واحد من الأصدقاء القدامى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
أفتح بريدي
أحيانا فأجد فيه رسالة من أحد أصدقائي على الورق الذين نشرت مشاكلهم في بريد
الجمعة فأسعد بها سعادتي برسالة تأتيني من صديق قديم وألتهم سطورها سريعا لأعرف
ماذا صنعت به الدنيا .. وماذا شهدت مشكلته من تطورات .
وفي هذا الأسبوع
فتحت بريدي فوجدت فيه رسالة من صديق قديم نشرت رسالته منذ فترة وأبديت رأيي فيها ..
ثم آثر صاحبها أن يطلعني على ما جرت به المقادير
في حياته.
أما الرسالة فهي من كاتب الرسالة التي نشرتها بعنوان "أصل وصورة" ويقول :
لعلك تذكرني .. فأنا الرجل الذي تجاور الثمانين من عمره والذي كتب إليك منذ حوالي عام ونصف مشكلته طالبا رأيك وراجيا منك ألا تسخر منه ومحذرا إياك من أن تسخر من أحد مهما كانت الظروف عسى أن تضعك الظروف في المستقبل في وضع شبيه بما سخرت منه في مقتبل حياتك .
تذكرتني إذن ..
حسنا رويت لك ظروف حياتي وأن زوجتي رحمها الله قد ماتت منذ زمن وكبر أولادي
وتزوجوا وتفرقوا بين المدن بحثا عن حياتهم ومستقبلهم. وقلت لك أنني أعيش وحيدا لا
جليس ولا أنيس في مسكني أو في سجني الانفرادي بمعنى أصح فأغادره في الصباح لساعات
قليلة اشترى خلالها حاجيات معيشتي أو الأدوية التي احتاج إليها ثم أعود إلى بيتي
فاقضي فيه بقية اليوم وليلي في كآبة وسآمة وقلت لك أن صحتي جيدة وأن معاشي محترم
ويكفى متطلبات حياتي وأنني منذ فترة قد تقابلت مع سيدة محترمة محتشمة في ملبسها
وشديدة الشبه بابنتي المتزوجة التي تعيش بعيدا عني في إحدى المدن مع زوجها وأبنائها
فوجدت نفسي مشدودا إليها بطريقة لم استطع مقاومتها فطلبت ها بعد عدة مقابلات بريئة
في كازينو عائلي محترم أن تعتبر نفسها ابنة لي أراها كل فترة في نفس المكان وان تسمح
لي بأن أقدم لها الهدايا في المناسبات كما افعل مع ابنتي واشترطت عليها ألا تزورني
في بيتي وألا أزورها في بيتها حرصا على التقاليد وقبلت هي بعد تردد وسألتك الرأي
في ذلك فقلت لي بصراحة أنني في محنة شديدة لأني أعاني من حالة غرام شديدة تجاه هذه
السيدة تنذر بالمتاعب في مثل سني وطلبت مني ألا أتمسك بأية أوهام أبوية في هذه
القصة لأن الموضوع كله في رأيك برئ من مثل هذه النظرية الأبوية ولمتني أني ابحث عن
صورة لابنتي الغالية افرغ فيها مشاعري ولدي "الأصل" وهو الابنة الغالية
التي استطيع أن أزورها كل حين في مدينتها كما استطيع أن ادعوها لزيارتي من وقت
لآخر.
وقد قرأت ردك
علي واعترفت لنفسي بان ما تقول قد يكون صحيحا لكن الحياة قاسية يا ولدي لمن كان في مثل سني وحيدا بلا أنيس ولا جليس ولابد له ما
يبدد وحشته ووحدته .. وكان عزائي هو هذه المقابلات البريئة مع هذه السيدة المحترمة
فلم استطع ان اعمل بنصيحتك وأن انقطع عن رؤيتها وواصلت الاهتمام بهذه السيدة
ومقابلتها في هذا الكازينو العائلي وبعد عدة شهور صارحتني بأنها قد درست أخلاقي
وحياتي الماضية وعرفت من زميلات لها كن معي في العمل قبل المعاش كل شيء عني وعن
مغامراتي البريئة في شباب الكهولة وانتهت من حديثها إلى أنها ترغب في أن تتزوج لنعيش
أيامنا في هدوء واطمئنان خاصة وأن زوجها قد مات منذ فترة وأنها تعيش حاليا مع أخيها
وزوجته المشاكسة المتعبة .. فكان ذلك مفاجأة لي وصدمة لأعصابي أحسست معها كأني
فقدت ابنتي لأني كنت استأنس بها في فراغي القاتل وكنت صريحا معها فحدثتها عن
ضروريات الحياة وضروريات الزواج وأنني فوق الثمانين وهي في الخمسين ولها شبابها
وجمالها وأن ذلك قد يفتح علينا أبواب الشيطان والمنازعات .. فغضبت لذلك واحتجت علي
بشدة و أصرت فطلبت منها مهلة لأفكر في الأمر وعرضت الموضوع على أسرة صديقة لي فأيدتني
في رأيي بعدم الزواج منها .. فلم تقبل هذا الرأي .. وعشت أياما أفكر في الموضوع وأنا
حزين لضياع أملي، وحزين أكثر لضياع أمالها هي في حياة مستقرة .. وقد قررت بعد عذاب
طويل أن ابتعد عنها وأن أتوقف عن مقابلتها داعيا الله أن يرزقها بزوج خير مني ثم رأيت
أن أستشيرك كما فعلت في المرة الأولى فماذا تقول لي .
ولصديقي القديم كاتب هذه الرسالة أقول :
وهل أخذت من قبل بنصيحتي لكي تسألني الرأي مرة أخرى.
لقد حذرتك يا سيدي من خطورة الأمر وقلت لك أنك
في محنة حقيقية تتطلب منك مغالبة النفس وردها عن أهوائها لكيلا تعرض شيخوختك
الهادئة للعواصف والزلازل . لكنك آثرت الاندفاع وراء مشاعرك غير الأبوية تجاه هذه
السيدة فوضعت نفسك في موقف لا تحسد عليه ، فها أنت يا سيدي وأنت في سن الجلال
والحكمة والوقار تجد نفسك أمام "مشكلة شباب" ساخنة مطلوب منك فيها أن
تحزم أمرك سريعا .. فإما أن تكلم بابا وإما أن تحرمك الحبيبة من رؤيتها ومقابلتها
هذه المقابلات البريئة .
فهل هذا معقول
يا سیدي ؟
لقد رجعت إلى
رسالتك القديمة في أرشيفي فوجدتك قد غيرت في رسالتك هذه بعض ملامح شخصية هذه
السيدة لكي تضفي على الأمر شكلا أكثر احتراما .. فقد قلت في رسالتك الأولى أنها
متزوجة وأنها صغيرة السن أي أصغر من سن الخمسين بكثير لهذا وجدت فيها صورة كاملة
لابنتك الغالية .. وأنت الآن تقول لي أنها أرملة في الخمسين وقد يكون ذلك صحيحا ..
وقد تكون ترملت خلال الفترة الماضية وقد تكون قد أفسدت عليها حياتها الزوجية
بمشاعرك الأبوية هذه وتسببت في جنوح سفينة زوجها وهذا جائز أيضا واغلب ظني أن أمل
الحصول على شقة ممتازة كشقتك له دخل أيضا في القصة لكن المؤكد في كل الأحوال أنها أصغر
من سن الخمسين بكثير .. وحتى لو كانت كذلك فلا شك أن فارق العمر هائل بينكما وأنها
ليست الزوجة المناسبة لمن كان في سنك لو كانت هناك ضرورة للزواج من الأصل.
لقد قلت لك في
ردي السابق أننا لو تركنا أنفسنا لأهوائها لفعل كل إنسان ما تهفو إليه نفسه بلا
رادع من قيم أو أعراف أو تقاليد ولتحولت الحياة إلى غابة يحصل فيها كل إنسان على
ما يريد ويهوى لكن لكل شيء ثمنه دائما يا سيدي وثمن الجري وراء الأهواء هو أن يجد الإنسان
نفسه في مثل موقفك الصعب هذا بعد أن اطمأننت إلى هذه العلاقة وثمنه أيضا أن يفقد الإنسان
احترام الأهل والأقارب والمعارف فضلا عن احترام الإنسان لنفسه قبل كل شيء، فهل أنت
راض عما صنعت بعد أن أصبحت كالغريق تتعلق بحبال الهواء؟
.
إنني أعرف
قسوة الوحدة ومراراتها .. وأعرف أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا وحيدا تماما كالشجرة
المنفردة وسط رمال الصحراء القاحلة .. واذكر أن أحد أصدقائي كان يقول شاكيا من
وحدته وهو في سن الشباب أن الوحدة أسوء من رفيق السوء .. أعرف ذلك يا سيدي وأقدره وأفهم معاناتك لكنك هنا كالمستجير من الرمضاء بالنار فإذا كان لابد من
الزواج فلماذا لا تختار رفيقة طريق عمرها مقارب لعمرك لتمضي معك بقية الرحلة أو
لماذا لا تستعين على الوحدة بالصبر والصلاة والقراءة وزيارة الأبناء والأهل وصداقة
الأصدقاء أم ترى أنك مازلت تفضل المغامرات
البريئة كما كنت تفعل في شباب الكهولة ؟
عد لنفسك يا
سيدي وتذكر أن الإنسان لا يستطيع أن يصادم قيم مجتمعه دائما وفي كل مراحل العمر ..
وقاك الله شر العواصف في ليالي الشتاء أقصد شتاء العمر لا شتاء الطبيعة مع تمنياتي
لك بشيخوخة هادئة مجللة بالوقار والاحترام.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر