رحلة صيد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

 

رحلة صيد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

رحلة صيد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984


للمرة الثانية أجدني أكتب إليك هذه الرسالة.. كانت المرة الأولى منذ 5 شهور.. وكنت أكتب إليك أشكو لك حالي مع زوج كان مقاولا ثريا لكنه بدد معظم ثروته في الإنفاق والخمر والنساء، وأنه يعيش السنوات الأخيرة على بيع ما تبقى لنا من ممتلكات يوما بيوم. وكيف أني واجهت الحياة بعد أن قلبت لي ظهر المجن، حتى أني عرفت محلات الملابس المستعملة لى ولابنتي الطالبتين بالجامعة.. وأن أكثر ما يغيظني هو أن يناديني الباعة في الحي الراقي الذي أقيم فيه "يا هانم".. في نفس الوقت الذي أعاني فيه الفاقة حيث لم يبق لي من العز القديم سوى المظهر المحترم، ولقد تفضلت بنشر رسالتي بعنوان "امرأة محترمة" وأغدقت علي من كلامك ما أردت به تخفيف آلامي وعذابي مما سأذكره لك دائما بالعرفان، وقد تكرم بعض قراء بابك وأرسلوا إليك عدة استجابات لإيجاد عمل يتلاءم مع خبرة زوجي في أعمال المقاولات وقمت مشكورا بتحويلها إلي، وأذكر أني اتصلت بك بعدها تليفونيا لأشكرك وأشكر قراءك وأقول لك معتذرة إنه "لا فائدة" فيما يبدو فقد رفض زوجي هذه العروض وحمل بعض أدوات صيد السمك التي تبقت لنا من الحياة الغابرة، وغادر القاهرة في رحلة صيد إلى البحر الأحمر.. ونحن لا نعرف كيف سنواجه نفقات الشهر القادم .. وتقبلت کلمات مواساتك شاكرة .. وانتهت القصة عند هذا الحد .. وها انذا أجد نفسي مدفوعة للكتابة إليك لأروي لك الفصل الأخير من قصتي .

 

فلقد سافر زوجي غفر الله له في رحلة صيده .. لم يصل إلى مقصده منها إذ فاجأته وهو في الإسماعيلية نوبة قلبية .. توفي على أثرها .. ولم اعلم بوفاته يرحمه الله إلا بعد يوم كامل .

ولقد واجهت الحياة بعد وفاته كما اعتدت عليها خلال الفترة الأخيرة من حيث الصعوبة والمعاناة .. لكن الحياة رغم ذلك ازدادت قسوة وصعوبة .. إذ لم يعد لنا أي مورد بعد أن كان آخر ما نملكه هو النقود السائلة التي حملها معه في رحلته الأخيرة وكانت من حصيلة بيع آخر أدوات العمل التي تبقت لديه من عمله كمقاول .. ولقد فكرت في أن أقوم بعمل يكفل لي استمرار الحياة المتقشفة التي نعيشها الآن والتي لم يتبق من آثار الحياة فيها سوى المسكن الرخيص الإيجار في حي راق .. لذلك فقد فكرت في أن ابحث لنفسي عن عمل ، لكن الصعوبة هی أين هو العمل الذي تجده بسهولة سيدة في منتصف العمر لا تحمل سوی شهادة الثانوية العامة منذ أكثر من عشرين سنة .. وليست لديها سوی بعض الخبرة بأعمال التمريض من طول ما مرضت زوجي خلال فترة حياته المضطربة .. أو بعض الخبرة بأعمال المدارس الإدارية من نشاطي السابق في المشاركة في أعمال النشاط المدرسي حين كنت من سيدات المجتمع.

فهل ترى أن هناك لمثلي فرصة عادلة في أن تجد عملا يدفع عنها شر الحاجة؟.

 

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

هذه هي الرسالة التي تلقيتها من إحدى قارئات البريد التي سبق أن نشرت لها رسالة سابقة في هذا المكان من قبل.. ولقد تخيلت حين بدأت قراءة رسالتها أنها تكتب لي لتنقل إلي خبرا عن حل مشكلتها بعد هذه الشهور الخمسة، لكني وجدت رسالتها الأخيرة تحمل فصلا جديدا أكثر درامية من قصتها الغريبة..

على أية حال فلقد جرى ما جرى والزمن أعظم المؤلفين کما يقولون؟

فلتنظري إذن يا سيدتي للمستقبل وعفا الله عما سلف بكل آلامه وعذاباته، والمستقبل الآن هو أمر أسرتك الصغيرة التي أصبحت المسئولة عنها وحدك. ولقد أحسنت حين فكرت في العمل لتهيئ لابنتيك إمكانات الحياة ومواصلة التعليم.. وأتصور أنك سوف تجدين بإذن الله العمل الذي يتلاءم مع خبرتك بالحياة، وهي ليست قليلة بأي حال من الأحوال.. فإذا هيأ الله لك هذا العمل عن طريق بريد الأهرام وأرجو أن يتحقق ذلك قريبا، فلسوف أكتب إليك على عنوانك لأبشرك به وسوف يكون ذلك بإذن الله بداية لحياة جديدة ربما لا تعرف رغد الحياة السابقة لكنها ستكون أكثر أمانا وسلاما نفسيا بالتأكيد حين تشعرين بكرامة أن يكسب الإنسان قوته بجهده وعمله بدلا من أن يعيش خائفا من المجهول ومن المستقبل كل يوم کما کنت تعيشين خلال السنوات الأخيرة تلك الحياة المضطربة التي جاءت رحلة الصيد الدرامية لتصنع فصلها الأخير !.

 

 فقط لا تفقدي یا سیدتی ثقتك في الله .. ولا في نفسك.. ولا في بشر، فلقد كنت امرأة محترمة، وأنت تعانين من حياتك المتقشفة مع زوجك الراحل غفر الله له .. وازددت الآن احتراما وأنت تفکرین جادة في النزول إلى الحياة العملية لتوفري لابنتيك الحياة الكريمة الشريفة وسوف تنجحين في ذلك.. وسيأتي يوم تصبح فيه كل هذه الآلام مجرد ذكرى لأيام صعبة مررت بها وتجاوزتها بصلابتك إلى المستقبل الأفضل بإذن الله مع تمنياتي لك بالتوفيق !

رابط رسالة امرأة محترمة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات