بداية طريق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
بين ركام المآسي
قد يبزغ أحيانا بصيص ضوء يعيد إلى النفس السكينة والأمل .. ووسط تلال من الرسائل
التي تروي آلام البشر .. وجدت هذه الرسالة التي لدهشتي - كانت تحمل بين سطورها هذه
المفاجأة الغريبة !!
مضت 3 شهور لم
أحضر خلالها لمقابلتك في مكتبك وقبل أن تسال من أنا سأقول لك .. إنني طالب الطب
الطريد الذي كتب لك منذ شهور يشكو إليك ضعفه وتشرده بين بيوت أقاربه بعد أن طرده
شقيقه الذي كان يقيم معه ضيقا به بعد وفاة والدته .
لقد قلت لك في رسالتي أنه لم يبق أمامي سوى عدة
شهور قد تحدث بعدها المعجزة وأصبح طبيبا يخفف آلام البشر ، لكن هذه الشهور الباقية
تقف عثرة في طريقي ونشرت رسالتي بعنوان الطريد وطلبت مني في تعليقك
عليها أن اتصل بك مؤكدا أن بريد الأهرام سوف يتولى مسئوليتي إلى أن أتخرج .. وجئت إليك
متعثرا في خجلي فهدأت من روعي .. وأشرت إلى ملف ضخم للرسائل أمامك وقلت لي كل أصحاب
هذه الرسائل يريدون أن يقفوا معك في محنتك إلى أن تنتهي من دراستك وتبدأ حياتك ..
ومنذ تلك اللحظة وأنا أعيش في عالم غريب لم أكن لأصدق وجوده لو لم أدخله بنفسي وأتحسسه
بيدي .. أهذه حقا هي نفس الدنيا التي أعرفها والتي طردني منها شقيقي من بيته
مبعثرا كتبي على الأرض ؟ لا أظن ذلك .. فهذه دنيا أخرى
بالتأكيد.
لقد وجدت بين يدي فجأة نقودا .. وشيكات وحوالات ..
ورسائل مشاركة ومواساة وقابلت في مكتبك الصيدلي طيب القلب كريم الخلق الذي لا أنسى
تأثره وهو يشد من أزري .. ويضع في يدى ورقة لأتسلم بها من خزينة إحدى صيدلياته مبلغا
محددا كل شهر .. وقابلت المهندس الشهم الذي تعهد لك بحماس بأن يجد لي سكنا مؤقتا
إلى أن تنتهي مشكلتي .. وخرجت من عندك مذهولا .. وخلال فترة قصيرة كان هذا المهندس
الكريم قد وفر لي بالفعل سكنا مفروشا مع طالب طب ليتيح لي فرصة الدراسة الهادئة ،
وكنت قد اشتريت ما أحتاج إليه من كتب وملابس .. وواظب الصيدلي على دفع المبلغ الشهري
حتى بعد أن قلت له أن مساهمات القراء قد قدمت لي مبلغا لم أتخيله .. ووجدت نفسي
أعود إلى كتبي التي كدت أهجرها وحين حاولت أن أشكرك قلت لي كلمتك التي مازالت ترن
في أذني حتى اليوم فلقد قلت لي : لن أقبل منك شكرا بالكلمات فإن كلمة الشكر
الوحيدة التي اقبلها منك هي أن تبلغني بعد عدة شهور بأنك قد نجحت وأصبحت طبيبا ..
فإن نجاحك سوف يشعرني ويشعر قراء البريد الذين وقفوا إلى جوارك أننا قد
.
بنينا هرما
صغيرا ، ولعلك لا تدري كم أثرت في هذه العبارة وكم ألقت علي من مسئوليات جسيمة
تجاهك وتجاه قراء البريد الذين انتشلوني من محنتي .. لقد رسبت قبل ذلك فلم أخش
الرسوب لكنني
خشيته هذه المرة .. لأني شعرت أني به سوف أخذلك وأخذل من مدوا أيديهم لانتشالي ..
ولن أطيل عليك وإنما سأقول لك .. لقد جاء وقت الشكر .. يا صديقي .. فلقد نجحت
اليوم في امتحان بكالوريوس الطب بتقدير جيد وتخرجت طبيبا وسأبدأ فترة الامتياز في
أول مارس القادم وسأعمل على الفور إذ إنني كما تعلم قد سبق أن أمضيت فترة الخدمة
العسكرية أثناء دراستي.
أشكرك !
هذه هي الرسالة التي فوجئت بها وتعليقي الوحيد عليها هي :
حمدا لله وشكرا لقراء البريد
الذين لولاهم ما وجد هذا الطبيب الشاب بداية الطريق إلى تحقيق آماله .
أما أنت أيها
الطبيب الشاب .. فألف مبروك أقولها لك من قلبي .. ومن قلوب كل الذين شاركوك مشاعرك
وآلامك .. وسيسعدون مثلي بهذه الرسالة كما سعدت بها .. وإني لعلى ثقة إن طال بنا
العمر من أنك سوف تكون بعد قليل أحد هؤلاء الذين يأتون إلى مكتبي طالبين أسماء وعناوين من أنشر
رسائلهم الإنسانية لتمد لهم يديك ولتقف إلى جوارهم كما وقف آخرون إلى جوارك .. فالحياة
يا صديقي ديون علينا قدمها لنا آخرون ونردها نحن لآخرين فتمضي الحياة .. ولولا ذلك
لما وصلت سفينة إلى بر الأمان .. ولما وجد كثيرون بدايات الطريق.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1985
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر