الإشارة الغامضة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2004
قرأت
رسالة طيف الغائب للأب الفاضل الذي فقد ابنه الشاب, وهو في طريقه إلى
عمله برأس سدر, فترقرق الدمع في عيني ووددت لو استطعت التخفيف عنه وتبادل
المواساة معه.. فأنا رجل في الرابعة والأربعين من عمري أقيم في إحدى قرى
الصعيد, ومنذ أكثر من عام بقليل ذهبت إلى مقابر الأسرة في يوم عاشوراء لقراءة
الفاتحة على أرواح الأهل الراحلين, وكنت صائما, فإذا بي أجد ابني الطالب بالصف
الثاني الثانوي هناك يزرع شجرة فيكس اشتراها من مصروفه, فحييته ووقفت أقرأ
الفاتحة وهممت بالانصراف, وكنا وقت الأصيل والمسافة بين المقابر والبيت بعيدة,
فوجدت ابني هذا يقدم لي بضع تمرات ويقول لي إن أذان المغرب سيرفع وأنا في
الطريق, ويطلب مني الإفطار على هذه التمرات حتى أرجع إلى البيت, فشكرته
وأخذتها وانصرفت.. ولم يمض وقت طويل إلا وأذن لصلاة المغرب, فكسرت صيامي بهذه
التمرات وشعرت بالامتنان لولدي.. وبعد ذلك بثلاثة أيام فقط كان ابني هذا عائدا
من مدرسته الثانوية فإذا بسيارة متوحشة تصدمه صدمة مروعة وترديه أرضا..
ونقل
ابني إلى المستشفي في حالة خطيرة ولازمته فيه.. وبذل الأطباء جهودا مضنية لإنقاذه
بلا جدوى وحانت ساعة رحيله الأبدي وأنا إلى جواره على نفس السرير, وهو يكلمني
وأقول له قل: لا إله إلا الله فيرد: محمد رسول الله, ثم طلب مني ماء وفاضت
روحه الطاهرة قبل آن آتيه به.. وهرول أطباء الطواريء إلى الغرفة وفعلوا ما يمليه
عليهم واجبهم, ونظر إلي أحد هؤلاء الأطباء في حزن وقال لي: ربنا معك.. فقلت
من فوري: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فاللهم اجعل ابني مع من أنعمت
عليهم, ولست أذكر للأسف اسم هذا الطبيب الإنسان الذي واساني والذي كان قد تبرع
بدمه لابني في محاولة لإنقاذه فجزاه الله عني خير الجزاء.
المهم أنني لم أبك عند نقل ابني من أمامي.. ورحت أناجي ربي وأقول له: لقد أخذت
ابني مني فانعم عليه ياربي بالجنة والنعيم المقيم وهو من أهله لأنه لم يسيء إلي
ذات يوم ولم يرفع صوته علي مرة ولم يتسبب لي في أية مشكلة طوال حياته القصيرة,
وكان طيب القلب عف اللسان, ويارب اجعلنا من عبادك الصابرين ذلك أن من
يتصبر يتصبر يصبره الله .. ويجعل له مخرجا وعدت إلى البيت وقد سبقني إليه
النبأ الحزين ورأيت الدموع في عيون أمي وأبي الذي قارب التسعين ويحفظ القرآن
الكريم كاملا حتى الآن ويؤم المصلين في المسجد.
واني لصابر على ما جرت به المقادير وأدعو الله الرحيم الكريم أن ينزل السكينة على
قلوب المكلومين جميعا ويعينهم على الصبر والنسيان, ويرحم ابني الراحل وينعم عليه
برضوانه في الدار الباقية, وما أظن أن زيارته المفاجئة للمقابر قبل الحادث
المؤلم بثلاثة أيام فقط وزرعه لشجرة الفيكس فيها إلا إشارة غامضة لقرب الرحيل,
وإن كنت لم أتنبه إليها في حينها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
عزاء وصبرا يا سيدي أعانك الله سبحانه وتعالى بقدرته جل شأنه على الصبر والسلوى, ولقد كنت أقرأ قبل أن اطلع على رسالتك هذه, ما رواه الأديب الراحل مصطفي صادق الرافعي في كتابه الجميل وحي القلم عن الزاهد العارف بالله مالك بن دينار الذي فقد ابنة له كان يقرأ لها القرآن ويفسره لها فتسبقه في التفسير بفطنتها وحدة ذكائها, ثم مرضت هذه الابنة فجأة.. وساءت حالتها حتى لفظت أنفاسها الأخيرة, وحزن عليها أبوها كثيرا وأشتد حزنه, إلى أن رأى ذات ليلة في نومه ابنته هذه تسقيه يوم الكرب العظيم ماء عذبا قراحا يروي ظمأه, والناس من حوله يغطي العرق وجوههم ويتمنى كل منهم لنفسه شربة ماء بلا طائل, فنهض من نومه متصبرا وقرأ الآيات الكريمة: "يطوف عليهم ولدان مخلدون, بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون" .. 19,18,17 من سورة الواقعة وكف منذ ذلك الحين عن الحزن على ابنته وإن لم ينسها حتى رحل عن الحياة, فلعل الله جاعل من ابنك الطيب هذا ساقيا من سقاة الجنة الذين يطوفون على أهلهم يوم الكرب العظيم بآنية من ذهب وأكواب من فضة لا يسقون بها إلا آباءهم وأمهاتهم.. والله على كل شيء قدير.· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2004
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر