امرأة محترمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

امرأة محترمة  .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984 

 امرأة محترمة  .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

متي كان المال وحده هو مبرر الاحترام، إن المال قد يكون سببا في النفوذ والسطوة وقد يكون سببا في قدرة الإنسان علي تحقيق بعض ما يريد لكنه وحده لم ولن يكون أبدا سببا كافيا وحده لاحترام أحد.. فما أكثر من يملكون المال ولا يساوون شيئا، وما أكثر من لا يملكون الكثير لكنهم يساوون الكثير في نظر غيرهم بأخلاقهم وقيمهم واحترامهم لأنفسهم واحترامهم للآخرين إنها قضية مفروغ منها.

عبد الوهاب مطاوع


منذ فترة طويلة وأنا أفكر في أن أكتب إليك لا لشئ إلا لأن أزيح عن صدري بعض همومه .. فقد حزمت أمري وقررت أن أكتب إليك بعد أن قرأت رسالة فتاة من قاع المدينة لأروي لك قصة سيدة من قمة المجتمع فلعل فيها ما يفيد قراءك ويطلعهم على جانب آخر من جوانب الحياة.

أنا يا سيدي زوجة لرجل أعمال يعمل أو كان يعمل بمقاولات المباني تزوجته منذ 23 عاماّ وكان ناجحاً جداّ في عمله يكسب كثيراّ وينفق أكثر. نسكن في أرقي أحياء القاهرة وفي عمارة كل ساكنيها من عِلية القوم ونركب السيارات الفاخرة ونسافر إلى أوربا, ونستخدم في منزلنا الشغالين والشغالات وأنا سيدة محترمة في وسطي ، مظهري محترم باحتشام .. معاملاتي مع الناس راقية ومجاملة إلى أقصي الحدود أرعي بناتي بحنان وحزم وأشرف على دراستهن بنفسي, أما زوجي فهو الآن فوق الستين بثلاث سنوات رجل منظم في عمله يعطي كل شئ حقه ويجيد الإنجليزية والفرنسية بطلاقة .

 

ولأن زوجي كان يربح كثيرا فإني لم أهتم بمواصلة تعليمي بعد حصولي على الثانوية العامة وقبعت في البيت أشرف عليه وأنظم حياة زوجي, وكان البيت هو مملكتي فلم أفكر في العمل ومضت سفينة حياتنا هادئة لولا أن زوجي كان قد اعتاد أسلوب حياة حاربته فيه بلا هوادة بلا جدوى.

لقد كان هناك من يقف في طريقي دائماّ وهم هيئة المنتفعين بالسهرات والهبات وهم أصدقاؤه أو من كان يظنهم أصدقاؤه, فقد كان ينفق عليهم الكثير وكان يقدم لبعضهم رواتب شهرية ثابتة غير الهدايا لدرجة أن أحدهم "ولن تصدقني" قد أسس شركة مقاولات خاصة به من عطايا زوجي وماكيناته وآلاته وأصبح الآن يتكلم بلغة الملايين وبسبب الخمر والنساء والبذخ وليالي السهر غير البرئ انكسر زوجي في السوق وبدأ المال يتسرب من بين يديه ثم تسرب أيضاّ العقار الذي كان يملكه ثم الآلات التي كان يعمل بها, ثم تغيرت الدنيا .

 

وآه يا صديقي من الدنيا حين تقلب لأحد ظهر المجن : تبدد المال وتسرب العز شيئاّ فشيئاّ وخلا البيت من الشغالين واحداً وراء الآخر وبدأت الملابس الفاخرة تبلى وتصبح ملابس قديمة, ولا بديل لها لأنه لا شراء لملابس جديدة, ولأنه لم يعد هناك دخل منتظم إلا ما يجئ بين فترة وأخرى من بيع شئ. التليفون الذي كان يرن عشرات المرات كل يوم أصبحت الأيام تمضي طويلة وهو صامت لا ينطق, والسيارات الفاخرة تحولت أولا إلى سيارات صغيرة ثم بيعت بأي ثمن بعد ذلك, والأصدقاء الذين كانوا يتنافسون في دعوتنا للسهرات والحفلات أصبحنا لا نراهم, ولا نسمع صوتهم, وأصبحنا خلال عشر سنوات على الحديدة تماماّ, ولم يبق من معالم حياتنا القديمة سوى الشقة التي نعيش فيها في الحي الراقي والتي لو خيرت لتركتها وتواريت في زقاق صغير من أزقة القاهرة الخلفية لأعيش حياة قاع المدينة بلا تمثيل, فقد أصبحنا من أهل القاع يا صديقي وإن سكنا على القمة .

 

ولقد عرفت الطريق إلى باعة الملابس المستعملة أذهب إليهم مستترة وأعود من عندهم حاملة ما نحتاج إليه, وأصبحت أخشى أن أمر أمام أية فاترينة محل لكي لا أنظر إلى ما بداخلها خشية أن ينتابني الضعف الإنساني وأشتاق إلى شئ داخلها مما كنت أشتريه زمان بالدست.

وأصبح أكثر ما يغيظني هو أن يناديني الباعة وأنا أتعامل معهم يا ست هانم, فإني أحس بسخرية مريرة حين أسمعها فأين هي هذه الست هانم؟ وحقيبة يدي خاوية الوفاض وأصبح أكثر ما يؤلمني هو أن أجيب أبنائي بالجملة التقليدية كلما طلبوا مني شيئا يحتاجون إليه فأرد ومن أين الفلوس ألا لعنة الله على هذه الفلوس التي يشعر نقصها الإنسان بالعجز عن تلبية مطالب أبنائه, وبالإحباط لعدم قدرته وهوان شأنه.


 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

 

رأيي يا سيدتي أنك سيدة محترمة فعلا وعملا, وأنه لا وجه لسخريتك من احترام الناس لك رغم أنك خالية الوفاض .. فأنت سيدة محترمة بأخلاقياتك وحسن معاملتك للناس وبإحساسك السليم بالمسئولية عن أسرتك وبناتك.

 ثم متى كان المال وحده هو مبرر الاحترام, إن المال قد يكون سببا في النفوذ والسطوة وقد يكون سببا في قدرة الإنسان على تحقيق بعض ما يريد لكنه وحده لم ولن يكون أبدا سببا كافيا وحده لاحترام أحد.. فما أكثر من يملكون المال ولا يساوون شيئا, وما أكثر من لا يملكون الكثير لكنهم يساوون الكثير في نظر غيرهم بأخلاقهم وقيمهم واحترامهم لأنفسهم واحترامهم للآخرين إنها قضية مفروغ منها.

والمهم هنا هو مشكلتك الحالية, ومشكلتك الحقيقية هي في رفض زوجك للعمل طوال هذه الفترة, وهو يرفضه لأنه لا يملك رأس المال ولا الآلات, وهذا السبب وحده يكشف سر مأساته إنه لا يريد أن يعمل عند أحد, وإنما يريد أن يعود كبيرا كما كان, وهذا مستحيل فالإنسان العاقل هو من لا يتوقف طويلا أمام ما حدث ويسأل نفسه كيف حدث هذا ولماذا حدث؟ ولماذا وقع لي هذا وحدي دون غيري. ثم يمضي العمر يجتر مأساته ويستنفد طاقته في الحزن علي ما ضاع.

 

إن الإنسان الواقعي لا يضيع الوقت في البكاء على اللبن المسكوب, وإنما يستخدم كل طاقاته وقدراته في التفكير والعمل على التغلَب على المشكلة التي تواجهه بأي خطوة عملية في طريق الحل والعمل هو طريق الخلاص لك ولزوجك لذلك فإني أنصح زوجك ألا يظل تابعاّ في البيت ينتظر رأس المال والآلات لكي يعود من حيث انتهي مقاولا كبيرا مرة أخري, فلم َ لا يعمل موظفا أو خبيرا في أي شركة مقاولات, ولا مكان هنا للأنفة ولا للتكبر فالعمل الشريف لا يعيب إنسانا وإنما يعيبه قبوعه في البيت عاجزا عن تلبية احتياجات أسرته, وهذا العصر ليس عصر الأيدي الناعمة التي تستنكف العمل إلا في ديكور معين, وإنما هو عصر الأيدي الناشفة من العمل في أكثر من عمل صباحا ومساء كل يوم لتلبية مطالب الحياة الصعبة, لذلك فإني أنصحه بقبول أي عمل كخطوة أولى في مجال المقاولات, أو في مجالات الترجمة باللغتين الفرنسية والإنجليزية أو في أي مجال آخر ولو تلقيت استجابة بشأنه في هذا الخصوص فسوف أقدمها لك بكل سرور, لكن يبقي بعد ذلك درس هذه القصة الذي لا يحتاج إلى جهد كبير لاستخلاصه ولا أعرف لماذا تذكرت وأنا أقرأ هذه الرسالة كلمة أمير المحدثين سفيان الثوري: "من كان معه فضل من مال فليصلحه فإن الرجل إذا احتاج فإن أول ما يبدله هو دينه"!

 

وإصلاح المال كما تعرفين يا سيدتي لا يكون بحسن استثماره فقط, وإنما يكون أيضا بإتقاء الله فيه من كل الوجوه, لا بإنفاقه في اللهو والفجور, ولو أن زوجك يا سيدتي سامحه الله قد أعطى المحتاجين الحقيقيين عشر ما أعطاه للمنتفعين لما خسر كل شئ ولو خسر المال بالفعل لظروف قاهرة لهيأ الله له من ينتشله من ضائقته ويحفظ عليه كرامته, وربما كان منقذه واحدا من هؤلاء المحتاجين الذين أقالهم من عثراتهم في الماضي.

وهذا هو المعني البسيط لهذه الكلمة العجيبة التي نستخدمها في حياتنا اليومية كثيرا بغير أن ندرك كل أغوارها العميقة وهي كلمة "الستر" الذي أرجوه لك من أعماق قلبي في أيامك الصعبة هذه.

رابط رسالة فتاة من قاع المدينة

رابط رسالة رحلة صيد لكاتبة الرسالة بعد 5 شهور

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات