الشبح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
أنا يا سيدي أم لابن شاب وثلاث فتيات كبراهن طالبة بالجامعة أما ابني فترتيبه الثاني وهو طالب بالجامعة .. وقد كنا نعيش في سعادة كأسرة متحابة مترابطة إلى أن توفي زوجي رحمه الله وكان موظفا بسيطا بإحدى الهيئات، فضممت جناحي علی أبنائي وحاولت تنشئتهم نشأة صالحة في حدود المعاش الضئيل الذي أورثه لنا زوجي، وبسبب صعوبات الحياة أراد ابني أن يعمل إلى جانب الدراسة فرفضت الفكرة في البداية خوفا من أن يهمل دراسته لكنه وجد عملا في شركة كبيرة فوافقت على ذلك مضطرة .
وبدأ ابني
يذهب إلى العمل وكان صاحب الشركة يعرف ظروفه ويحبه ويعتبره ابنا له .. فأحبه ابني
واخلص له وخلال عمله بالشركة اكتشف وجود من يسرق صاحب العمل وابلغني بذلك وسألني
عما ينبغي عليه أن يفعل فنصحته بأن يدعهم لأنفسهم إلى أن يفيقوا ويكفوا عن السرقة
لكنه لم يقتنع بذلك وهددهم بإبلاغ صاحب الشركة بأمرهم إذا لم يرتدعوا ، فلم يدعوه
يفعل ذلك وحاولوا ذات يوم مصادمته بسيارة في الطريق لكنه نجا من التصادم بفضل الله
وبعدها بدأ يشعر بصداع قاتل فأعطاه زميل له بالعمل حبوبا لعلاج الصداع استراح
بعدها .. وأصبح كلما شعر بالصداع يعطيه منها إلى أن اكتشف أنها حبوب مخدرة وأن
زميله قد خانه وأنه شريك لهؤلاء الذين هددهم فبدأت الكارثة .. واكتشفت الأمر بعد
ذلك وتأكدت من إدمانه فاسودت الدنيا في وجهي وواجهته وبكيت حتى جفت دموعي.
وجمعت كل ما أملك وأدخلته مستشفى خاصا لعلاجه
لكنه هرب منه قبل أن يتم العلاج .. وأدخلته مرة أخرى بدون فائدة وتحول إلى شبح مدمر
يدمر كل شيء حوله فيحطم الشقة ويضربني ويضرب إخوته طلبا للنقود .. ولم يكتف بذلك
بل ذهب ذات يوم إلى أخته في الجامعة وضربها أمام زميلاتها وزملائها فانهارت ورفضت
الذهاب إلى الجامعة حتى لا تواجه نظرات زملائها وحاولت إعادتها للجامعة بلا فائدة
.. فقد مرضت وذبلت فصحبتها إلى الطبيب الذي فحصها ولم يجد بها مرضا عضويا وشخص
حالتها بأنها اكتئاب وأصبحنا نتردد على الطبيب ولم تخبره بحقيقة المشكلة .. ولمست إعجابه
بابنتي كما لمست إعجاب ابنتي به أيضا وبعد قليل طلب أن يتقدم لخطبتها فأعطيته فكرة
مختصرة عن ظروف شقيقها فتقبل الأمر وتصورنا أن الله قد فتح لنا أبواب السعادة بعد
ما عانيته من آلام بسبب ابني الشارد وتحدد موعد يزورنا فيه ولم يكن ابني موجودا
بالبيت منذ فترة .. وجاء الطبيب وأسرته واستقبلناهم والأمل يخفق في قلوبنا ، فإذا بابني
يعود فجأة ويكتشف الأمر ويثور ثورة هائلة علينا وعلى الطبيب وأسرته ، بل وضربهم
وسبهم وجرى وراءهم بالسكين وجرحني وأنا أحاول منعه .
فغادر الطبيب البيت ولم يعد طبعا وعنده الحق فيما فعل .. وخيم الحزن والخوف والرعب على حياتنا فأصبحنا نخاف كلما سمعنا رنين جرس الباب ونتوقع كارثة أو مصيبة جديدة بسبب ابني وكل يوم نواجه مشكلة جديدة بسببه مع الناس أو مع إخوته اللاتي كرهن الحياة ولم يعد أحد يزورهن خوفا من مشاكل أخيهن .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
مع تحفظي مبدئيا على ظروف بداية إدمان ابنك التي أراها من نسج خياله المريض كعادة كثيرين من أمثاله الذين يفضلون دائما أن يبرروا انزلاقهم بأسباب دراماتيكية وهمية من هذا النوع .. فاني أقول لك أن إنقاذه أو إنقاذ ما تبقى منه بعد سقوطه الشنيع في بئر الإدمان ممكن بإذن الله بشرط أن يقتنع هو أولا بحاجته إلى العلاج .. وبشرط أن تصدق رغبته فيه لأن طب الأطباء لا يستطيع مهما بلغ من شأن أن يعالج مدمنا لا يرغب في التخلص من عاره ولا أن يساعد إنسانا يضن على نفسه بالمساعدة .. فإذا استطعت إقناعه بذلك فاني على استعداد لمعاونتك في علاجه في مستشفى خاص أو عام تحت رعاية خاصة .. ولسوف يتحمل بريد الأهرام كافة تكاليف العلاج إلى أن يقضي الله في أمره ويضعه على طريق الشفاء.
فتفضلي بزيارتي يا سيدتي ومعك ابنك لعل الله محدث أمرا .. ولعل الله يعيد إلى بيتكم الحزين السلام والأمان والكرامة التي أهدرها جميعا ابنك بتصرفاته الطائشة الحمقاء .. أما نداؤك الأليم للآخرين بألا يحاسبوكم عما جناه غيركم ويكفيكم ما تعانونه من آلام شرود هذا الابن وأهواله فلك كل الحق فيه فليس من حق أحد أن يضاعف من آلامكم بمجافاته ومقاطعته لكم فما انتم في النهاية سوى ضحايا لطيش هذا الابن ورعونته ولهذا الوباء الذي يفتك ببعض شبابنا ويحولهم إلى أشباح هائمة على وجهها بلا ضمير ولا دين لا تسعى إلا وراء حاجتها من السم .. كما تسعى الحيوانات الهائمة وراء العشب أينما وجدته .. فليدع الجميع لأنفسهم بالنجاة من هذا الخطر .. وليكن ما بين ما يستعينون به على ذلك ألا يظلموا من وضعتهم الظروف الأليمة في هذه المحنة القاسية .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر