أسرة صغيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984
أتلقى رسائل
عديدة من قراء يطلبون من بريد الأهرام أن يساعدهم في العثور على عمل إضافي بعد
الظهر ليتمكنوا من مواجهة أعباء الحياة .. ورسائل أخرى يطلب أصحابها عملا في
الخارج لبناء مستقبلهم وشراء الشقة والزواج ورسائل أخرى يطلب أصحابها فرص عمل
أساسية لأنهم لم يعملوا بعد منذ أن تخرجوا لسبب أو لآخر، لكن هذه الرسالة تفتح
أمامي نافذة على عالم لا أعتقد أن كثيرين يعرفون شيئا عن واقعة.. تقول كلمات
الرسالة :
أنا يا سيدي
طبيب شاب بمستشفى عام، أبلغ من العمر ۳۲ سنة ومتزوج وعندي طفلة
عمرها عامان و قد وفقني الله في حياتي إلى حد كبير، فنجحت في استكمال دراستي
الطبية رغم ظروفي العائلية الصعبة فلقد نشأت في أسرة فقيرة، وكان أبي موظفا صغيرا
في إحدى الوزارات ثم أحيل إلى المعاش، وأنا في بداية مرحلة الدراسة الجامعية
فواجهت قسوة الحياة في سن مبكرة. وتغلبت على مشكلة نقص الدخل بإعطاء الدروس
الخصوصية في الرياضيات لطلبة المدارس.
وكنت "مدرسا" متواضع الأجر، لأني
أعرف معنی الحرمان فكنت أعطي للطالب حصتين كل أسبوع مقابل 3 جنيهات فقط كل شهر.
وقد بدأت عملي بطالب واحد.. وكنت سعيدا بالجنيهات الثلاثة التي أكسبها من تدریسي
له وأستعين بها على نفقات المواصلات إلى الكلية، وفي السنة التالية أصبح الطالب
الواحد ثلاثة طلاب، وفي السنة التالية أصبحوا خمسة طلاب وأصبح إيرادی من التدريس
15 جنيها كل شهر يسر لي هذا المبلغ شراء بعض الكتب ولكني في السنة النهائية اضطررت
إلى التوقف عن التدريس لكي أتفرغ للدراسة وانقطع عني هذا المورد المهم في فترة
حرجة من حیاتي .. ولم يكن أمامي مفر من الاستدانة لاستكمال تعلیمي مع وعد
بالسداد عقب التخرج والعمل، ووفقني الله في النجاح ووفقني الله أيضا في أن أدبر
حیاتي خلال فترة تجنیدي بصعوبة شديدة، حتى انتهت بسلام وعينت طبيبا بإحدى الوحدات
الريفية.. وبدأت أعرف لأول مرة في حياتي الاستقرار والاطمئنان للمستقبل، وكانت هذه
الفترة هي أحلى فترات عمري.. فالعمل مريح.. والناس طيبون والخير كثير والحمد لله.
وكان دخلي
معقولا خلال هذه الفترة من الكشوفات المنزلية.. ومن فحص المرضى الذين يترددون على
الوحدة ليلا .. وعرفت خلال هذه المرحلة معنى الوفرة لأول مرة في حياتي فادخرت مبلغ
ألف جنيه. وكان طبيعيا أن أفكر في الارتباط بالإنسانة التي أحبها منذ سنوات طويلة
والتي تحبني وترقب كفاحي في انتظار الوقت المناسب للزواج، فخطبتها وواجهنا مشكلة
الشقة وتكاليف الزواج وضاعف من صعوبة المشكلة أنني نقلت خلال هذه الفترة إلى
القاهرة للعمل في أحد مستشفياتها العامة ففقدت إمكانية الزواج والإقامة في الوحدة
الريفية.
وتعجبت لذلك إذ إنني كنت فيما مضى أعرف أن
الأطباء من أصحاب النفوذ العائلي هم الذين ينقلون إلى المدن الكبرى .. وأن من ليس معهم
إلا الله من أمثالي هم الذين ينقلون إلى الريف، لكني تعلمت شيئا جديدا هو أن الآية
قد انعكست الآن بسبب صعوبة الحياة في المدن الكبرى ومشكلة الشقة للراغبين في
الزواج .. فأصبح الأطباء من أصحاب النفوذ هم الذين ينجح أقاربهم في نقلهم إلى
الوحدات الريفية ليتمتعوا بالزواج والإقامة في سكن الطبيب المجهز بكل شئ إلى أن
يتمكنوا من ادخار المبالغ الكافية للحصول
على شقة بالقاهرة، وهكذا نقلت إلى القاهرة وأنقذتني الإرادة الإلهية بآية أخرى من
آيات الله إذ استطعت العثور على شقة في بيت أحد أقارب زوجتي في حدود مبلغ استطعت
جمعه بالاستدانة من إخوتي وأقاربي واستدانة زوجتي من إخواتها على أمل السداد عند
تحسن الأحوال بعد أن ينجح الدكتور الذي هو أنا ويشتهر وتجري النقود في يديه
أنهارا.
وأصبحت بذلك ربا لأسرة صغيرة سعيدة والحمد لله تغلق باب شقتها عليها وتستمتع بالاستقلال والمشاركة والحنان المتبادل، ولا يعرف الناس عنها شيئا، وأسبغ الله علينا نعمته فأنجبنا طفلة جميلة أصبحت محور حياتنا بمشاغباتها ومرحها، ولعلك تسألني الآن وما هي المشكلة : فأجيبك بأن المشكلة الآن يا صديقي هي أن هذه الأسرة الصغيرة السعيدة تواجه الحياة بمبلغ 65 جنيها كل شهر هي راتبي وكل دخلي ولا جنيه واحد زيادة على ذلك، فليس لي دخل خارجي يساعدني على مواجهة أعباء الحياة وليست لي عيادة أكسب من ورائها .. وليست لدي أية فرصة للحصول على أي مورد غير راتبي والدكتور الذي كان أهله يتوقعون له أن يكبر سريعا ويكسب ويسدد الديون ويغرق أهله وزوجته في النعيم .. يعيش حياة متقشفة لا يعرف بأي معجزة يصل براتبه إلى نهاية الشهر .. وأنا وزوجتي نواجه أياما قاسية ابتداء من منتصف كل شهر حتى أول الشهر التالي ويعلم الله کیف نمضي هذه الأيام اللعينة من كل شهر، ولا نجد أمامنا إلا الاستدانة ثم السداد أول الشهر ومواصلة الحرمان والتقشف.
ونحن لم نشتر أية ملابس منذ زواجنا إلى الآن، حتى ملابس طفلتي تلقيناها كنقوط عند مولدها، ولم نشتر لها غيرها حتى الآن، وطعامنا كله من الجمعية وكيلو اللحم من لحم الجمعية نقسمة إلى 4 أقسام متساوية بمشرط الجراحة لكي لا يضيع منه جرام واحد بغير استفادة وحیاتي الجافة لا تعرف فترات الراحة المحدودة إلا حين أجد فرصة عمل مؤقتة في عيادة بعض أصدقائي من الأطباء حين يتركون عيادتهم للسفر أو لأداء امتحان، وهي فرصة ضئيلة تأتي على فترات متباعدة جدا و مع ذلك فهي تعطينا الفرصة لالتقاط الأنفاس ومواصلة الجهاد في الحياة.
ولقد تدفعني الظروف أحيانا حين تضيق بي الدنيا وأرى زوجتي الجميلة الطيبة التي تزوجت شقيقاتها من أزواج قادرين، تعاني معي حياتي في صبر تدفعني إلى الخروج فجأة للطواف على عيادات من أعرفهم من الأطباء أتنسم أخبار السفر أو الامتحانات لعل أحدهم يدعوني للعمل بدلا منه ولو ليوم واحد، أو حتى للكشف على مريض واحد بدلا منه ويكاد لساني ينطق فأنادي من فرط ضيقي : وردية شغل يا إخواني لصالح أسرة صغيرة وطفله محرومة : فيردني الحياء والكبرياء وأعود لأسرتي مهموما، والمهنة يا صديقي أصبحت بالنسبة لصغار الأطباء ناشفة، بطريقة لا تتخيلها فمن لا عيادة له لا أمل له في مواجهة أعباء الحياة .. ولا أعرف ماذا جرى للناس یا صدیقي؟ لقد وضعت لافتة كبيرة على مدخل شقتي تحمل اسمي عسى أن يرزقني الله بكشف خاص بلا جدوى ومن يلتقون بي في الحي الذي أقيم فيه يطلبون استشارات مجانية لوجه الله من تاجر البقالة إلى تاجر الفاكهة إلى صاحب الجراج القريب.. وأخجل ألا أجيب أسئلتهم فأجيب واكتب الدواء ولا أقبض شيئا سوى "شكرا يا دکتر".. بغير واو على طريقة النطق باللاتيني.. فأكاد أقول لأحدهم .
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
في البداية
إنني اضطررت لأن أنشر رسالتك لكي أتمكن من تحقيق رغبتيك على الوجه الصحيح .. رغبتك
الأولى أن "أعرف" والثانية أن "أستطيع " فأما الأولى فإنه لا
يكفي يا صديقي أن أعرف أنا وحدي ما تريد رسالتك أن تصوره من واقع حياة شريحة جديدة
انضمت خلال السنوات القليلة الأخيرة إلى قافلة المكافحين في مجتمعنا. وإنما ينبغي
أن يعرف معي الآخرون وخصوصا من يهمهم الأمر .. بل ومن الضروري أن نعرف جميعا ماذا
يجري من تحولات و تغيرات في واقع مجتمعنا لعل ذلك يدفع البعض لمراجعة أنفسهم
وأوهامهم. فرسالتك هذه تلقي أضواء كاشفة على جوانب مجهولة بالنسبة للبعض عن واقع
حياة شباب مهنة كانت حتى سنوات قريبة رمزا للثراء وطريقا إليه ! ثم تغير الحال
لأسباب عديدة وانقسمت بحدة کما انقسمت كل المهن والفئات في مجتمعنا إلى فئات تجد
كل شيء وفئات لا تجد ما قد تحتاج إليه.. أو على حد التعبير الشهير للدكتور طه حسين
"إلى ناس يجدون مالا ينفقونه وآخرين لا يجدون ما ينفقونه" وهكذا الحال
في شرائح أخرى لكن الجديد فقط هو انضمام شباب هذه المهنة المرموقة إليها.
لقد كان هناك دائما كبار وصغار
في كل مهنة وفي كل مجال، لكن الفجوة استفحلت بلا شك خلال السنوات الأخيرة حتى فصلت
بين
الجانبين بفراسخ طويلة .. هذا عن
الجانب العام في رسالتك أما عن الجانب الخاص منها فلقد نشرت رسالتك، لأنني لا أملك
لتحقيق رغبات قراء البريد وحل مشاكلهم سوى النشر .. فهو وسيلتي الوحيدة لكي يلتقي
من يحتاجون إلى عون الآخرين بمن يقدرون على معاونتهم.
ورسالتك بالذات يا صدیقي مست قلبی کما تمسه دائما رسائل الشباب المكافح الذي يحاول أن ينحت حياته في الصخر ليوفر لأسرته الصغيرة الحياة الكريمة فيعاني خلال ذلك الحرمان والتقشف فلا يفقد رغم ذلك أبدا الأمل في غد أفضل.. فلا تفقد هذا الأمل يا صديقي وسيكون الغد أفضل بكل تأكيد.. ولابد لكل إنسان في الظروف العادية أن يبدأ حياته صغيرا ثم يكبر.. ومغمورا ثم يشتهر .. ومحدود الرزق ثم موفورا .. فهذه هي سنة الحياة يا صديقي .. ولعل مما يخفف من آلامك أن الله قد وفقك إلى هذه الزوجة الطيبة الرقيقة وأنعم عليك بهذه الطفلة الجميلة .. ولسوف تربط بينكما سنوات الكفاح هذه بالرباط المتين.. وسيأتي يوم تتذكران هذه الأيام الصعبة التي تقطعان فيها لحم الجمعية بمشرط الجراحة بمزيج من الحنين والإشفاق مما عانيتما معا.. والإعجاب بصلابتكما في مواجهة الحياة .. ولسوف تعرفان عندها أن السعادة كانت مقيمة في بیتكما بغير أن تدركا.. وأن أيام الصفاء رغم المعاناة هذه لا تعوض ولا تقدر بمال، ولسوف يأتي يوم يطوف بعيادتك فيه طبيب شاب متزوج حديثا - يتنسم - أخبار السفر أملا في نوبة عمل ترطب جفاف حياته وتسد بعض مطالبها، فانظر إليه حينئذ بإعجاب يا صديقي وعاونه بقدر ما تستطيع، ولا تصعر له خدك كبرياء، فلو عاون الكبار الصغار في كل مجالات الحياة .. ولو تذكروا جميعا أنهم كانوا ذات يوم صغارا يقفون نفس موقف الصغار أمامهم الآن لتخففت الحياة من كثير من مصاعبها، ولوجد الشباب من يمدون لهم الأيدي بروح صادقة من المشاركة والمواطنة، لكن مأساتنا أن صغارنا قد يكبرون فيفعلون غالبا كل ما عابوه على كبارهم في زمانهم، وكل ما عانوا هم منه من قبل .. والنتيجة أن الساقية تدور ولا تسمع من الجميع إلا نفسي .. نفسي .. فتزداد الحياة قسوة وصعوبة لأن من لا يرحم لا يُرحم وهذه هي المصيبة.
رابط رسالة فجر جديد من كاتب الرسالة بعد عدة أشهر
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر