الأذن المقطوعة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002
قرأت
رسالة نسيت عنوانها لزوجة تشكو من سوء معاملة زوجها وإهانته المستمرة لها وعصبيته
الشديدة معها التي تدفعه للاعتداء عليها بالضرب مرات عديدة.. فإذا فاض بها الكيل
وثارت عليه وطلبت الطلاق بكي وتحول إلى فأر وقال لها إنه يحبها, ويناشدها ألا
تتركه.. وهكذا طوال ثلاثة أعوام من بداية الزواج.. ولي قصة قد تكون مشابهة
فأنا سيدة في الأربعين من عمري وموظفة وجميلة في رأي الجميع وقد تزوجت منذ 18
عاما وأنجبت ثلاثة أبناء وعانيت مع زوجي كل ما شكت منه كاتبة الرسالة, ومنذ
العام الأول للزواج, صبرت على سوء العشرة لأنني أنجبت من زوجي بعد عام واحد كما
أنني كتمت كل معاناتي عن أهلي على أساس أن مشاكل الزواج في بدايته كثيرة, إلى أن
أصبت بعدة أمراض قال الأطباء إنها ناجمة عن القلق النفسي والتوتر, كالغدة
الدرقية العصبية والطفح الجلدي المسمي بالصدفية والذي غزا كل جسمي من فروة الرأس
إلى القدم, والقولون العصبي, وبعد عشر سنوات من الصبر والاحتمال جاء الانفجار
في النهاية, وتركت لزوجي البيت والأبناء وعدت إلى بيت أهلي, ولأني من أسرة
بسيطة لكنها محترمة فلقد عنفني أخوتي وهم جامعيون على تركي البيت والأبناء,
فاضطررت لأن أحكي لهم عما أعانيه مع زوجي من سوء عشرة من إهانة وإهمال وضرب وشك
وغيرة وشجار دائم أمام الأبناء بالرغم من رجائي له أن تكون خلافاتنا بيننا وحدنا,
إلى جانب نكديته وعبوسه الدائمين .. ورفضت العودة إليه.. لكن
والدتي رفضت فكرة طلاقي وأصرت على عودتي إليه.. مهما كان ما أقاسيه معه لأننا
كأسرة لا نعرف الطلاق ولابد أن نرضى بأقدارنا.
وبدأت الحالات المرضية التي أعانيها تخف تدريجيا,
فقبلت بالعودة إلى زوجي بعد أن أخذ أخوتي عليه تعهدا بعدم التعرض لي بالضرب
والإهانة ورجعت بالفعل وبدأ هو يلين بعض الشيء معي لكني رجعت إليه بنفس غير سليمة..
فبدأت أتعرف على أصدقاء من الرجال وألتقي بهم في مقابلات عادية في الأماكن
المفتوحة لكي أقضي بعض الوقت بعيدا عن المشاكل وأتنزه وأروح عن نفسي, وفي نفس
الوقت أنتقم من زوجي لأنه كان يتهمني بخيانته وأنا ملتزمة وبريئة.. ولم أكن قد
عرفت غيره من الرجال وإنما كنت فقط إنسانة اجتماعية ومرحة وكان هذا يثير شكوكه
وغيرته .. ومازلت حتى الآن يا سيدي أتكلم مع الأصدقاء الرجال تليفونيا وإن قل
خروجي معهم
ولقد
أصبح ذلك بالنسبة لي أشبه بالعادة التي لا أستطيع الإقلاع عنها مع إني أدعو الله
أن أتخلص من هذه الحركات الصبيانية لهذا أنصح السيدة كاتبة الرسالة: بأن تتخذ
قرارها في وقت مبكر وتشكر ربها أنها لم تنجب من زوجها أبناء, لأنها إذا استمرت
معه على هذا الحال فسوف تصل إلي مرحلة الانتقام منه, ولا أحد يعرف كيف سيكون شكل
هذا الانتقام.
ولقد
طلب مني شقيقي أن أعتبر زوجي مريضا نفسيا وأن أتحمله, لكني أخشي أن أقع فيما لا
أرضاه لنفسي ولا لأبنائي فبماذا تشير علي.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لا شيء يبرر للزوجة المحصنة أن تفرط في التزامها الأخلاقي والديني, ولو كانت تتجرع العلقم كل يوم في حياتها الزوجية.. ذلك أنها إنما تحفظ شرفها لنفسها والتزاما بتعاليم ربها.. وليس مكافأة لزوجها على حسن معاشرته لها.. فإذا أحسن عشرتها واصلت التزامها الخلقي والديني, وإذا أساءها انطلقت تتخبط بين الرجال بزعم الانتقام من زوجها لسابق سوء ظنه بها حين كانت ملتزمة بالفعل بالإخلاص له, ولا عجب في ذلك لأن كلا من الزوجة والزوج مطالب بأن يرعى الله في سلوكه بغض النظر عن نصيبه من السعادة في الزواج أو الشقاء.. فإن شق علي أحدهما احتمال حياته مع شريكه فلقد شرع الله سبحانه وتعالى لنا الطلاق.. ولم يشرع لنا الاجتراء علي حدوده.. أو الخيانة.. أو السقوط في بئر الإثم والخطيئة.. ولم يقبل منا أي تبرير لذلك كما أن تفريط الزوجة في التزامها الأخلاقي لمثل هذا السبب الذي تزعمينه وهو الانتقام من الزوج.. ليس في الحقيقة انتقاما منه وحده وإنما هو أيضا تدمير للذات.. وإساءة بالغة إليها قبل أن يكون إساءة للزوج, وأمر أشبه بما كانت تفعله قلة من العبيد في ظلمات العصور الوسطي حين يضيقون بسوء معاملة سادتهم وإرهاقهم لهم بالعمل الشاق فيعطبون أنفسهم بقطع القدم.. أو كف اليد لكيلا يكون فيهم نفع كبير لهؤلاء السادة, فإذا كان السيد قد أضير بالفعل بعطب رقيقه.. فلقد أذى هذا الرقيق نفسه أذى أشد ضراوة من أذى صاحبه.كما أنه أمر أشبه كذلك بما يرويه المثل الإنجليزي عن الرجل الذي ضاق بسوء عشرة زوجته له وأراد الانتقام منها فقطع أذنه لكي تعيرها الزوجات بعاهة زوجها الجديدة!
وهذا هو نفس الحال بالنسبة لمن تقدم على ما أقدمت أنت عليه وتبرره لنفسها بهذا المبرر الموهوم.
إنه سهم يرتد إلى صدر من أطلقه.. قبل أن يصيب هدفه المزعوم ومن خداع النفس أن تحاولي يا سيدتي أن تبرري لنفسك تخبطك بين الرجال بأنها علاقات عادية تجري في الأماكن المفتوحة, لأنه لا شيء عاديا في علاقة زوجة محصنة برجل أجنبي عنها.. وإلا لما تخفيت بها عن زوجك وأبنائك وأهلك وكل من يفترضون الاستقامة والعفاف ورسولنا الكريم صلوات الله وسلامه يقول لنا البر حسن الخلق, والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس.
ولاشك في أنك تكرهين بكل تأكيد أن يطلع على علاقاتك العادية هذه أبناؤك وأهلك وكل من ينظر إليك نظرة الاحترام.. ناهيك عن زوجك قبل كل هؤلاء وبعدهم ! صحيح أنه لابد من أن يتحفظ الزوج في رمي زوجته المحصنة بظنونه وشكوكه, وأن يتردد ألف مرة قبل أن يطعنها, بسوء ظنه عسى أن يكون مخطئا في ظنونه فيجرح كرامتها في الصميم, لكن ارتكاب الزوج لمثل هذا الخطأ حتى ولو كان بشعا لا يبرر لزوجته الإنحدار إلى نفس المستنقع الذي كان يرميها به بالباطل بدعوى الانتقام منه.. أو بدعوى أنها مادامت متهمة بالحق والباطل فلا بأس بأن تجرب الثمرة المحرمة التي طالما اتهمت بها ظلما من قبل!
ومن واجب الزوجة أن تحفظ نفسها في كل الأحوال.. وعلي زوجها إثم رمي المحصنات الفاضلات بغير بينة.
ولقد
عبر عن ذلك أحسن التعبير الكاتب المسرحي الأيرلندي أوسكار وايلد في مسرحية مروحة
ليدي وندرمير حين أجابت الزوجة من حاول إغواءها بدعوى أن زوجها يخونها متسائلة في
استنكار شديد: هل إذا كان الزوج سافلا وجب على الزوجة أن تكون سافلة مثله!
فإذا
كنت تبررين لنفسك هذه العلاقات بأنها لا تتجاوز اللقاءات في الأماكن المفتوحة
والاتصالات, فإنه ليس في الخيانة الزوجية درجات للتفاضل.. تتميز بها واحدة عن
أخرى خطت بضع خطوات أوسع على الطريق المنحدر.
وكل
من تخطو أية خطوة على هذا الطريق مخطئة وسواء كانت في بدايته أم بلغت هوته السحيقة..
لأن من يرتع حول الحمى ـ كما يقول لنا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه ـ
يوشك أن يخالطه ومن يخالط الريبة يوشك أن يجسر, كما يقول لنا أيضا لا
يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس.
وأنت
غارقة الآن يا سيدتي فيما به بأس.. وبأس شديد تحسبينه هينا ويصدق عليه قول الحق
سبحانه وتعالى : "وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم" .. 15 النور,
فكفي عما تفعلين.. وقاومي هذا التخبط الذي أوشك أن يصير عادة متأصلة فيك واعملي
بنصيحتك أنت لكاتبة رسالة الرجل الصائب واحسمي أمرك مع زوجك ومع نفسك بلا مماطلة..
فإما أن تحصلي على الطلاق منه وتواجهي أهلك ومجتمعك وأبناءك به, وتتحملي كل
تبعاته وإما أن تكفي عن هذا الانتقام الموصوم منه, وتلتزمي بالإخلاص لزوجك
والحفاظ علي نفسك وتتواءمي مع حياتك بكل ما فيها.
ولا
تذكرينا في النهاية بقصة الحمامة والثعلب ومالك الحزين في كتاب كليلة ودمنة.. حيث
شكت الحمامة لمالك الحزين من أنها كلما فقس بيضها جاءها الثعلب ونادي عليها من
أسفل الشجرة أن تلقي إليه بأفراخها وإلا صعد إليها وقتلها.. فتلقي إليه بها وهي
باكية فطلب منها مالك الحزين في المرة المقبلة حين يجيئها الثعلب أن ترفض إلقاء
أفراخها إليه وتطلب منه الصعود إليها لأنه سيعجز عن ارتقاء الشجرة.. وفعلت ما
نصحها به مالك الحزين وعجز الثعلب عن التهام أفراخها ثم سألها عما علمها ذلك وعرف
أنه مالك الحزين, فذهب إليه وأثني علي ذكائه وحكمته ثم طلب منه أن يريه أين يخفي
رأسه إذا جاءته العاصفة من يمينه فأجابه بأنه في هذه الحالة يخفي رأسه تحت جناحه
الأيسر من الريح هكذا.. فأشاد بحسن تصرفه ثم سأله وإذا جاءتك من اليسار فأجابه
بأنه في هذه الحالة يغطي بجناحه الأيمن هكذا فأثني علي براعته, ثم سأله وإذا
جاءتك من الأمام ومن الجانبين فأجابه بأنه في هذه الحالة يغطي رأسه بجناحيه معا
هكذا.. فانقض عليه الثعلب والتهمه وهو يقول له:
ـ
يا عدو نفسه تري الرأي للحمامة وتعلمها الحيلة لنفسها وتعجز عن ذلك لنفسك.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سبتمبر عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر