أصل وصورة ! .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

أصل وصورة ! .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984 

 أصل وصورة ! .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984


قد يري البعض أن هذه الرسالة لا تمس مشكلة جادة من مشاكل حياتنا, لكنني مع ذلك استجبت لرجاء صاحبها في نشرها وطلب الرأي فيها.. ليس فقط لأن كاتبها شيخ في الثمانين من عمره ورجاء الشيوخ لا يرد كما يقولون. وإنما ايضا لأنها تحكي عن صورة غريبة من صور الحياة التي يخطئ الإنسان كثيرا إذا ظن يوما أنه عرفها تماما وفهم كل ألغازها: تقول كلمات الرسالة:

  

دفعني للكتابة إليك أنني لم أجد فيما أقرأه في مآسي بريد الجمعة مشكلة مشابهة لمشكلتي.. لذلك فقد قضيت علي ترددي وقررت أن أكتب لك راجيا منك في البداية ألا تسخر من مشكلتي.. فإياك يا بني أن تسخر من أحد فلعلك تحس يوما بإحساسه إذا وضعتك الظروف في مثل ظروفه, والحق إنني لا أقصدك شخصيا بذلك وإنما أقصد من قد يقرأ رسالتي فيعجب منها ولأدخل في المشكلة مباشرة فأقول لك:

إنني رجل قاربت الثمانين من العمر, وفي المعاش منذ سنوات بعد وظيفة محترمة للغاية, وأتقاضى معاشا مناسبا, وأنا والحمد لله في صحة جيدة, وقد توفيت زوجتي منذ سنوات طويلة ورفضت أن أتزوج من بعدها لكي لا أتسبب في أية آلام لأبنائي وبناتي وقد توليت تربيتهم تربية حسنة وشبوا جميعا وتفرقوا في أنحاء الوطن كل في عمله وحياته أو في بيت زوجها ووجدت نفسي وحيداّ بعد رحلة العمر لا أجد أنيسا ولا ما يخفف عني وحشة الوحدة.

 

 روتين يومي لا يتغيرا أبداّ, وهو روتين ممل جدا وأكاد أعيش بسجن انفرادي بشقتي, وقد فكرت في حالي وشكوت إلى زملائي من أصحاب المعاشات فتقدم كل منهم باقتراحه لمواجهة مشكلة وحدتي, فاقترح أحدهم أن أتزوج فرفضت لأنه اقتراح مستحيل .. واقترح آخر أن أتبني فتى أو فتاة فرفضت لأنه اقتراح غير مأمون العاقبة ولا أراه مناسبا وأنا رجل متمسك بتعاليم ديني, واقترح ثالث أن ألتحق بدار للمسنين والعجزة فأجد فيه من يؤنس وحدتي فرفضت أيضا لأني لا أتصوره حلاّ مناسباّ لمشكلتي.

 

 وخلال هذه الدوامة شاهدت فجأة فتاة أو سيدة تقترب من الأربعين شديدة الشبه بابنتي الغالية في ملامحها وملابسها المحتشمة .. فارتاحت لها نفسي وشعوري وعلمت بعد قليل أنها سيدة متزوجة ومحافظة على نفسها وزوجها, لكني لم أتمالك نفسي تجاهها. إذا قلت إنه الحب فلن أقول إن ذلك ليس صحيحا. لكنه إن شئت حب شفوي أو رومانسي كما يقول شباب هذه الأيام, فلقد وجدت نفسي أسيرا لهذه السيدة فاقتربت منها وتفاهمت معها على أن تعتبر نفسها ابنتي, وأن أعتبرها ابنة لها كل حقوق ابنتي.. وكأنها ابنتي التي تعيش مع زوجها في مدينة أخرى.

 



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

نعم أفعل يا سيدي وبغير سخرية إن شاء الله لأني لا أسخر أبدا من آلام الناس ولأني اعتدت أن أحترم آلام الآخرين وأن أتعامل معها بجدية مهما بدت للبعض تافهة أو ثانوية.. وأنا أري يا صديقي أنك في محنة كبيرة فأنت مهما حاولت أن توهم نفسك بمسألة البنوة الخيالية هذه فإنك في رأيي تعاني من حالة غرام شديدة وفي سن خطرة ولا عجب في ذلك رغم غرابته فكل إنسان معرض لما تعانيه وفي أي مرحلة من العمر ما دام بين جانبيه خافق. لكني أنصحك بنسيان هذه القصة كلها وباحتمال وحدتك أو باختيار أي بديل آخر ولو كان الزواج من أرملة في عمر مقارب لسنك, وبعض الداء أهون من الدواء! والدواء الذي تتداوي به من وحدتك الآن يا سيدي خطر, ويعرضك لعواصف وزلازل لا تليق بك في هذه السن ولا تحتملها. وأهونها هو استنكار أهلك وأبنائك ومجتمعك وتعريض نفسك لما تكره، ومصادمة المجتمع في قيمه وأعرافه ليست من الحكمة فمصادمة قيم المجتمع الذي تعيش فيه بشدة كما تفعل الآن يعرضك لمتاعب أنت في غني عنها, وليس كل ما يتمناه المرء يدركه.. وليس كل ما تهفو إليه النفس مما يقبله الشرع والمجتمع, لذلك أمرنا جميعا بمغالبة النفس الأمارة بالسوء, ولو انقاد كل إنسان لما تهفو إليه نفسه لتحول المجتمع إلي غابة ينتزع فيها كل إنسان ما تحبه نفسه وترضاه مهما كان مخالفا للدين وللقيم.

 

 لذلك فإن ما تطلبه قد يكون مقبولا في مجتمعات أوروبية مثلا, لكنه ليس مقبولا في مجتمع كمجتمعنا لا يتقبل هذه العلاقة ولا يفهمها, إلا كعلاقة غير سوية مع سيدة متزوجة, ناهيك عن احتمالات العبث والرغبة في الاستفادة من الجانب الآخر.. وهو احتمال قائم بكل أسف! لذلك أنصحك بأن تعرف نفسك أولا ومن عرف نفسه جيدا عرف الناس جميعا وفهم مشكلته الحقيقية, وأنصحك بألا تتمادي وراء أية أوهام "أبوية" في الموضوع كله فالأبوة هنا بريئة من هذه القصة كلها, خاصة وأن ابنتك الحقيقية الغالية كما تقول عنها على قيد الحياة والحمد لله .. وزيارتك لها أو زيارتها لك ليست مستعصية.. فلماذا تبتعد عنها وتبحث عن صورة لها.. ولماذا تبحث عن الصورة أصلا ولديك الأصل.

رابط رسالة من نفس الكاتب بعد عام ونصف


 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات