السكين .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
أنا رجل في السادسة والخمسين من عمری تخرجت في كليتي عام 1958 وعمری عشرين عاما
وعملت، وبالرغم من أن والدي رحمه الله كان تاجرا كبيرا ومتعلما كانت تحكمه تقاليد
الأسرة الصعيدية الصارمة وروح العشيرة، وبعد تخرجي بعامين توفي أخ أكبر لي وترك
وراءه أربعة أبناء وزوجة متعلمة هي في نفس الوقت ابنة عمه وعمي وبعد الوفاة بشهور
قليلة فوجئت بأبي يأمرني .. ولا أقول يطلب مني . أن أتزوج أرملة شقيقي التي تكبرني
بأحد عشر عاما لكي نلم لحمنا ويتربى أبناء أخي في رعايتي وحضانتي بدلا من أن تتزوج
الأرملة الشابة رجلا غريبا ذات يوم ويتعرض أبناؤنا الصغار لما نكرهه لهم، وربما
يكون غريبا الآن على أسماع بعض الشباب، أن أقول إنني قد امتثلت لرغبة أبي وأعمامی
بالرغم من أنني لم أكن راغبا في الزواج من أرملة أخي ولا أتصورها زوجة لي وهي التي
تزوجت أخي وأنا غلام صغير وكنت أنظر إليها دائما باحترام كزوجة لأخي وكأخت تكبرني
في السن لكن ذلك لم يكن غريبا في أسرتنا المتشددة .. ولا في زماننا أيضا.
وقد قبلت رغبة أبي ولم
أعترض عليها لأني لم أشأ أن أكون سببا في أن يتغاضب الأخوة الكبار وهم أبي وأعمامي
ولأني كنت أشعر أيضا بواجب يمليه علي ضميري تجاه أبناء شقيقي الصغار اليتامى ..
وهكذا تنازلت عن أحلامي وأفكاري السابقة عن الزواج وتم الزواج كما أراده لنا عقلاء
الأسرة .. ولم يتغير إحساسي تجاه أرملة شقيقي التي أصبحت زوجة لي بعد الزواج فقد
ظللت أعاملها بنفس إحساس الأخ الصغير لها وبنفس الحياء القديم منها .. ولست في
حاجة لأن أقول لك إنني لم أقربها بعد الزواج لمدة عامين كاملين ومع ذلك فقد عشنا
في هدوء وسلام إن لم أقل في سعادة وكل شئ هو رعاية الأطفال الصغار، إلى أن جاء يوم
فوجئت فيه بأبي وعمي والد زوجتي وعمي الأكبر يجيئون إلي في المساء ومعهم بعض
زجاجات البيرة ودهشت للمنظر الغريب فلا هم من أهل ذلك ولا أنا أيضا لكن دهشتي
تضاعفت حين وجدت أبي يفتح احدی الزجاجات ويأمرني أن أشربها ويقسم علي بالطلاق إن
لم أفعل أن تكون أمي طالقا ثلاثا ومع دهشتي الشديدة للموقف كله فقد أطعت أبي وقد
فهمت أسبابه وتجرعت الزجاجة فأعطاني أخرى مع يمين أخرى بالطلاق وهكذا حتى تجرعت
أربع زجاجات كاملة ولم أدر بعدها متى غادروني ولا ماذا فعلت حتى أفقت من نومي في
الصباح التالي فوجدت نفسي إلى جوارها وقد أصبحت زوجة كاملة لي .
وتواصلت
الحياة بيننا بعد ذلك ومن عجب أنني افتقدت الهدوء والسعادة اللتين كنت أجدهما معها
قبل هذا التطور الهام في علاقتنا. فلقد أصبحت شديدة الغيرة إلى حد الجنون علي بعد
اكتمال حياتنا الزوجية و بدأت تخلق لي المشاكل الكثيرة بسبب الغيرة الجنونية
وتكررت بيننا المشادات والخلافات لهذا السبب وحده وبسبب خيالات لا وجود لها ثم جاء
يوم شعرت فيه بالخوف الحقيقي منها، فقد كنا نصطاف بالإسكندرية وقتها وكنت مستغرقا
في النوم ففتحت عيني فجأة لأجدها تجثم فوق صدري بكل ثقلها وبيدها سكين وتقول لي
والشرر يتطاير من عينيها إنني قد خلقت لها ولن تسمح لامرأة غيرها بأن تلمسني وسوف
تقتلني إذا ظفرت بی امرأة أخرى فأقسمت لها صادقا وأنا ارتعد أني لم أخنها ولن
أخونها ذات يوم وأني لا أريد امرأة أخرى وقد رضيت بحياتي معها وبما أقوم به من
واجبات تجاه أبناء أخي وأسرتي ، ومضت الحياة في طريقها ولم أنجب من هذه السيدة وإن
كنت قد عانيت من غيرتها الكثير ووجدت في أبناء أخي أجمل عزاء لي عن عدم الإنجاب
ولم أشعر بوجود أي نقص في حياتي.
وكبر
الأبناء وتخرجوا في كلياتهم وتزوجوا ، وكبرت أيضا زوجتي و توفيت إلى رحمة ربها .
وأنا الآن أعيش وحيدا في شقة ممتازة بها كل الكماليات ولدي سيارة صغيرة حديثة ولي قطعة أرض زراعية في إحدى المحافظات القريبة من القاهرة أزرعها بالمشاركة مع بعض المزارعين و هي تسليتي الوحيدة ولي فيها بيت صغير جميل من غرفتين وصالة أذهب إليه في عطلة نهاية الأسبوع وبه تليفون والأبناء يعيشون بالقرب من المزرعة وأرعاهم وأرعى أسرهم الصغيرة وأحبهم كثيرا ويحبونني والحمد لله ويزورنني وأزورهم.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
رأيي يا صديقي هو انك إنسان
فاضل تسعد به أية امرأة ترتبط بها وتشرف به أية أسرة يصهر إليها نعم هذا هو رأيي
بلا مجاملة لك . الذي توصلت إليه بعد التفكير طويلا في مغزى تجربتك الغريبة مع
الحياة التي ترويها لنا ببساطة غريبة في هذه الرسالة.
فأنا لا أنشر عادة عروض
الزواج التي أتلقاها
استجابة لرسالة نشرت في بريد
الجمعة واكتفي دائما بإبلاغ الطرف الآخر مضمونها لكن رسالتك هذه أجبرتني على نشرها
لكي يطلع معي قراء بريد الجمعة على جانب أخر من الحياة هو جانب هؤلاء الأشخاص
المضحين برغائبهم الخاصة امتثالا لاعتبارات عائلية وإنسانية ومثل عليا أكثر أهمية
لهم من أي شيء آخر . ومع أنهم قد يعيشون حياة لم يختاروها لأنفسهم فهم حين ينظرون
إلى الوراء ليراجعوا حياتهم بعد أن أدوا رسالتهم فيها كاملة .. يرضون عن هذه
الحياة ولا يساورهم الندم عليها .. ولا يرونها كانت جحيما مستعر الأوار کما يتوهم
كل إنسان حياته إذا أجبرته عليها بعض الظروف القاهرة . وإذا قبل فيها ببعض ما لا يرضيه لنفسه.
نعم .. نحن جميعا
ضد أن يختار لنا الآخرون حياتنا ويقهروننا على القبول بها .. والأصل هو أن يختار
الإنسان حياته بملء إرادته مسترشدا في ذلك بنصح الأعزاء ومستفيدا بخبرتهم .. لكننا
من ناحية أخرى ضد هذا الهلع الصبياني الذي ينتاب البعض منا إذا خلت حياتهم من بعض
ما حلموا به لأنفسهم .. وضد خور الإرادة الذي يفقدهم القدرة على الصبر على التجربة
حتى تنال فرصتها العادلة للاختيار فتكشف لهم بعد حين عما يرضيهم عن حياتهم كما حدث
لكاتب هذه الرسالة .. أو يتأكدون نهائيا و بعد طول الاحتمال من أنه لا أمل لها في
النجاح والاستمرار . وآفة الإنسان منذ الأزل .. خوفه المرضي من التعاسة والشقاء وبسببهما
قد يفقد أحيانا بعض فرص السعادة الحقيقية وهو يظن أنه إنما يحتمي من الشقاء وراء
سد منيع من الحيطة والحذر والحرص على توافر كل ضمانات الأمان قبل أن تلامس قدماه
مياه التجربة وليس هذا فقط هو كل ما تقوله لنا رسالتك و إنما تقول لنا وللمضحين من
جديد إن المتنازلين عن بعض رغائبهم وتصوراتهم للحياة التي يريدونها لأنفسهم لهم
سعادتهم الخاصة أيضا التي لا ندرك عمقها وصفائها .. ولهم أيضا جوائزهم التي لا
ينالها إلا القادرون
على العطاء للآخرين والتضحية من أجلهم من أمثالهم وهي جوائز الرضا عن النفس وراحة
الضمير .. والإحساس النبيل بأداء الرسالة والإضافة إلى الحياة .
ولاشك أنك غنمت كل هذه
الجوائز وأكثر منها خلال رحلتك الخيرة في الحياة .. فاكتب لي بعنوانك
ورقم تليفونك أو اتصل بي مساء غد .. ولنرى معا كيف سيكون اختيار الله سبحانه
وتعالى لك في حياتك الثانية بعد أن اختار لك والدك حياتك الأولى بدون استشارتك ..
والسلام.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر