السلاح الأضعف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

السلاح الأضعف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


السلاح الأضعف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


هناك مواقف قليلة في الحياة يكون أفضل ما نفعله فيها هو الاعتراف بالأمر الواقع والتسليم به لأن محاولة علاج الخطأ فيها أشد ضررا من معايشة هذا الخطأ والتواؤم معه .

عبد الوهاب مطاوع 


نشأت في أسرة متحابة بين أب عظيم وأم لا تعرف إلا العطاء وكنت صغرى إخوتي فتمتعت دائما بحبهم ، ثم مضت الأيام وتزوج كل إخوتي شبابا وفتيات وتخرجت أنا من كليتي وعملت في إحدى شركات الاستثمار الكبرى منذ 5 سنوات .

وحتى اللحظة التي بدأت حياتي العملية فيها لم يكن قلبي قد خفق لأي شاب رأيته أو تعاملت معه .. ثم بدأ أحد زملائي في العمل وهو يكبرني بعامين يطيل الحديث معي .. ويروي لي عن مشاكله مع زوجته وكانت تأتي إليه في العمل أحيانا فرأيتها جميلة ورقيقة لكنه أفهمني أن المظهر يختلف عن الجوهر فأخذ حبه يتسلل إلى قلبي شيئا فشيئا حتى وجدت نفسي لا استطيع أن أتغيب عن العمل يوما واحدا حتى لا أفارقه .. أما هو فقد راح يبثني الحب ويسكب في أذني أعذب الكلمات التي لم اسمعها من قبل فاستسلمت لمشاعري تجاهه وظللت عامين أرفض كل من يتقدم لي عن طريق العمل أو الأسرة لأعطيه الفرصة لكي يرتب ظروفه .. واشتد إلحاح أسرتي علي بعد أن تقدم لي شاب لا يمكن الاعتراض عليه .. وازداد ضغط أخي الأكبر وزوجته علي لقبوله فاضطررت للاعتراف لهما بحبي لزميلي الذي كان في ذلك الوقت قد طلق زوجته بعد أن أنجب منها طفلة ، فانفجرت المشكلة داخل أسرتي وكانت تقريبا أولى مشاكلها ورفض الجميع بلا استثناء زواجي منه ، واجمع على الرفض أبي وأمي وإخوتي وأعمامي وأبناؤهم .. ولا اعرف من أين جاءتني هذه القدرة الخفية التي جعلتني اصمد لهذا التيار الجارف وأتمسك بموقفي وارفض كل من يتقدم لي بإصرار لأضع الجميع أمام الأمر الواقع واستمر صمودي بتأثير هذه القوة التي يبثها في زميلي وحبي له عاما كاملا فانقسمت الأسرة بعده إلى فريقين .. الأول رافض ويتمسك برفضه لهذا الزواج والآخر لا يوافق لكنه مضطر للوقوف إلى جانبي رأفة بي لا أكثر .. وأخيرا انتصر الحب وجاء حبيبي ليطلب يدي وتم الزفاف وكانت ليلة العمر التي حضرها بعض أفراد عائلتي حتى لا أكون وحيدة فيها، وامتنع البعض الآخر عن الحضور.

 

وحزنت لهذه المقاطعة لكن حبيبي هدأ خواطري وأكد لي أنهم جميعا سيلتفون حولي وينسون كل شيء حين أنجب أول طفل .

وبدأت حياتي الجديدة متلهفة على السعادة وعشت أجمل شهور عمري حتى اقترب شهر الولادة ورحت أدعو الله في صلاتي أن يمن علي بالولد لكي يوثق من روابطي مع زوجي ومع أسرتي ، واستجاب الله لدعائي وجاء طفلي وخلال هذه الفترة كانت مطلقة زوجي قد خطبت لأحد أقاربها ثم فسخت خطبتها لكننا ما أن احتفلنا بعيد الميلاد الأول لطفلي ، حتى بدأت زوجته السابقة تتصل به وتلاحقه بالسلاح الذي قلت أنت عنه في أحد ردودك على مشكلة مشابهة أنه السلاح الذي قد يكون في بعض الأحيان أقوى من الحب والمشاعر العاطفية وهو سلاح الأبناء .. فراحت تتصل به وتقول له : البنت مريضة البنت تبكي وتسال عنك البنت تسألني أين بابا ... الخ

فبدأ يحضر ابنته إلى بيتي يوم الأجازة ورحبت بذلك ونظرت للطفلة كضحية وتعاطفت معها ثم بدأ زوجي يزورها في شقة زوجته السابقة التي تركها لها بعد طلاقه منها .. ولم اعترض وإن كنت لم اشعر بالارتياح لذلك .

ومنذ شهرين فقط سمعت أن زوجي الحبيب الذي خضت المعركة مع أهلي من أجله قد عقد قرانه على مطلقته وأنه تكتم الأمر حتى تناهى إلي منذ شهرين فقط .. وانتظرت عودته وأنا أتقلب على جمر النار لأساله عن الحقيقة وكلي لهفة لأن يكون ما سمعته خطأ وواجهته بما سمعت فاحمر وجهه وتلعثم وتمتم ببعض الكلمات غير المترابطة .. ثم تمالك نفسه بعد قليل وقال لي أنه يحبني كما كان وأكثر لكنه لا يستطيع أن يدع ابنته تنشا معقدة نفسيا لتمزقها بين الأب والأم خاصة أنها بنت وليست ولد .. و .. و .. ولم اسمع بقية كلماته لأني غبت عن الوعي وافقت من إغمائي بعد قليل فوجدت نفسي لا استطيع أن أفكر أو أتكلم .. ولم يتكلم هو بعد ذلك وتركني لأفكر وحدي ولأقتنع بالقسمة والنصيب كما يقول.

 

وفكرت .. وتمزقت وذهلت عن الدنيا طويلا وفي إحدى نوبات ذهولي حاولت الانتحار مرة لكن عناية الله أنقذتني .. وافقت فوجدت نفسي في المستشفى وقد التف حولي أبي وأمي وإخوتي وأقاربي جميعا .. أخيرا التفوا حولي لكن .. ليس اعترافا بحبي ونسيانا لما جرى كما وعدني بذلك زوجي في الأيام الخالية، وإنما ليخففوا عني وقع الصدمة .. وانتظرت أن اسمع من بعضهم كلمات الشماتة فلم اسمع سوى عبارات الحمد والشكر لله على نجاتي وسوی مطالبتي باستغفاره لأن الانتحار کفر به سبحانه.

 وعدت إلى بيت أسرتي ومعي طفلي .. وحصلت على أجازة من العمل لمدة أسبوع ثم عدت إلى عملي فوجدت زوجي يطالبني بالعودة إلى بيت الزوجية واعدا بأن يجعلني سعيدة حتى مع هذا الوضع الجديد .. وسمعت في هذه اللحظة صوته الحقيقي الذي كان يجمله ويلونه بعبارات الحب والهيام فلا تسمح لي خبرتي القليلة بأن اعرف الخطأ من الصواب ، وعدت لأسرتي وطرحت عليهم الأمر فوجدتهم جميعا ينصحونني بالعودة لبيتي وأن أفكر فيه بهدوء وعلى مهل ما إذا كنت أستطيع أن أشاركه الحياة مع هذا الوضع الجديد أم لا .



ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

إذا كنت قد تعلمت درس التجربة وعرفت كما تقولين بصدق محزن أن خطأ العمر هو أن نبدأ حياتنا بمشكلة .. فمن خطأ العمر أيضا أن نكرر نفس المشكلة إذا وضعتنا الظروف أمام اختيار صعب كالذي تواجهينه الآن .

فأنت یا سیدتي وآسف لكلماتي هذه قد تصبحين نفس المشكلة إذا اخترت الانفصال عن زوجك الحالي والارتباط بآخر بعد فترة طالت أم قصرت وقد يصبح أيضا طفلك نفس المشكلة التي تشدك إلى معاودة الاتصال بزوجك ومحاولة استعادته لنفس الأسباب التي دعت زوجته لذلك .. وهناك مواقف قليلة في الحياة يكون أفضل ما نفعله فيها هو الاعتراف بالأمر الواقع والتسليم به لأن محاولة علاج الخطأ فيها أشد ضررا من معايشة هذا الخطأ والتواؤم معه .

وفي قصتك هذه فإن تمزق طفلك بينك وبين أبيه أشد ضررا من قبولك للواقع غير الملائم رغم منغصاته فضلا عن أني استشعر من رسالتك عمق ارتباطك العاطفي بزوجك ورغبتك في مواصلة الحياة معه رغم جرحك الدامي منه .

ففكري في الأمر طويلا واختاري لنفسك ما ترينه ملائما .. فإذا ما اخترت مواصلة الحياة مع زوجك وأظنك سوف تفعلين فلابد أن تكوني مقتنعة تماما بذلك لكيلا تهدري العمر والصحة في محاولة تغيير الواقع الذي لن يتغير .. إذ ليس أمامك سوى اختيار أحد طريقين لا ثالث لهما.. أن تدعي أحكام القدر تمضي في طريقها بلا بكاء عليها ، على حد قول شكسبير في انطونيوس وكليوباترة .. أو اختيار الانفصال وتحمل أعبائه النفسية والاجتماعية والعاطفية .. وهي في رأيي أشد وطأة عليك وعلى طفلك من الوضع الراهن .. فماذا تختارین یا سیدتي ؟

رابط رسالة السلاح الأقوى المشار إليها

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات