النفق المظلم .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001

 

النفق المظلم .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001

النفق المظلم .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001

أكتب إليك بعد طول تفكير فأنا أب لأربعة أطفال وحياتنا مستقرة والحمد لله‏,‏ وقد امتحننا الله في الابن الأكبر وعمره عشر سنوات ليس بمرض عضوي بل بذلك الوسواس القهري اللعين فهو يعاني من داء الوسوسة‏,‏ وكم واجهنا من المواقف والتصرفات السلوكية‏,‏ التي كثيرا ما استسلمت زوجتي أمامها بالبكاء‏,‏ فتارة يشم كل طعام يقدم إليه ويظن أن به سما قد يقتله‏,‏ وتارة أخرى يرفض أن يلمس أحد أدواته وملابسه بل وكتبه‏,‏ وإذا اخطأ أحد إخوته الصغار وفعلها يقيم الدنيا ولا يقعدها ولا يهدأ إلا بضرب من سولت له نفسه لمس حاجاته من إخوته‏,‏ وتارة يقول إن مغصا شديدا يؤرقه‏,‏ الخ .‏.‏ حتى أصبحت تلبية رغباته شغلنا الشاغل يوميا‏,‏ وقد أثر ذلك على مستواه في المدرسة‏,‏ وشخص الطبيب حالته فقال إن قدراته العقلية تعيده عامين للوراء‏,‏ واضطررت للاكتواء بنار الدروس الخصوصية‏,‏ وأحضرت له أكثر من مدرس للبيت‏,‏ لأضمن أن يكون هناك من يرعاه في المدرسة بدلا من كثرة التردد عليها للسؤال عنه‏,‏ وأمام إلحاح بعض المدرسين الذي يتابعونه بالمنزل أبلغناهم ببعض جوانب مشكلته‏,‏ ولكننا لم نخبر بها إدارة المدرسة حتى اليوم خوفا من أن يساء التعامل مع المشكلة رغم تعرضه للضرب فيها أكثر من مرة‏,‏ ونشعر بالمرارة لأن مدارسنا لا تستطيع التعامل مع هذه النوعية من المشكلات في زحام العمل والفصول‏,‏ رغم أنه في مدرسة خاصة عادية لأنه ليس معاقا ذهنيا حتى نطلب له نوعا آخر من التعليم‏,‏ بل وينجح في امتحاناته‏,‏ وإن كان بشق الأنفس‏,‏ وقد كان له ملحق هذه السنة في مادة الدين هل تعرفون لماذا؟

 

لأن أغلب مواد المقرر تتحدث عن الموت والجنة والثواب والعقاب‏,‏ وهو تشغله كثيرا قضية الموت وردد على مسامع أمه أكثر من مرة أنه يخشى أن تتركه‏,‏ فهل يعقل أن يتحمل عقل طفل في هذه السن الحديث عن الموت‏,‏ بدلا من التركيز على فضائل الأعمال والسلوكيات الحميدة في التعامل مع الناس‏,‏ إنني أخشى ألا يستطيع استكمال تعليمه لأنه غير مقبل على الدراسة‏,‏ ويعاني من كثرة الواجبات المدرسية التي ينجز بعضها بصعوبة بالغة بمساعدة أمه‏,‏ لذا نزداد قلقا كلما اقترب العام الدراسي‏,‏ لأنه يشكل بداية ثمانية أشهر عجاف مع الدروس والواجبات وانشغال الأم به طوال اليوم وحتى لحظة النوم على حساب إخوته ونحن لم نقصر معه في العلاج ونتردد على الأطباء المختصين منذ أكثر من عامين‏,‏ ورغم أن علاجه مكلف وتتجاوز الفاتورة أكثر من‏500‏ جنيه شهريا‏,‏ إلا أنني لن أقصر معه ما حييت حتى يمن الله عليه بالشفاء‏,‏ وبإلحاح من زوجتي طرقت أبواب التأمين الصحي لتخفيف عبء تكاليف العلاج عن كاهلي لكني اكتشفت أنه ذل لكل مريض نفسي إذ لا يمكن صرف دواء بأكثر من عشرة جنيهات وما زاد عن ذلك يحتاج لمئات التوقيعات والانتقال من فرع لآخر‏,‏ فآثرت السلامة وحفظ ماء الوجه بدلا من التردد على أطباء لا يكلف معظمهم نفسه مشقة رفع وجهه في المريض وسؤاله عن مشكلته‏.‏

 

 وما دفعني للكتابة إليك هو خشيتنا من ألا تتعامل المدرسة مع المشكلة بالشكل الذي يضمن لنا السرية التامة‏,‏ لأننا مجتمع يتعامل بطريقة خاطئة مع كل مريض نفسي‏,‏ حيث يغيب عن مدارسنا الأخصائي النفسي‏,‏ أما الأخصائي الاجتماعي فلا نجد له ذكرا لدى الأولاد إلا حين يحجزون للاشتراك في رحلة ما‏,‏ فضلا عن أننا نخشى أن تخرج المشكلة من البيت‏,‏ فهل نجد وبين قرائك من مر بمثل هذه التجربة الأليمة‏,‏ فينصحنا بما نفعل؟ كما أنه برغم طول فترة العلاج وتكلفته‏,‏ لم نجد من الأطباء رأيا يوحي بأن المشكلة ستختفي مع الوقت في الزمن القريب أو البعيد ونسمع كلاما من باب الطمأنة فقط‏,‏ وفي آخر زيارة للطبيب أخبرنا أن جسمه قد تشبع بالدواء‏,‏ فهل من بارقة أمل في نهاية للنفق المظلم‏.‏


ولكاتب هذه الرسالة اقول‏:‏ 

لكل نفق مخرج ولابد أن يأتي اليوم الذي ترى فيه بصيص الضوء في نهاية النفق المظلم إن شاء الله‏,‏ كما أن الوسواس القهري من الأمراض النفسية القابلة للشفاء مع استمرار العلاج بإذن الله لكن ما يطيل أمده بالنسبة لابنك هو أنه قد داهمه في سن مبكرة‏,‏ وجزء أساسي من إمكانية الشفاء بالنسبة للبالغين يعتمد على التحليل النفسي‏..‏ والاستبصار الذاتي‏..‏ وهو ما لا يحقق المرجو منه الآن مع ابنك لصغر سنه ـ ولعدم جدوى الاستبصار الذاتي معه في هذه المرحلة من العمر‏.‏ فهو يعتمد على قيام المريض نفسه بإجراء حوار هاديء عقلاني مع النفس يناقش خلاله ـ بإرشاد الطبيب النفسي ـ ما يثير مخاوفه‏..‏ ويحلل أسبابه ليكتشف بنفسه تدريجيا أنه ليس فيه ما يدعو للخوف منه‏..‏ فيتخلص من بعض تأثيره عليه وهكذا إلى أن يتخلص من كل الوساوس فلا مفر من الصبر الآن والاكتفاء بالعلاج بالعقاقير‏..‏
وتكثيف الرعاية له وتجنب كل ما يثير شكوكه ووساوسه إلى أن يتحقق له الشفاء بإذن الله‏..‏ وأدعو أصحاب التجربة للكتابة إلينا بتجاربهم مع الحالات المشابهة للاستفادة بها وشكرا لهم‏.‏

رابط رسالة حاشية الرسالة تعقيبا على هذه الرسالة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2001

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات