فجر جديد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
من حق قراء
البريد أن يعرفوا من حين إلى آخر ماذا فعلت الدنيا "بأصدقائهم" على
الورق الذين قرأوا رسائلهم في بريد الجمعة وتأثروا بآلامهم وتعاطفوا معهم .. ولقد
أتيح لي هذا الأسبوع أن أعرف أخبار أحد هؤلاء الأصدقاء من
هذه الرسالة :
أكتب إليك
رسالتي الثانية خلال شهور لأروى لك ما حدث بعد لقائي بك وبعد نشر رسالتي الأولى ..
وقبل أن تجهد ذاكرتك في محاولة التعرف علي سأقول لك أنني الطبيب الشاب الذي نشرت
رسالته بعنوان "أسرة صغيرة" منذ أسابيع والذي كتب لك يشكو صعوبة الحياة
التي يواجهها بلا دخل سوى مرتب صغير لا يكفي لمطالب أسرة وزوجة وابنة صغيرة إلى حد
أن منعه حارس المستشفى ذات يوم من الدخول لشكه في أنه طبيب .. هل تذكرتني .. إنه أنا
يا سيدي هذا الطبيب الشاب الذي جاء إليك عقب نشر رسالته بناء على خطاب منك
فقابلتني بترحيب وامتصصت خجلي وحيائي ثم قلت لي أن قراء كثيرين قد قرأوا رسالتي
وتأثروا بظروفي ويرغبون صادقين في معاونتي على مواجهة مصاعب الحياة وقلت لي يا
سيدي أن بعض هؤلاء القراء يعرضون علي توفير عمل إضافي لي ... ... ثم سكت قليلا
لتتخير كلماتك بعناية قبل أن تقول لي بحرج استشعرته فيك .... "وبعضهم قد أرسل
إليك بعض الهدايا المالية ويرجونك قبولها".
ولقد أعجبت كثيرا بهذا التعبير الذي أجهدت نفسك
لتبتكره حرصا على مشاعري وشكرت لك في نفسي هذا الحرص على مشاعر الآخرين لكني أيضا
لم استطع قبول هذه الهدايا وطلبت منك فقط فرصة عمل إضافي فأعطيتني خمسة خطابات
تقديم لقراء أفاضل عرضوا معاونتي وغادرتك شاكرا ولم أعد إليك مرة أخرى ولعلك سألت
نفسك لماذا ؟ وسأقول لك بعد حين لماذا لم اعد على الفور ؟
لقد توجهت إلى أول أصحاب هذه العروض وهو شخص
فاضل فعرض علي مساعدتي في افتتاح عيادة خارج القاهرة بهدف معاونتي أولا وأخيرا
فشكرته كثيرا واعتذرت لارتباطي بالعمل في القاهرة وتوجهت إلى ثاني أصحاب هذه
العروض وهو طبيب صالح يملك مستشفى صغيرا بالمعادي فقابلني بوجه يشع منه نور
البشاشة ورحب بي وابلغني أنه عينني مشرفا على غرفة العمليات لمدة 3 أيام في الأسبوع
بمرتب ستين جنيها وأنه اختار
العمل
لمدة 3 أيام فقط لبعد مسكني عن المعادي فشكرته وتسلمت العمل .. وفى اليوم التالي
وجدت الطبيب النائب يقدم لي مظروفا به ستون جنيها تركه لي صاحب المستشفى فقلت له إنني
لم اعمل بعد لكي استحق أجرا فقال لي أن الحاج صاحب المستشفى قد صرف لك مرتب شهر
مقدما لكي تصلح به شأنك ولابد من قبوله فأخذته شاكرا حسن نواياه ثم وجدت نفسي بعد
يومين أمام صيدلية الصيدلي الفاضل الذي أعطيتني خطابا له فدخلت وقدمت له خطابك
فقراه ثم قام يرحب بي ترحيب الأب بابنه ويعرض علي أن اعمل بالصيدلية باقي أيام الأسبوع
فرحبت بذلك فرحا بأن اعمل مع مثل هذا الأب الطيب .. ولم يمض سوى يومين حتى وجدت
مظروفا آخر به مبلغ من المال تركه الطبيب لي كمقدم أجر لأصلح به شأني مرة أخرى.
ووجدت نفسي وقد عملت في عملين إضافيين بدلا من
عمل واحد فشكرت الله كثيرا وأحجمت عن الذهاب إلى باقي أصحاب العروض اكتفاء بما أنعم
الله علي به من فضل وانشغلت بالعمل في المستشفى العام الذي اعمل به صباحا
والمستشفى الخاص في المعادى .. وصيدلية الأب الطيب في قصر العيني، ووجدت نفسي بعد
المعاناة أعمل وارتزق رزقا حلالا طيبا وقد بدأت الحياة تبتسم لأسرتي الصغيرة لأول
مرة بعد المعاناة فقررت أن أكتب إليك بما حدث لكني أثرت الانتظار حتى أول الشهر
لكي أكون قادرا على أن أقول لك ما أردته .. وهو أنني يا سيدي أريد أن أشكر أهل مصر
الطيبين الذين وقفوا بجوار أسرتي الصغيرة بأن أقدم لبريد الأهرام كل شهر مبلغ عشرة
جنيهات للحالات الإنسانية التي ينفق عليها وأنني اعتبر ذلك دينا علي للقراء
الطيبين الذين مدوا يد المساعدة إلى أسرتي وأشعروني أن في قلوب الآخرين مكانا
للعطاء والتكافل.
لقد حسبت "دخلي" فوجدت أنني استطيع أن أقدم هذا المبلغ البسيط لأصحاب الحالات الإنسانية ردا لديون الآخرين علي .. ولولا أنني في مرحلة سداد الديون الكثيرة لقدمت أكثر من هذا المبلغ.
إنني أرجو ألا تخجلني برفض هذا المبلغ وأرجو أن
تعتبره تعبيرا مني عن شكري وعرفاني لكل قراء البريد.
************
هذه هي
الرسالة السارة التي نقلت لي أخبار صديقي الغائب بعد أول لقاء وهي تغني عن أي
تعليق اللهم إلا القول أن كل ما تحكيه ليس بغريب ولا بجديد على أهل مصر الطيبين
على حد تعبيره .. ولكني انتهز هذه الفرصة لأنشر بضعة سطور من بعض رسائل القراء الأفاضل
الذين أعدت إليهم شاكرا "هداياهم المالية" بعد اعتذار الطبيب الشاب عن
قبولها ففي قراءة مثل هذه السطور ما يحبب الإنسان في الحياة رغم آلامها.
إحدى هذه الرسائل من طبيب كريم بمدينة صنبو
بالصعيد ويقول فيها : لقد مررت بنفس مشكلة زميلي الشاب المادية وواجهتها مستعينا
بالله وعشت في الريف حيث المجال الطبيعي لحاجة الناس إلي فأعطيتهم الحب والعناية فأعطوني
حبهم وخيرهم وأصبحت الظروف الصعبة التي مررت بها ذكرى جميلة تذكرني بفضل الله علي
ومرسل لسيادته مبلغ مائة جنيه سلفه له على أن يعاهدني بأن يردها إلى إنسان آخر يرى
أنه في احتياج وذلك بعد أن ينكشف عنه غمة الضيق وتشرق عليه وعلى أسرته بإذن الله
شمس السعادة .
والرسالة الأخرى
كانت من مهندس فاضل من مصر الجديدة وفيها يقول إنني أتوسل إلى هذا الطبيب الشاب أن
يعتبرني شقيقا له قد لا يستطيع مساعدته عن طريق إيجاد عمل له لكنه لا يستطيع أن
يقف مكتوفا أمام عذاب أسرة صغيرة كأسرته لذلك أرجو أن يقبل مني هذا المبلغ المتواضع
"مائه جنيه" وأن يعتبره دينا عليه يرده بعد أن يفتح الله عليه أبواب
الرزق في شكل يوم يخصصه للكشف على المرضى الفقراء مجانا حين يعطيه الله ما يفتح به
عيادة طبية .
أما الرسالة
الثالثة فكانت كلماتها مختصرة كعادة كاتبها الفاضل الدكتور احمد من طنطا كلما أرسل
إلى بريد الأهرام بمساهمة مالية جديدة لحل مشاكل أحد القراء وكانت تقول : أتشرف بإرسال
مبلغ مائتي جنيه لصاحب مشكلة أسرة صغيرة هدية له ولأسرته بمناسبة عام 1985
ورغم أن هذه
المساهمات الكريمة قد أعيدت لأصحابها إلا أن معانيها الكبيرة والنبيلة باقية
ومشرقة بالخير والعطاء والأمل في حياة تسودها قيم التكافل والعطاء .
أما عرض صديقي
الطبيب الشاب بالتبرع لبريد الأهرام فإني مع احترامي الكامل لمشاعره اشكره عليه
كثيرا وافهم مغزاه ومعناه لكني أرجوه أن يعطي نفسه مهلة كافية لترميم بنيان حياته
وحياة أسرته الصغيرة ولسوف تأتي بالتأكيد أيام قادمة أكثر إشراقا سوف يستطيع فيها أن
يجزل العطاء لمن هم في حاجة إليه شكرا وعرفانا لمن قادوا خطواته على بداية الطريق
.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر