الطريد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

 الطريد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

الطريد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

إن بني آدم ثقيل في أي مكان لا يملكه وكلنا معذورون في هذا الزمن الصعب الذي لا يتحمل فيه احد أحداً ولا تسمح فيه علب السردين التي يسمونها مساكن بالقيام بالواجبات العائلية تجاه الآخرين.

عبد الوهاب مطاوع


تلقيت في بريدي هذه الرسالة التي تقول كلماتها:

اقرأ بريدك كل أسبوع .. وأتابع مآسيه وأفكر منذ زمن طويل في أن أكتب إليك لأنفس عما في صدري ثم أؤجل قراري حيناً بعد حين، حتى وجدت نفسي والدنيا قد أسودت في عيني فأمسكت القلم لأكتب لك هذه الرسالة.

وأنا يا سيدي لم تسود الدنيا في عيني لأنني أنظر من شرفة "بيتي" فأطل على قصر تقام به المهرجانات كل يوم ويغرق أصحابه في الترف والسفه. كما هو حال المهندس الشاب الذي كتب إليك بذلك. ولا اسودت الدنيا في وجهي لأنني أعيش في "بيت" أبي ومازلت أبحث عن شقة لأنزوي فيها كما هو حال المهندسة الشابة حديثة التخرج التي كتبت إليك. ولا أنا سجين الأسوار الحزين لغدر خطيبتي بعد دخول السجن كما كتب إليك السجين الشاب الذي سيقضي مدة العقوبة طالت أم قصرت ثم يعود إلى "بيته" . ولاحظ يا صديقي أنني أضع كلمة بيت دائماً بين قوسين. لأن في هذه الكلمة البسيطة مشكلة حياتي التي سأرويها لك الآن.

 

فأنا شاب طالب بكلية الطب بالسنة النهائية.. لم يبق على تخرجي سوى 3 شهور قد تحدث بعدها المعجزة وأصبح طبيباً يخفف آلام البشر.. وقد مات أبي وأنا طفل صغير.. فلم أعرفه ولا أكاد أذكر شيئاً عنه وكنا وقتها نقيم في مدينة صغيرة قريبة من القاهرة ، 4 أخوة منهم 3 أشقاء وأخت واحدة. أنا أصغرهم. وكافحت الأسرة الصغيرة حتى تعلم الأبناء وتزوجوا جميعاً ماعداي بالطبع وعملوا وأقاموا في القاهرة، وبقيت أنا مع أمي في مدينتي الصغيرة حتى حصلت على الثانوية العامة بمجموع كبير والتحقت بإحدى كليات الطب بالقاهرة .. واجتمعت الأسرة لتقرر مصيري فاستقر الرأي على أن نعيش أنا وأمي مع شقيقي الأوسط في شقته الصغيرة مع زوجته وولديه. فأقمنا معه أنا وأمي في غرفة وشقيقي وزوجته في الغرفة الأخرى. ومضت الحياة طبيعية يرعانا شقيقي الأوسط بدخله البسيط إكراماً لأمي. وأنا أبذل كل جهدي في الدراسة وأنجح كل عام والحياة تبدو واعدة بالمستقبل الطيب وبالخير.

 

 ثم فجأة ماتت أمي وأنا في السنة الثالثة بكلية الطب. فاهتز كياني كله وبكيتها طويلاً. ولم أكن أتصور أنني فقدت بفقدها كل شيء.. النصير.. والأمان.. والكرامة.. وكل شيء؟ فبعد وفاتها بأسابيع قليلة بدأت معاملة زوجة أخي لي تتغير وبدأ الجميع يضيقون بوجودي بينهم .. وراحت زوجة شقيقي تدس لي عند شقيقي وعائلي الوحيد وأبي الذي لا أعرف غيره وصمد أخي في البداية قليلاً ثم ضعف بعد فترة قصيرة وانساق لزوجته وكثرت المشاكل. وأنا صابر أبذل المستحيل لإرضاء أخي وزوجته وولديهما. إلى أن كان يوم وكنت جالساً على مكتبي أذاكر دروسي. وأجتر همومي فأجد صورة أمي تطفو فوق صفحة الكتاب الذي اقرأه .. وأتذكر حنانها وعطفها علي.. وتدمع عيناي فأفيق من سرحاني وأعود لنفسي ثم فتح الباب فجأة بعنف ودخل أخي ووراءه زوجته. والغضب واضح في عينيه.. ثم صاح في " ماذا تفعل هنا".. واندفع بلا مقدمات يلقي بكتبي على الأرض وبملابسي وزوجته تساعده وفرحة الشماتة القاسية في عينيها وأنا أقف مذهولاً كتابي في يدي.. ولساني عاجز عن النطق ثم نطقت أخيراً بعد جهد .. وكانت العبارة الوحيدة التي استطعت أن أنطق بها.. هي "حاضر يا اخويا".. "حاضر يا اخويا" .. فقد فهمت أخيراً بعد صدمة المفاجأة ماذا يريد فهمت يا صديقي أنه يطردني من رحمته.. ومن رعايته.. ومن مأواي الوحيد لسبب لا أعرفه وانحنيت متعجلاً أجمع كتبي وأدواتي وقواميسي.. وملابسي القليلة من الأرض وأضعها في حقيبة صغيرة.

ثم استأذنته في أن أخلع البيجامة وأرتدي القميص والبنطلون والحذاء فأشار بيده أن "أفعل" ففعلت تحت بصره . ثم حملت كتبي وملابسي وغادرت الشقة بخطوات سريعة متعثرة.

 

 وحاولت أن أبحث بعيني وأنا في طريقي للخروج عن وجهي ابني أخي اللذين أحببتهما من قلبي لأودعهما.. فوجدت باب الغرفة مغلقاً عليهما. فأخذت طريقي إلى باب الخروج صامتاً .. نزلت إلى الشارع أحمل صفاً عالياً من الكتب وحقيبة صغيرة بها بعض الحاجيات ومشيت بلا هدف.. وفي جيبي 75 قرشاً هي كل ما أملكه من الدنيا.. ومشيت حتى كلت قدماي من المشي.. وكلما تعبت وضعت حملي على الرصيف وجلست بجواره ألتقط أنفاسي.. ودموعي تتساقط بلا إرادة .. ثم وجدت قدماي تقوداني إلى بيت شقيقتي المتزوجة وقد اقترب الليل من منتصفه وضغطت الجرس ففتحت شقيقتي الباب ووجدتني أمامها حاملاً كتبي ففهمت كل شيء. وفي اليوم التالي جاء شقيقي الأكبر وقرر مع شقيقتي أن أقيم لديها على أن ينفق هو علي لاستحالة إقامتي لديه لسبب بسيط هو أن زوجته هي شقيقة زوجة أخي الأوسط .. وقررا مقاطعة أخي الأوسط لطرده لي بلا سبب وبدأت إقامتي في بيت أختي منذ ذلك اليوم وعادت الحياة تمضي طبيعية رغم الجراح.. لكن المشكلة يا صديقي أن "بني آدم" ثقيل حيث حل وفي أي مكان لا يملكه. وأنا لا بيت لي ولا أب ولا أم ولا دخل. وشقيقتي مثقلة بأعباء ستة أبناء وزوج لهم عليها حقوق.. والعواطف الحارة تبرد بعد حين تحت وطأة الحياة وضيق المكان فبدأت معاملة الأبناء والزوج تتغير .

 

وبدأ الإحساس بمزاحمتي لهم ثم بالقرف مني والضيق بي وبوجودي. وكنت قد تعلمت الدرس من التجربة الأليمة التي مررت بها.. فحاولت أن أوزع "ثقلي" بين بيت شقيقتي وبيت شقيقي.. حملت كتبي وذهبت إلى بيت شقيقي الأكبر.. حيث أقابل بالوجوم عند رؤيتي وباللقاء الفاتر، والضيق المكتوم، فأتحمل كل ذلك صابراً لمدة لا تزيد على 3 ليال، على أمل أن تكون هذه المدة بمثابة أجازة يتنفس خلالها زوج شقيقتي وأبناؤه الستة الصعداء لغيابي عنهم.. ثم أجد أنه لا مفر من العودة إليهم قبل أن أطرد من بيت شقيقي فأحمل كتبي مرة أخرى وأعود فأحس أن عودتي قد نزلت عليهم كنزول القضاء المستعجل.. وأنا أدرك ذلك .. ولكن ماذا أفعل.

 


 

هذه هي الرسالة التي تلقيتها في بريدي هذا الأسبوع ولكاتبها أقول :

ومن الذي قال أن ما ينشر في بريد الجمعة هو أكثر المشاكل إيلاماً ومأساوية في الحياة! إن الحياة مليئة بالمآسي لكن كل إنسان يتصور أن مشكلته هي المأساة الوحيدة في الحياة وهو معذور في هذا الظن لأنه يعيش آلامه هو لا آلام الآخرين ومن حقه أن يشكو مما يعانيه بل وأن يصرخ ألماً أيضاً فالألم المكتوم أكثر قوة من الألم المسموع ومن فوائد أبواب البريد في الصحف أنها تتيح لنا فرصة الإطلاع على آلام الآخرين وعذاباتهم فنكتشف أحياناً أن ما نعانيه هو من تفاهات الحياة بالقياس إلى آلامها ومشاكلها الأخرى وفي حالتك هذه أنت تتصور أنك الوحيد في العالم الذي لا بيت له ولا أحد يهتم به ويرعاه وهذا غير صحيح فكثيرون هم من لا بيوت لهم ولا أهل ولا أحد يرعاهم وينفق عليهم كما يفعل شقيقك وأنا لا أقلل من شأن مشكلتك.. فقد آلمتني بأكثر مما تتخيل خاصة مشهد الطرد البشع من بيت أخيك القاسي المجرد من المشاعر الإنسانية لكني فقط أدعوك لأن تضعها في حجمها الطبيعي وسط جبال المآسي التي تطل علينا من الجانبين وأدعوك لأن تنظر إلى الأمام بوجه مبتسم بالرغم من كل شيء لكي تنهي رحلة كفاحك وعذابك التي أوشكت على النهاية قريباً . بإذن الله وأدعوك أيضاً لئلا تحمل إحساساً بالمرارة في نفسك تجاه شقيقك الأكبر أو شقيقتك أو زوجها وأبنائها وشقيقك في نفس الموقف الصعب وبني آدم ثقيل كما تقول أنت وهما معذوران وأنت معذور وكلنا معذورون في هذا الزمن الصعب الذي لا يتحمل فيه احد أحداً ولا تسمح فيه علب السردين التي يسمونها مساكن بالقيام بالواجبات العائلية تجاه الآخرين.

 

إن رحلتك يا صديقي قد أوشكت على النهاية بنجاح إن شاء الله وسوف تتخرج طبيباً تقيم في المستشفيات خلال عام الامتياز بعد شهور. وزوال العبء المالي الذي تمثله حالياً للآخرين سوف يغير بعض ملامح الصورة الحزينة وبريد الأهرام من جانبه يسعده أن يتحمل مسئوليتك خلال الشهور الباقية مع كل الاحترام الواجب لمشاعرك ولظروفك الخاصة مساهمة في إقناعك بأنك لست وحدك في الدنيا فأنت لست فعلاً وحدك يا صديقي بل إن حالك أفضل كثيراً ممن لا شقيق لهم ولا شقيقة وممن يلاطمون الحياة وتلاطمهم وهم وحيدون تماماً بلا عائل ولا نصير ولا مأوى فاستجب أنت أيضاً على ما تدعو إليه المهندس الشاب والمهندسة الشابة وسجين الأسوار وأرض بحياتك وابتسم للمستقبل الذي سيكون أفضل من الماضي بكل تأكيد ولا تتوقف عن حب الآخرين وأولهم شقيقك وشقيقتك فمن لا يحب الناس لن يحبه أحد وليس من حقه أن يأسى على حب الناس له والدنيا أخذ وعطاء وليست أخذاً فقط ولا عطاء من جانب واحد فقط فأعط للناس حباً تجنه حباً ولا تتصور أن من واجب الناس تجاهك أن يحبوك وأن يرعوك بغير أن تكلف نفسك عناء محبتهم فهكذا الحياة يا صديقي أخذ وعطاء سعادة وعناء راحة وشقاء أيام سعيدة وأيام تعيسة إلى ما لا نهاية ولو لم تكن كذلك لما كانت حياة ولكانت الجنة التي بها توعدون

مع تمنياتي لك بالنجاح والتوفيق وفي انتظار لقائك.

رسالة من كاتب الرسالة بعد عدة أشهر

 وبعد اسبوع من نشر الرسالة 




بتاريخ 5 أكتوبر 1984

رسالة .. من استراليا


إنني مهاجر مصري منذ 15 عاما إلى استراليا .. ولم أسافر إلى مصر طوال هذه الفترة سوى مرة واحدة .. وإن كنت أتمنى من قلبي أن أزورها كل سنة .. وأنا هنا على المعاش وبمعنى أصح المعاش المبكر حيث تعرضت ل 3 حوادث سيارات , لكني الآن بخير والحمد لله ونحن هنا نتابع أخبار مصر ونقرأ الأهرام والأخبار وإن كانتا تصلان إلينا بعد أسبوع من موعد الصدور .. وأنا أقرأ بريدك بإنتظام وأتشمم فيه رائحة مصر وأنفعل بما أقرأه فيه من قصص وقد تأثرت غاية التأثر برسالة الشاب طالب الطب الذى لم يتبق على تخرجه سوى شهور وأتمنى له النجاح .. ومرفق مع خطابي هذا هدية بسيطة له هي 50 دولارا أرجو تسليمها إليه مع تمنياتي له بالنجاح .. وسأتابع الإرسال كلما أستطعت إن شاء الله .. فلقد كان والدي مهاجرا معي إلى استراليا لكنه عاد إلى مصر منذ 3 سنوات .

وللأسف توفي في مصر رحمه الله .. وقد ذكرتني رسالة طالب الطب بأبي رحمه الله كان يتمنى أن أكون طبيبا .. ولكني للأسف لم أستطع تحقيق أحلامه فأنا راسب ثانوية عامة فى مصر وأنا هنا لا أستطيع نسيان مصر والأهل والأقارب والأصدقاء مسلمين ومسيحين .. كذلك فإنني مواظب على الصلاة منذ 7 سنوات وأقرأ الفاتحة كل يوم 15 مرة لموتانا من المسلمين وسأتابع  الكتابة إن شاء الله عن استراليا والسلام عليكم ورحمة الله .

اخوك المخلص .. عصام ..

تلقيت هذه الرسالة القصيرة من قارئ مصرى باستراليا لم يسبق لي التشرف بمعرفته من قبل..

ولا أعرف لماذا أحسست بشئ  من الحزن الهادئ يتسلل إلى نفسى عقب قراءتها !

هل يكون ذلك بسبب هذه "الريتم" الشفاف من الحزن الذي يشيع في الرسالة فيما تحت السطور ؟ أم أنها صورة المغترب البعيد الذي اعتزل العمل بسبب الاصابة ويعيش وحيدا فى بلاد غريبة .. ووجدانه يهفو إلى مصر بأحيائها وأمواتها ؟ أم هو الحزن الكامن فى أعماقنا وينتظر من يدعوه ليلبي النداء في كل حين ؟ لا أعرف على وجه التحديد لكني أعرف على الأقل كم هو نبيل منك يا صديقي أن تشارك على البعد بمشاعرك أبناء بلدك مشاعرهم  ومشاكلهم .. وكم هو نبيل منك أن تفكر فى أن تقتطع من معاشك بضعة دولارات لترسل بها إلى شاب مكافح تعاطفت معه وأشكرك كثيرا لذلك واطمئنك إلى أن مشكلة طالب الطب لم تعد تحتاج إلى مساعدة مادية لكني أرجو أن تكتب لي دائما وأن تتقبل صداقتي على البعد فلعل ذلك يخفف عنك بعض إحساسك بالوحدة والاقتراب والشوق إلى تراب مصر .. مع تمنياتى لك بالسعادة.

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984

شارك في إعداد النص / أحمد محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات