الحادث السعيد .. رسالة من بريد المعة عام 1987
كثيرا ما أتلقى
رسائل عديدة يعلق أصحابها على ما ينشر في بريد الجمعة .. ويروون فيها تجاربهم
الشخصية المماثلة لما ترويه هذه الرسائل .. ومن بين الرسائل التي تلقيتها تعليقا
على رسالة الضيف الجديد للطالبة الجامعية التي كتبت إلي تشكو غيظها من إن أمها
تنتظر حادثا سعيدا بعد أن كبر الأبناء وأصبحت ابنتها الكبرى في سن الزواج ، توقفت
طويلا أمام هذه الرسالة :
ردا على الآنسة صاحبة مشكلة
الضيف الجديد أحكي لها قصتي لعلها تجد فيها بعض ما يريحها، ففي سنة ١٩٧٠ كان عمري
٥٣ سنة وكان لزوجتي ولدان أحدهما من زوجها السابق .. والثاني مني .. واتفقنا على
الاكتفاء بذلك مراعاة لسني ولحالتها الصحية .. لكن نفسها كانت تهفو إلى إنجاب بنت
وصارحتني بذلك فرفضت بشدة وحذرتها من ذلك. فكتمت رغبتها وتوقفت سرا عن تعاطي حبوب
منع الحمل وبعد شهور ظهرت عليها أعراض الحمل فصحبتها إلى الطبيب الذي فحصها بسرعة
ثم قال لي مبروك المدام حامل في شهرين فخرجت من العيادة ساخطا وعدت إلى البيت وأقمت
الدنيا وأقعدتها وعشت أياما عصيبة .. أتساءل لمن سيأتي هذا المولود .. إنه حين
يبلغ العشرين من عمره سيكون عمري فوق السبعين ولو سبق الأجل فسيواجه الحياة وحيدا
.. فلماذا نتحمل هذا العبء .. وساءت حالتي النفسية وهددت زوجتي بالطلاق .. وخيرتها
بين التخلص من الجنين وبين الاستمرار معي .. وبكت زوجتي كثيرا ثم رضخت لإرادتي في النهاية
وتوجهنا معا إلى الطبيب وصارحته بأن حالة زوجتي الصحية لا تسمح لها بالإنجاب
ورعاية مولود في هذه السن لأنها مريضة بالربو ورجوته أن يخلصها من الجنين فأجابني
بأن الربو لا يمنعها من الحمل والإنجاب وأن التخلص من الجنين جرم لا يستطيع أن
يقترفه فخرجت من عنده ساخطا واستشرت رجال الدين فقالوا لي جميعا أن ما أفكر فيه
حرام وأن علي أن أرضى بإرادة الله ، فاستسلمت قانطا لكن مشاعري تجاه زوجتي تأثرت
كثيرا وتغيرت معاملتي لها طوال شهور الحمل حتى جاء موعد الولادة، ووضعت بنتا كما أرادت
ويا سبحان الله فلقد تغيرت مشاعري فجأة بمجرد الولادة فأشفقت على زوجتي ونظرت
للمولودة بحنان وأنا أتعجب لقدرة الله سبحانه وتعالى .. وفرحت بها وفرح بها أخواها
والجميع .. وعندما درجت على الأرض لأول مرة خطفت قلبي معها .. وعندما لعبت وقفزت
لعبت بقلبي ومشاعري وأصبحت أثيرة عندي وازدادت روابطي بزوجتي متانة وعمقا.
والآن يا سيدي وبعد ١٦ سنة من
هذا الحادث السعيد، أنظر حولي فأجد ابني قد تخرجا ورحل كل منهما إلى مستقبله
وحياته بعيدا عنا .. ولم يعد معنا في البيت سوى هذا الجنين الذي أردت ذات يوم أن
أحرمه من حق الحياة ، وأجد نفسي في السبعين وزوجتي تقترب من الستين وابنتنا هي
الأمل الوحيد الذي يضيء حياتنا ويبدد وحدتنا فهي التي ترعانا وتقوم بخدمتنا وتتحمل
مسئولية البيت وحدها بعد أن أصبحت الشغالات عملة نادرة، وهي التي تدخل وتخرج
علينا حاملة إلينا
الأخبار من العالم الخارجي وما نحتاج إليه من متطلبات الحياة وتشغلنا بحكاياتها
وأفكارها وأرائها وصديقاتها واجلس إلى نفسي أحيانا لأتساءل ترى كيف كانت حياتنا
ستصبح موحشة وجافة لو لم يهبنا الله هذه الابنة البارة لكي تساعدنا في هذه السن
المتأخرة .. وأتعجب لحكمة الله واستغفره لنفسي حين غضبت وحين فكرت في إجهاض هذا
الأمل قبل مجيئه والسلام عليكم ورحمه الله .
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
إن خير الدروس هو ما نتعلمه من
تجاربنا الشخصية ودرس التجربة في قصتك هو عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .. ومن
عجب أننا نعرف ذلك ونردده كثيرا في حياتنا اليومية ومع ذلك ننساه كثيرا أمام أية محنة
عابرة إلى أن تذكرنا به تطورات الأحداث وتعيدنا من جديد إلى واحة الأمان.
إنني أشكرك يا سيدي على رسالتك الصادقة هذه التي
أرجو أن تهدئ خواطر من يواجهون تجارب مماثلة سبق السيف فيها العزل ولم يعد أمامهم
سوى الرضا بما اختارته لهم الأقدار.
أما ابنتك الحبيبة .. بشرها بحياة سعيدة موفقة
بإذن الله .. جزاء لبرها بأبويها ورعايتها لهما .. لأن من آيات العدل الإلهي التي
لا تحتاج إلى برهان أن من بر أبويه بره ولده .. ومن عقهما عقه ولده .
وهكذا الحياة
يا سيدي تبعات نؤديها إلى أبوينا فيؤديها إلينا أبناؤنا وعطف وإشفاق نحمله لهما ..
فيحمله لنا أبناؤنا .. مع تمنياتي لك بحياة آمنة هادئة بإذن الله والسلام.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر