تاجر شنطة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

 

تاجر شنطة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

تاجر شنطة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

قرأت رسالة الفتاة ابنة الأربعة والعشرين والتي تشكو من الوحدة وتتلهف على الزواج وتطلب زوجا بأي وضع ولو كان حراميا.

ووجدت نفسي أمسك بالقلم لأكتب هذه الرسالة لك لأنصحها بالتريث كأخت لها من بعيد مرت بتجربة زواج فاشل .. أهم أسباب فشله هو التسرع في الاختيار .

فأنا یا سیدي سيدة في الثلاثين حاصلة على شهادة جامعية ولي أخوة كثيرون بالمدارس والجامعات، وأنا كبرى إخوتي ووالدي موظف بسيط بالدواوين ترهقه كثرة الأبناء، فكنت أتقدم في دراستي ببطء شديد لا لنقص في استعدادي للتعليم وإنما لظروف حیاتي الصعبة، فقد كنت دائما آخر من يقتني الكتاب المدرسي وكنت أعجز عن تدبير نفقات السفر إلى مقر الكلية فلا أحضر المحاضرات إلا خطفا کلما سمحت الظروف، وقبلها أمضيت فترة التعليم الثانوي كلها بمريلة واحدة وأمضيت فترة الدراسة الجامعية كلها بفستانين اثنين لا ثالث لهما، کنت أرفوهما كلما تمزقا وأحرص عليها حرصي على شرفي.

 

لذلك تأخرت في التخرج فتخرجت وأنا في الثامنة والعشرين وتوقفت لأراجع حیاتي ووجدت نفسي قد كبرت وموعد قطار الزواج يفوتني فلم أفكر في العمل أولا لأعوض إخوتي الصغار عن حرمانهم، وإنما فكرت في الزواج وأحست إحدى صديقاتي بما يدور في خاطري، فقدمت إلي شابا راغبا في الزواج، ميسور الحال لكنه لم يحصل إلا على الإعدادية ويفك الخط فقط ويعمل بتجارة الشنطة فيسافر عدة شهور بتجارة ويعود بتجارة، وأحيانا يبقى للعمل في إحدى الدول العربية لعدة شهور ثم يعود، هكذا ووافقت على الزواج منه بالرغم من اعتراض أبي ونصيحته لي بالانتظار والصبر قائلا إن ظروفنا سوف تتحسن عقب تخرج أخي الذي یلیني ولا داعي للتسرع، لكنني لم أسمع نصيحته وتزوجت على وجه السرعة، وقال لي خطيبي إن له تجارة بالخارج يديرها صديق له، وأنه يرغب في الزواج سريعا لكي يسافر ويحضر ماله ليشترى لي الأثاث ورأيت الصدق في عينيه فقبلت كل شيء فتزوجت في شقة خالية إلا من غرفة نوم قديمة، وبلا شبكة ولا مهر، وخلال فترة الخطوبة وشهر العسل اشترى لي زوجي أحلى الملابس وأفخر أنواع الحلوى التي حرمت منها وأنا صغيرة، واشترى لي فاكهة فاخرة لم أذقها من قبل، ومضت الأيام سعيدة لكن الدنيا لا تستمر على حال واحد کما تعرف، فمنذ أن تحركت طفلتي في أحشائي تغير زوجي و بدأت الخلافات تطل بوجهها الكئيب على بيتي الصغير وبدأ يسئ معاملتي إلى حد الضرب والإهانة بلا سبب، وكلما جاء أهلي لزيارتي أساء معاملتهم حتى انقطعوا عن زيارتي في نفس الوقت الذي يزورنا فيه زملاء له للتحدث إليه في شئون تجارية فيلقاهم بترحاب كبير واحترام شدید.

 

وحرت أنا وسط الجميع .. هو يقول إن أهلي لا يحترمونه وأهلي يقولون إنه لا يقدرهم ولا يريد رؤيتهم وأنا حائرة أريد أن أرضي زوجي، ولا أريد أن أغضب ربي في علاقتي بأسرتي ثم سافر وأنا حامل وترکني بلا نقود، وطالت سفرته لعدة شهور فكتبت إليه أطلب منه نقودا لأني حامل وأحتاج إلى رعاية طبية، فكتب إلي يقول إنه يرسل إلى أهله ۵۰۰ جنيه كل شهر، وأنه كلفهم بدفع إيجار الشقة عني وإعطائي عشرة جنيهات كل شهر، فصبرت واحتملت إلى أن جاءت الولادة، ووضعت طفلتي بعملية قيصرية تحمل والدي تكاليفها وعاد زوجي فرحبت به، ولم أشك إليك ما عانيته من حرمان خلال غيابه، ولكني رجوته فقط أن يسدد لأبي تکالیف الولادة القيصرية، فرفض بإصرار وجاء أبي وأمي لزيارته فأغلق باب الشقة وكلف أحد جيراننا أن يصرفهما بحجة أننا غير موجودين في الشقة، ففقدت احترامي بين جیراني، وواصلت صبري على أمل أن تمضي سفينة الحياة لكنه تمادی في الإساءة إلي فلأتفه الأسباب يكيل لي اللكمات لاعتقاده أنني لا أحبه، وكنت أؤدي الخدمة العامة انتظارا للتعيين فأخرجني منها لأنه يغار علي ولا يريدني أن أعمل، ولا أن يكون لي دخل خاص لكي أساعد به أسرتي، وأرد دین أبي علي وضربني يوما فسال الدم من ذراعي ووجهي وأغمي على واستدعی جیراني أبي وأمي فأشهد أبي الجيران على إصاباتي، وأراد تطليقي منه لكن زوجي تمسح بی وعاهدني ألا يضربني مرة أخرى، وطلب بقائي معه لكي لا تتبهدل البنت بيننا، فوافقت وقبلت توبته فغضب أبي وتركني لمصيري ولم يتوقف زوجي بعد ذلك عن ضربي مرة أخرى.

 

ثم سافر زوجي من جديد ورفض أبي هذه المرة استضافتي في شقته لأني لا أسمع كلامه، وبقيت في شقتي مع طفلتي ابنة العامين ولم يرسل إلي زوجي كالعادة نقودا وأمرني أن أحصل من أهله على سبعة جنيهات كل شهر، وكان الوقت صيفا وليس هناك عمل مناسب لى لأن المدارس مغلقة وليس في بیتي شیء أقيم به أودى وأود ابنتي الطفلة، فذهبت لأعمل بائعة في بوفيه أبيع ساندويتشات الطعمية والبسكويت، وأخرج كل صباح حاملة طفلتي على ذراعي وأبذل جهدي لكي لا تقع عيناها على طعام أو حلوى في الطريق فتطلبه وأعجز عن شرائه لها بالطبع، وكان نظام العمل أن يدفع صاحب البوفيه الأجر في نهاية الشهر والأيام طويلة يا صديقي بلا نقود وبلا زاد، اللهم إلا بضعة سندويتشات من المحل أسد بها جوع طفلتي خلال نهار العمل، كلما صرخت باكية وكانت الساعات تمضي طويلة والجوع يقرصني فلا أستطيع أن أمد يدي إلى طبق السندويتشات في البوفيه حرصا على مظهري أمام العمال، وأمام صاحب البوفيه، لأنهم يعرفون أنني متزوجة وأحمل الليسانس، وأمضي أجتر أحزاني إلى شقتي ففوجئت في الصباح الباكر بمن يطرق باب شقتي وأغلق بابها على أسراری، فلا يعرف عني أحد كيف أعيش أو كيف تمضى بي الحياة، وبرغم حرصي وتحفظي، فلا أعلم كيف أحست إحدى جاراتي بما أعانيه، وكانت جارة بعيدة نسبيا عن شقتي لأجد هذه السيدة تدخل علي والخجل في ملامح وجهها، وهي تحمل في يديها لفائف كبيرة فيها طعام كثير وملابس لطفلتي وحلوى، وإن أنس كل شئ في حياتي فلن أنسى صورة طفلتي حين رأت الطعام في يدي جارتي فخطفته قبل أن تضعه واندفعت تأكله بلهفه وأحسست بقلبي يتمزق فأحنيت رأسي لأخفي دموعي فإذا بدموع هذه الجارة الطيبة تسبقني وهي تمد يدها لتعطيها المزيد من الطعام، حتى شبعت ثم تدعوني بحياء لتناول الطعام وتمد يدها إليه لتأكل معي وتزيل عني الحرج ودموعنا معا تختلط بالطعام.

 

ولا أعرف كيف عرف أبي بعد ذلك بما أعانيه ولعله عرف من نفس هذه الجارة الطيبة، ففوجئت به يدخل شقتي ويحتضنني ويحتضن

طفلتي وهو يبكي ويعتذر ثم حملني معه وطفلتي إلى شقته، ومنعني من الخروج للعمل إلى أن يأتيني التعيين فأعمل مدرسة وعبرت هذه المحنة لكن الضربة الأخيرة جاءت إلي من زوجي وهو بعيد، فقد طالبني بترك الشقة لصاحب البيت لأنه سيبيعها إليه بمبلغ يستثمره في تجارته والسفر إليه لأنه وجد لى عملا هناك فخفت من تقلباته إذا ضاعت الشقة ورفضت ترکها فخيرني بين ترك الشقة والسفر وبين الطلاق، فاستجمعت إرادتي واخترت الطلاق على أمل الاحتفاظ بالشقة لي ولطفلتي.

 وبسبب مشكلة قانونية أكاد أفقد هذه الشقة أيضا الآن فقد كان زوجي قد طلب لجنة تقدير الإيجارات فخفضت الإيجار إلى النصف.




ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

إنني لن أناقش الجانب القانوني في رسالتك لأن هناك من القانونيين من هم أقدر مني على ذلك، لذلك فإني أدعوهم لمناقشة اقتراحك ودراسته وتقييمه لكني سأناقش الجانب الاجتماعي منها وأول سماته أن رسالتك هذه تعكس في رأيي إحدى مشاكل عصر الهجرة الذي نعيشه الآن، والتي أتلقى رسائل عديدة تروي صورا مختلفة لها.

كما إنها أيضا تعكس صورة بشعة للمشكلة الأزلية مشكلة المال الذي قال عنه سوفوكليس إن البشرية لم تعرف أسوأ منه يفسد الرجال ويحطم المثل ويفرق بين الأشخاص، ولسوف تعجبين عندما تعرفين أن ذلك قد قيل في رواية أنتيجون التي كتبت قبل میلاد المسيح، ومازالت الكلمة صادقة حتى الآن بل جاء زماننا بمشاكله ومتاعبه ليؤكدها ويجددها ويزيدنا اقتناع بها، فالنقود هي سر معاناتك في حياتك المتقشفة قبل وبعد الزواج، وهي أيضا سبب تهدم حياتك على صخرة الشقة التي يريد زوجك بيعها .

والحق أنني لا أريد أن أجدد أحزانك، لكني سأقول لك فقط إنك أخطأت كثيرا في حق نفسك وفي حق طفلتك باحتمال كل هذا العذاب، وكل هذا الهوان وكل هذا الحرمان في حياة لم تكفل لك الكرامة ولا الأمان ولا حتى ضرورات الحياة، ولا أعرف لماذا احتملت كل ذلك والدلائل تشير منذ البداية إلى استحالة استمرار الحياة الكريمة مع مثل هذا الزوج؟ لا لأنك جامعية وهو يفك الخط فهذا وحده ليس مبررا كافية لفشل الزواج، وإنما لأنه ينطوي بكل أسف على إحساس قوي بالنقص تجاهك وتجاه أسرتك، ووجود هذا الإحساس لا يسمح له بالتعامل معهم ومعك تعاملا سليما خالية من الحساسيات، وهو قد رفض في رأيي فكرة عملك ليس لغيرته ولا لعدم رغبته في أن يكون لك دخل تساعدين به أسرتك كما تتصورين، وإنما لأن عملك يتيح لك فرصة الاستقلال عنه وإمكانية مواجهة الحياة بدونه وهو يريدك كما أتصور شديدة الاعتماد عليه، لكي يزداد امتلاكا لك وتسلطا عليك وهو واثق تماما من قبولك لكل شئ ومن الاستمرار في الحياة معه مهما فعل بك حتى ولو أدماك كل يوم ضربا وتعذيبا، لقد أسأت الاختيار لا شك في ذلك، وقد دفعت ثمن ذلك غاليا، ونحن على أية حال لا نتعلم الحكمة بلا ثمن وإنما نتعلمها بالثمن الغالي من أخطائنا و تجاربنا المريرة.

 

لذلك فإني أعتبر وثيقة طلاقك رغم كراهيتي له عموما وثيقة تحريرك من هذه العبودية الظالمة التي لم تحصلي خلالها بكل أسف حتى على ما كان يحصل عليه العبيد من كفافهم، لقد عشت قصة حرمان طويلة يا سيدتي لكن أبشع صورها على الإطلاق هو ما فرضته الظروف على ابنتك البريئة ولا غفر الله لمن رضي لها بأن تعرف الجوع القاسي في هذه السن المبكرة، فهل أقول إنك أجرمت في حقها حين قبلت لها ذلك رغما عنك، وقد كان حقا أن تلجئي لأهلك مهما حدث لتدفعي عنها الجوع أولا ثم تنظري في أمرك كما تشائين ؟ إنني لا أريد إيلامك بأي حال فلقد عانيت الكثير منذ طفولتك وحتى زواجك التعيس، لكني سأقول لك فقط إن كل ليل لابد له من نهاية وأن نصيب الإنسان من الدنيا لا يمكن أن يكون شقاء كله، ولابد أن الأيام تدخر لك أيام سعيدة في علم الغيب، تعوضك عما لقيت من شقاء، وثقي أن وقتك رغم ذلك لم يضع هدرا فمن عرف من لا يصلح له فلقد عرف بطريقة خفية من يصلح له ومن يلائمه، وسوف يساعدك ذلك بالتأكيد على حسن الاختيار ولابد أن ننظر إلى الأمام دائما بقلب متفائل مهما واجهنا من صعاب وعذابات.

 

وأنصحك بأن تذکري دائما ما أتذكره كلما ضاقت بي الحياة وهي كلمات الشاعر التركي "ناظم حکمت" التي كتبها إلى زوجته من سجنه وهو في أشد حالات المعاناة والتعاسة: "أجمل الأنهار لم نرها بعد، وأجمل الكتب لم نقرأها بعد، وأجمل أطفالنا لم نرزق بهم بعد وأجمل أيام حياتنا لم تأت بعد" فإن أجمل أيام حياتك لم تأت بعد

ولسوف تأتي بالتأكيد إن شاء الله، ولا شك أن كثيرين سوف يقدرون فيك هذه القدرة المصرية جدا على الصبر والاحتمال والرغبة رغم كل شيء في الاستمرار تماما كقصص الأمهات الطيبات في الحكايات القديمة، وأعتقد أن مشكلتك الأساسية الآن هي العمل وربما استطعت معاونتك في حلها بشكل أو بآخر، أما مشكلتك القانونية فقد يستطيع أحد أصدقاء بريد الأهرام من أفاضل المحامين مساعدتك فيها فاتصل بي يا سيدتي وليفعل الله ما يريد.

 رابط رسالة وكيلة محام المشار إليها من قبل الكاتبة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات