زائر الليل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 

زائر الليل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

زائر الليل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987


هذه رسالة تلقيتها من أم وزوجة قبل نهاية شهر رمضان ولم أجد فرصة لنشرها إلا هذا الأسبوع تقول كلماتها:

أكتب إليك يا سيدى بعد صلاة الفجر وقد نام أولادي ولم يغمض لي جفن بعد لأني قد مررت اليوم بتجربة إنسانية أثارت تأملاتي أهاجت مشاعري , وقبل أن أرويها لك أقول لك أني زوجة منذ 22 سنة وكنت وزوجي موظفين ندير أمورنا جيدا وقد رزقنا ب 4 أبناء وصل الآن اثنان منهم إلى المرحلة الجامعية, وكنت بجانب وظيفتي أقوم بحياكة الملابس للمعارف والأقارب, وكان هو يشجعني على ذلك ويساعدني إلى أن بدأ يفكر فى السفر للخارج لكي يريحني من مجهود حياكة الملابس ويؤمن مستقبل الأبناء ووفقه الله فى السفر والعمل فى الخارج منذ 9 سنوات, وطالبني بتسوية معاشي حتى أتفرغ لرعاية الأولاد فى غيبته فاستجبت لطلبه وقمت بتسوية معاشي واكتفيت بالخياطة .. لكني أصبت بعد ذلك بالتهاب فى الغضاريف ومنعني الطبيب من الجلوس إلى ماكينة الخياطة .. فاستجبت لأوامره وتوقفت عن الخياطة فبدأ زوجي يتغير ويستكثر علينا المصروفات الضرورية ويطالبني بالاقتصاد لكي يستطيع أن يدخر شيئا للمستقبل .

فهل تعلم يا سيدي كم كان يدفع لنا كل شهر؟ .. لقد كان يدفع لنا خمسين جنيها بالاضافة إلى معاشي وهو 40 جنيها لأسرة من 5 أفراد منها طالبان فى الجامعة وطالبان بالمرحلتين الثانوية والاعدادية وكلما طالبته بزيادة طلبني تليفونيا وصرخ فى وجهي ليقول لي أنه مدين ولا يستطيع أن يزيد ما يعطينا من دخله مع أنه لو أرسل لنا قيمة المكالمة التليفونية الطويلة نفسها لساهم فى حل إحدى مشاكلنا.

 

وكلما جاءت مناسبة كدخول المدارس أو حلول الصيف أو الشتاء واجهت مشكلة وطالبته بأن يرتب لنا ما يخفف عنا الضيق فى هذه المناسبات , فضاق بنا جميعا ذات مرة وانقطع عن إرسال المبلغ الشهري نفسه لمدة تقترب من السنتين لا يعرف سوى الله كم عانيت خلالها, وفكرت فى هذه الفترة فى اللجوء إلى القانون لكنه كانت لي صديقة عمر بل أخت من هؤلاء الذين يصدق عليهم القول "رب أخ لك لم تلده أمك" , كانت تلمس ظروفي وتعرفها فنصحتني بألا ألجأ إلى القانون لكي لا أخسره نهائيا ولكي أحافظ عليه لأبنائى.

ونصحتني بالصبر وكانت تقرضني من مالها ما أفك به أزمتي, بل وكانت تخرج علي وعلى أبنائي من زكاتها وتقول لي أننا أحق بها لأننا ممن يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف, أما هو فظل على ما هو عليه يزورنا كل سنة ونصف أو كل سنتين فيمكث معنا حوالي الشهر ينفق خلاله ما يزيد عن ثلاثة آلاف جنيه لا يستفيد منها البيت بشئ مفيد أو بشئ يحتاج إليه أولادي اللهم إلا قطعة شيكولاته أو عشاء من الفراخ المشوية أو الكباب فى مطعم فإذا عارضته أو طالبته بتوفير هذه النفقات للأبناء قال لي أنني فقرية ونكدية .. ومما يزيد من حسرتي أنه لا يحضر لأولاده ملابس اللهم إلا قطعة واحدة لكل منهم, فتبقى مشكلة الملابس من مشاكلي التي لا أستطيع بدخلي ومصروف البيت المحدود الذى يعطيه لي أن أحلها .. أما هو فيأتي مرتديا أفخر الملابس وأفخر الأحذية, ويتفاخر بأن حذاءه هذا إيطالى الصنع ثمنه 300 جنيه , وبدلته هذه أمريكية الصنع ثمنها 500 جنيه فى حين أن أبناءه زبائن مستديمون عند محل اصلاح الأحذية, أما سعادته الكبرى فهي أن يزور أقاربه حاملا لهم الهدايا ومستمتعا عندهم بالحفاوة والترحيب والاحترام.

وفى هذه الظروف التى أعانيها فجعت فى رحيل صديقتي الوفية التي طالما بكيت على صدرها وخففت عني همومي وشاركتني في تدبير حياتي .. فبكيتها من قلبي ومرضت حزنا عليها وأحسست أن الدنيا أصبحت خالية من حولي بعد رحيلها لكني مؤمنة بقضاء الله وقدره وأدعو لها فى صلاتي وأدعو لزوجي بالهداية, وقد ألمني منه اليوم أن جاءتني منه رسالة يقول لي فيها أنه سعيد جدا لأنه سيؤدى الحج هذا العام للمرة الثالثة وأنه سيزورنا بعد انتهاء الحج وقد آثار ألمي أنه في نفس الوقت هذا اليوم وبعد ساعات من وصول خطابه .. كنت مضجعة أستريح قليلا بعد الافطار فجاءني أصغر أبنائي وهمس في أذني بمنتهى المذلة والخوف ألن تشتري لنا ملابس العيد يا ماما ؟ فقلت له سأفعل إن شاء الله وطيبت خاطره وصرفته مطمئنا ثم انتفضت قائمة وبكيت بحرقة وأنا أدعو الله أن يفرج كرب كل مؤمن, وخرجت إلى "الفراندة" لأجلس وحدي ورفعت وجهي إلى السماء وطلبت من الله الهديا لزوجي , ومضت ساعة أو أكثر لم أشعر بها فهل تعرف ماذا حدث بعدها ؟

 

 قد لا تصدقني لكني أقسم لك بالله وأنا صائمة أن هذا ما حدث فلقد طرق بابنا فى العاشرة مساء زائر ففتح ابني الباب فوجده ابن صديقتي الراحلة يطلب مقابلتي وجاءني في الفراندة وجلس أمامي ورحبت به وسألته عن أحواله وأحوال اخوته فأجاب بأدب أنهم بخير ثم سلمني مظروفا قال لي أن والده أرسله إلي بناء على وصية المرحومة زوجته وانصرف .



 

ولكـاتـب هـذه الـرسالة أقـول:

إن في كلماتك يا سيدتي ما يغنى عن أي تعقيب , لكني سوف أستجيب لندائك وأكتب لزوجك بضع كلمات باختصار فأقول له: أنه ليس من البر ولا من التقوى أن تنفق مليما واحدا في أداء الحج للمرة الثالثة وأسرتك وأبناؤك فى أشد الحاجة إليه وليس من البر ولا من العدل أن تنفق معظم ما تكسب على نفسك وعلى ملابسك الفاخرة وأحذيتك الايطالية وأبناؤك لا يطعمون كفايتهم ولا يرتدون من الملابس ما يحفظ عليهم كرامتهم .. حتى ليخرج عليهم بعض الفضلاء زكاتهم وحتى يحتاجوا إلى معجزة من السماء لكي يشتروا ملابس العيد كما حدث لأبنائك منذ أسابيع.

لا يا سيدي وألف لا ليس هذا من العدل في شئ , ولو أنصفت واستلهمت روح القيم الدينية الحقة لأنفقت ما سوف تنفقه للحج للمرة الثالثة على أسرتك وأصلحت شأنها ووفرت لها الحياة الكريمة وأغنيتها عن الحاجة وحميتها من الهوان وفى قصص السيرة العطرة الكثير مما يؤكد هذا المعنى .. منها قصة الرجل الذي أعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام صاعا من التمر ليتصدق به عن نفسه ككفاره لإفطاره ذات يوم فقال له ليس في المدينة بيت أحق به من بيتي فقال له الرسول أحمله إلى أبنائك واقض اليوم الذي أفطرته! وفى "الأثر" الكثير والكثير من أمثال هذه القصص لذلك فلن أطيل فيها لكني على يقين من أنك سوف تكون أقرب إلى الله وأنت ترعى أسرتك وتصلح من شأنها وتكفيها الحاجة منك وأنت محرم للمرة الثالثة بلا ضرورة وأسرتك لا تأمن غدها وتعانى من شظف العيش فى القاهرة.

ولو استجبت لمشاعري لقلت لك أن الله جل شأنه ليس في حاجة إلى طوافك ولن يقبله إن لم ترع أسرتك الرعاية الكاملة وإن لم توفر لها أولا الحياة الكريمة.

 

إن مشكلتك الحقيقية يا سيدي هي مشكلة كثيرين من الآباء والأزواج الذي يتصورون أن ما يكسبون هو مالهم الخاص الذي يحق لهم أن ينفقوه كيف يشاءون .. وقد يكون هذا صحيحا في أحد وجوهه لكنه ليس صحيحا على إطلاقه, لأنه كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .. وروح المسئولية تطالب رب الأسرة بأن يحسن توزيع دخلها على متطلباتها وبأن يعدل بين مطالبه الشخصية وبين مطالب من وضعتهم الأقدار تحت رحمته , والعدل كفيل بحل كل المشاكل وكفيل بتوفير الحياة الكريمة للأسرة وبتأمين مستقبلها وبتلبية مطالب رب الأسرة أيضا.

فكن عادلا يا سيدي وأد حقوق أسرتك وأمن حياتها ومستقبلها .. ثم افعل بمالك بعد ذلك ما تشاء .. والسلام.

رابط رسالة زائر السعادة من كاتبة الرسالة بعد النشر بـ 4 أشهر

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات