغيابها وغياب الأبناء أيضا بعد أن
بلغت الخامسة والخمسين وبدأت بعض أعراض الشيخوخة تطل علي ، ثم انقضت الذكرى فطلبت
من زوجتي أن تعود لبيتها فإذا بالملاك الذي عشت معه في وئام ٣٠ سنة يتحول فجأة إلى
شيطان فتطلق علي سيلا من الشتائم .. وتعلن لي أنها لن تعيش معي ثانية .. وكيف تعيش
معي وأنا البخيل ... الـ .. الـ .. وأنه لولا أبوها ما عاشت معي يوما واحدا ..
فعدت إلى البيت حزينا .. وأنا أتصور أن حزنها على أبيها قد افقدها اتزانها .. لكني
صدمت بالحقيقة القاسية بعد ذلك، حين رفضت العودة نهائيا وفشلت الوساطات معها من
الأقارب وغير الأقارب .
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
نعم هناك من هو أشقى منك .. وهو من تضمر له
زوجته هذه المشاعر العدائية البغيضة لكنها لا تصارحه بها ولا تطلب منه الطلاق ولا
تهجره لضرورة تفرض عليها بقاءها معه فيعاشر عدوا وهو يتصور أنه يعاشر حبيبا ولا
تخلو حياته من تنغيص دائم ومستمر لأنها خالية من المودة والرحمة اللتين هما أساس
الحياة الزوجية السليمة.
إن هذه مشكلة بعض الأسر المصرية التي لا يجمعها
الحب الحقيقي ولا يمنعها من انفراط عقدها سوى عوامل الضرورة وحدها .. فإذا انقضت
الضرورة بنمو الأبناء وانتهاء مسئوليتهم كشفت الكراهية عن وجهها القبيح وتطاير
الحب المزيف في الهواء كالسراب وواجه الشريكان أو أحدهما الحقيقة الكالحة، ومن أسف
أن ذلك لا يحدث غالبا إلا في خريف العمر حين ينبغي أن ينعم الشريكان بهدوء الحياة
بعد أن قطعا المشوار الطويل وأثمر الكفاح الشاق ثماره وآن للقلب المجهد أن يستريح.
وأظن أن هذا أيضا هو ما حدث معك بكل أسف .. فلقد
نقمت عليك زوجتك أشياء وأشياء خلال رحلة العمر معك لكنها لم تعالنك بها واستمرت في
معاشرتك حرصا على مستقبل الأبناء وخشية لأبيها الذي لا يسعده أن تهجر ابنته بيتها
.. ولعلها شكت لأسرتها طويلا منك وأنت غائب عن الصورة طوال هذه السنوات الثلاثين
ثم حين غادر الأبناء البيت وغاب الأب المهيب سقط القناع المزيف وتحول الملاك
الضعيف إلى نمرة شرسة بقوة الكراهية وقوة الاستغناء .
تسألني رأيي ؟ إن العداوة الصريحة أفضل وأكثر أمانا من الحقد المكتوم، والوحدة في رأيي خير من عشير النكد والنزاع ، وليس من صالحك - ليس فقط - أن تعاشر من يكرهك بل أن تتنفس حتى الهواء الذي يتنفسه فابعث إليها بالورقة اللعينة التي تطلبها ، ولا تستجدي رفقة من لا يريد رفقتك .. فتحمل أقدارك بشجاعة .. فهذا أكرم كثيرا .. هذا أكرم كثيرا صدقني.
رابط رسالة البخار المكتوم تعقيبا على هذه الرسالة
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر