العجلة الدوارة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 

العجلة الدوارة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987


 العجلة الدوارة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987


 أنا يا سيدى شاب فى الثلاثين من عمرى أعمل موظفا بإحدى المصالح الحكومية منذ 9 سنوات كنت أمارس نشاطا فنيا فى أحد مراكز الشباب وكنا نجري بروفات لمسرحية قصيرة سوف نقدمها بعد أيام والشباب يلتفون حولنا يشاهدون التجارب ويشاركوننا الإعداد للمسرحية فتعرفت على فتاة عمرها 19 سنة كانت تأتي مع شقيقاتها الصغرى تراقبان التمثيل من حين إلى آخر, وتكررت المقابلات فوجدت نفسي مشدودا إليها بقوة, وازددت اقترابا منها حين عرفت منها ظروف حياتها المؤلمة إذ كان والديها منفصلين منذ سنوات وقد تزوج كل منهما وتعيش هي وشقيقتها مع أبيها الموظف بإحدى الشركات وزوجته وتعانيان المتاعب التقليدية معها .

 

وبعد شهور من ارتباطي بها رحل أبوها عن الدنيا وفوجئت بها بعد أسابيع تتصل بي وتبلغني أن أرملة أبيها لا ترغب فى بقائها وشقيقاتها فى الشقة وأنهما لا يستطيعان الذهاب إلى بيت أمهما لأن زوجها لا يقبل إقامتها معهما, وأن شقيقتها قد استضافتها أسرة إحدى صديقاتها إلى أن تجد حلا للمشكلة, أما هي فلا تعرف إلى أين تذهب, ووجدت نفسي بغير تردد أدعوها للإقامة مع أسرتي وذهبت إليها حيث كانت تنتظرني واصطحبتها ومعها حقيبة ملابسها إلى شقة أسرتي ، ورويت لأبي القصة كاملة فتأثر بظروفها وقال لي أنه يقدر مشاعري لكنه لا يقبل أن تعيش فتاتي معي تحت سقف واحد وليست بيننا رابطة شرعية ولابد لكي يوافق على ذلك من عقد قراني عليها في نفس اليوم, وكانت فتاتي تجلس صامتة تسمع هذا الحوار فنظرت إليها فهزت رأسها موافقة, فهممت بالخروج للبحث عن المأذون فلاحقني صوت والدي مؤكدا على ضرورة المرور على الكهربائي ليعلق الزينات على البيت لكي يتحقق ركن الاشهار ويعلم به الجيران, فجريت مسرعا إلى الخارج واتجهت إلى مركز الشباب القريب لأدعو أصدقائي واصطحبت بعضهم معي إلى المأذون والكهربائي, وعدنا إلى البيت وتم تعليق الزينات وعرف الجيران بالخبر السعيد , وجاء المأذون بعد دقائق وتم عقد القران , وقبل أن يغادر البيت كان أصدقاء فرقة التمثيل قد توافدوا على البيت يحمل كل منهم آلته الموسيقية وأقاموا لنا حفلا صغيرا جميلا اسعدنا كثيرا.

 

وهكذا جمعت بيننا الأقدار على غير انتظار واكتملت سعادتي بفتاتي الجميلة .

وفى شقة أبي عشنا حوالي عامين سعداء إلى أن بدأت زوجتي تشكو من ضيق الشقة وعدم إحساسها بالحرية فيها, فحزمت أمري ذات يوم وخرجت أطوف شوارع المدينة ليل نهار إلى أن عثرت على شقة صغيرة من غرفتين فى منطقة جديدة فى أعماق الهرم وانتقلنا إليها بملابسنا فقط .. ونمنا ليالينا الأولى فيها فوق قطعة من الأسفنج, وكنت وقتها أعمل بعد الظهر موظفا للحسابات بمعرض كبير للموبيليا فقبل صاحبه أن يعطيني بعض الأثاث بالتقسيط فحصلنا على غرفة نوم لائقة وانتريه بسيط ومائدة للطعام وبعض المقاعد .. وسعدت زوجتي بممتلكاتها الصغيرة, وحلقت أنا معها فى سماء السعادة وبدأت الحياة تبتسم لنا قليلا, فنجحت في تعيينها بشهادة الاعدادية فى الهيئة التى أعمل بها.

وبدأنا نخرج سويا إلى العمل كل صباح ونغادر العمل معا عند الظهر فأمضي معها ساعة ثم أذهب إلى عملي المسائي.

وخلال عامين فقط كنت قد استكملت كل أثاث البيت وأجهزته, وقررت زوجتي أن تستكمل تعليمها الذي توقفت عنه بسبب ظروفها الخاصة, فشجعتها على ذلك وأحضرت لها الكتب وبدأت تستذكر دروس الثانوية العامة وتتقدم للامتحان ففشلت فى أول مرة, وأنجبنا طفلة فقررت أن تحصل على أجازة من العمل لتربية الطفلة وللتفرغ للاستذكار, وكان النجاح حليفها فى العام التالي وبدأت تتطلع إلى الجامعة وتمكنت من الالتحاق بأحد المعاهد العليا وقدمت لها أوراقها واصطحبتها فى اليوم الأول حتى باب المعهد وودعتها ثم ذهبت إلى عملي , وبعد شهر واحد فقط من بدء الدراسة عدت إلى الشقة إلى العاشرة مساء بعد يوم طويل من العمل مرهقا فى حاجة إلى نسمة من الراحة التى لا استشعرها إلا بالقرب من زوجتي فوجدتها جالسة على السرير فى غرفة النوم فألقيت عليها تحية المساء فأجابت باقتضاب وهممت أن أخلع ملابسي ففوجئت بها تنظر إلي نظرات صامتة طويلة فانقبض صدري لسبب لا اعرفه وقلت لها محاذرا مالك ففوجئت بها تقول طلقني.

طلقني !! يا إلهي لقد عشنا حتى هذه اللحظة 5 سنوات لم يحدث خلالها بيننا خلاف واحد, ولم أقاضيها يوما ولم أجرح مشاعرها ولو من باب الخطأ مرة, ولم أرفع صوتي عليها مرة, فأختلط علي الأمر حتى ظننت أني أخطأت السمع فطلبت منها أن تقول ما قالت فكررت نفس الكلمة القاسية, فسألتها عما حدث ولم يقع بيننا خلاف ولنا ابنة عمرها شهور , فلم تزد عن أن طريقي ليس طريقها , ويجب أن تحصل على الطلاق لتشق طريقها بعيدا عني, ورغم قسوة الكلمات فقد اعتقدت أنها غاضبة لشئ لم تفصح عنه وأن من الأفضل تأجيل المناقشة إلى أن تهدأ أعصابها فطلبت منها أن تؤجل الحديث إلى الغد, وفى الصباح طلبت منها أن تمر علي في العمل عند الظهيرة, وجاءت إلى عملي ومرت الساعات ثقيلة وأنا أتوقع منها أن تكون قد راجعت نفسها وتخلصت من هذه الفكرة الطارئة , واستأذنت من العمل نصف ساعة نزلت خلالها إلى شارع فؤاد وجهزت تذكرتي سينما في حفلة الظهيرة لأدعوها إليها حين تجئ لعل أعصابها تهدأ وتستعيد ذكريات حبنا, فجاءت جامدة الملامح تطلب الذهاب إلى المأذون وتصر على ذلك, فرأيت أنه لابد أن يتدخل بيننا بحكمته من هو أكبر منا سنا, وكانت أمي قد رحلت منذ ثلاثة أعوام وأبي قد رحل منذ عام رحمهما الله, فلم أجد سوى زوجة عمها فاصطحبتها إلى بيتها ورويت لها القصة من البداية حتى هذه اللحظة وطلبت منها أن تستضيفها لمدة أسبوعين تراجع نفسها خلالهما رحمة بهذه المولودة التى تحملها على صدرها وانصرفت , ولن أصف لك ما عانيته ساعتها من إحساسي بالقهر والظلم واليأس , فليس أقسي على الإنسان من أن يسمع ممن اختاره قلبه واخلص له الود كل هذه السنوات أنه لا يريد العيش معه فغادرت الشقة تاركا فيها زوجتي وابنتي ومشيت في شوارع القاهرة حتى كلت قدماي وأنا أصلا أعاني من متاعب قديمة فى المشي تجعل خطواتي بطيئة ومررت فى طريقى على السينما التى تصورت أني سوف أدعو زوجتي إليها فأخرجت التذكرتين ومزقتهما ببطء أمامها ثم ذهبت إلى عملي المسائي وعدت إلى مسكني الغالي فاستلقيت على السرير بملابسي وأغمضت عيني فلم أنم حتى الصباح.

 

وغادرت الفراش فخطرت لي فجأة فكرة غريبة , لقد كان المعهد الذى التحقت به زوجتي ينظم في هذا اليوم رحلة للقناطر اشتركت فيها زوجتي وسيكون مكان التجمع أمام أحد المساجد حيث يتحرك أتوبيس الرحلة, خطر لي أن أذهب إلى هذا المكان لأرقب المشهد من بعيد فإن جاءت لتذهب إلى الرحلة كأن شيئا لم يكن, خمنت أنه لا نصيب لي معها وإن تخلفت عنها فربما كانت قد استشعرت واجبها تجاه ابنتها وتجاهي وعاد إليها عقلها , وهكذا أسرعت إلى مكان التجمع فوصلت إليه قبل أن يصل أي طالب ووقفت بعيدا انتظر, وكلما جاءت طالبة خفق قلبي, وكلما مر الوقت ولم تحضر إزداد الأمل عندي .. ثم فجأة رأيتها قادمة تحث الخطى لتنضم إلى زملائها ووقفت بينهم ضاحكة مبتسمة تتبادل معهم الحديث وتضحك ومع كل ضحكة تطلقها ينغرس فى قلبي خنجر حتى صعدوا جميعا إلى الأتوبيس وتحرك بهم, وأنا واقف في مكاني البعيد كالتمثال وقد رأيت الحقيقة أمامي قاسية.

وبعد إنتهاء المهلة ذهبت إلى بيت أحد أقاربها للتفاهم فذهبت وسمع الرجل مني طويلا ثم قال لي بعطف, اذهب يا بني فطلق هذه الفتاة التى لا تستحقك وصل ركعتين لله يذهبان عنك الحزن وأحمل كل ما فى الشقة ولا تدع لها فيها ورقة واحدة فرفضت أن آخذ من الشقة لنفسي الاجهزة التى لم انته بعد من سداد ثمنها وتركت لها شقة الزوجية بما فيها وعدت إلى شقة أسرتي لأقيم مع شقيقتي وشقيقي كما كنت أعيش قبل هذه القصة , وعدت للاستغراق في العمل صباحا ومساء لأشغل نفسي عن آلامها.

ومضت شهور وأنا لا  أنسى ما حدث وكلما مرت أمامي تجددت متاعبي النفسية وذات يوم كنت جالسا إلى مكتبي في عملي الحكومي في الصباح منكب على أوراقي ففوجئت بشئ يوضع على المكتب أمامي فرفعت رأسي تلقائيا فإذا بطفلتي الصغيرة فوق المكتب وبجوارها كيس صغير من البلاستيك به ملابسها وبضعة ساندوتشات, وزوجتي السابقة تقف أمامي ببرود وتقول لي أنها مشغولة بالامتحانات وليست فاضية لرعاية الطفلة.

وقبل أن أستوعب الموقف تماما كانت زميلاتي وزملائي بالمكتب قد انفجروا فيها حتى هم أحدهم بأن يصفعها لولا أن تدخلت بينهما وأسرعت هي بمغادرة المكتب ونظرت حولي فوجدت واحدة من زميلاتي تجفف دموعها والاخرى تحمل الطفلة على صدرها وتهدهدها والثالثة طلبت لي كوب عصير من الليمون وتواسيني ببعض الكلمات.

 

 ومر هذا اليوم الغريب كغيره من الأيام التى  مرت علي , وحملت طفلتي إلى شقتي وتنازلت لي أمها عن حضانتها لتتفرغ لحياتها الجديدة وبعد شهور خطبت إلى أحد زملائها بالمعهد وبعده بشهور أخرى زفت إليه وانجبت إبنا لتكرر فى حق ابنتها نفس الخطأ الذى ارتكبه فى حقها والداها والذي بسببه وجدت نفسها هي وشقيقتها بلا مأوى.

واستسلمت للأمر الواقع وكرست حياتي وطاقتي في رعاية الطفلة أما زوجتي فقد انشغلت عنها بحياتها الجديدة فلم تطلب رؤيتها خلال العامين الأخيرين سوى مرة واحدة وجاءت لتراها ومعها زوجها وابنها ولعلها جاءت لتريني زوجها أكثر مما جاءت لترى ابنتها وإلا كيف تحملت البعد عنها كل هذه الشهور, لكني لم أكتب إليك من أجل ذلك وإنما ماذا أفعل مع هذه الطفلة البائسة لكي أوفر لها ما حرمت منه من رعاية الأم فقد تقول لي اختر لطفلتك أما جديدة ترعاها ولكن كيف وأين من هي على استعداد لأن تحب طفلة لم تنجبها  وحتى لو احبتها فى البداية فإن مشاعرها تجاهها سوف تتبدل بمجرد أن تنجب هي طفلا جديدا .




ولكـاتـب هـذه الـرسالة أقــول:

 

إن من نقائض النفس البشرية أن تقبل أحيانا لأعزائها أن يتجرعوا نفس الكأس التى تجرعتها هي من قبل وذاقت مرارتها, وتصرف زوجتك هو أسوأ مثال لهذه النقيضة, فلقد عانت مرارة التشتت بين أبوين تزوج كل منهما غير الآخر , ووجدت نفسها ذات يوم معرضة للضياع بسبب هذا التشتت , ومع ذلك اختارت لابنتها نفس المصير ولأسباب غير جدية ولا مقبولة, فأى غباء إنساني أشد من هذا الغباء , وأي أم غليظة القلب تلك التي ترضى لابتنتها بما توجعت هي منه من قبل!

لقد كان زواجها منك ثمرة لهذا الضياع نفسه وإن صدق ظني فلقد كان زواج ضرورة من جانبها أكثر منه زواج حب واقتناع ورغم ذلك فلقد كان حريا لها أن تكرس كل حياتها لاستمراره ونجاحه رحمة بطفلتها وأن تتنازل عن تطلعاتها ونظرتها الحسية والتلذذيه للحياة إلى سبيلها إذ من أحق بمثل هذه التضحية ممن حملتها وهنا على وهن, وما الفارق بين الإنسان وغيره من الكائنات إن لم يتعلم الحكمة من رأس الذئب الطائر وتجارب الآخرين المريرة.

تسألنى بعد ذلك ماذا تفعل؟ وأقول لك يا صديقي إن خير ما تفعله هو أن تضع الأمر فى حجمه الحقيقي وأن تتخلص نهائيا من الآثار النفسية المدمرة لهذه المحنة الظالمة التي عشتها فكل إنسان معرض لمثل ما تعرضت له من الغدر وإنعدام الوفاء, والمهم هو ألا نضيف نحن إلى طعنات الآخرين لنا, طعنات أخرى نطعن بها أنفسنا حين نعايش الألم إلى ما لا نهاية ولا نساعد أنفسنا على النجاة منه.

وفى مسرحية عطيل لشكسبير يقول الدوق لعطيل أن الذى يسرق فيبتسم يسترد من السارق بعض غنيمته أما من يحزن بلا طائل فإنه يسرق نفسه مرة أخرى, وليس معنى ذلك هو ألا نتألم لما يصيبنا أو أن نبتسم كالبلهاء مع كل طعنة غادرة وإنما معناه فقط هو أن علينا أن نستجمع قوانا طويلا بعد كل فترة من عثرات الحياة وما أكثرها وألا نبكي طويلا على من لم تهتز له شعره وهو يفارقنا , أو من وجد سعادته فى البعد عنا لأننا بذلك نسرق أنفسنا مرة أخرى بعد أن سرقنا من قبل بالغدر والجحود, وبعد ذلك فلابد يا صديقي من أن نتطلع إلى المستقبل بأمل لن يخيب بإذن الله فى أن يعوضك الله عن آلامك .. ولابد أن تبحث عن أم جديدة لطفلتك وشريكة أخرى لحياتك, وكم من أم بديلة كانت أكثر حنوا على من لم تنجبهم من بعض الأمهات من طراز زوجتك تلك .. وليس من حكم الضرورة كما تتصور أن تكره الأم الجديدة طفلتك بمجرد أن تنجب منك, فالأمر يرتبط أساسا بالرحمة وليس بفصيلة الدم, ومن لا يرحم لا يرحم, كما قال الرسول الكريم صلوات الله عليه ومن توهب الرحمة والعدل لا تستطيع أن تقسو على قطة وليس على طفلة بريئة سوف تكون ربيبتها, وما أكثر الرسائل التى اتلقاها ويروي لي فيها أبناء كبار عرفانهم لزوجات أبائهم اللاتي راعين الله وضمائرهن فى تربيتهم وهم صغار , فالأمر إذن ليس بمعجزة فليست كل السيدات كأم طفلتك .

 

فتلفت حولك وتخير من تلائم ظروفها ظروفك كأن تكون مطلقة وأما أو أرملة وأما أو مطلقة محرومة من الانجاب تعرف قيمة هذه الهبة الالهية وتحفظها وتلم جراحك وجراح طفلتك فلا تفقد ثقتك فى نفسك واصبر على ما امتحنت به, و ردد كلما ضاقت نفسك قول الحق تبارك وتعالى الذى كثيرا ما أتذكره فى تجارب الحياة المريرة "ولنصبرن على ما أذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون".

فاصبر يا صديقي واحتسب وعلى الله فليتوكل المتوكلون والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.

رابط رسالة بذور الوفاء تعقيبا على هذه الرسالة

                               نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات