العمر الضائع .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

 

العمر الضائع .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995


العمر الضائع .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

 

نحن نحتاج أحيانا إلى ترويض أنفسنا على قبول أعذار أبنائنا حتى ولو لم تقتنع بها عقولنا لكيلا نقطع بيننا وبينهم .. ولكيلا توغل سفينتهم في الإبحار بعيدا عن موانينا ويتعذر علينا استعادتها مرة أخرى.

لهذا فنحن معهم نصفح بالقلب لأن عاطفتنا تجاههم هي التي تحكمه ونرفض الصفح بالعقل لأنه لا يقتنع إلا بالأدلة والبراهين المنطقية .. ومع أعزائنا , فلا مفر من الاستسلام لأحكام القلب في كثير من الأحيان رحمة بهم وبنا ولأننا لن نصر على أحكام العقل إذا احتكمنا إليه وحده في علاقتنا بهم ولله الأمر من قبل ومن بعد.

عبد الوهاب مطاوع

 

أنا يا سیدی أم وزوجة في الخمسين من عمري، تزوجت منذ ۳۱ عاما وأنجبت ورعيت أبنائي حتى كبروا وأصبحوا شبابا كالورد وحاصلين على شهادات متوسطة وينتظرون العمل .. ولست اكتب لك لکي أشكو من ذلك لأنها أزمة كل الشباب وسوف يحلها الله سبحانه وتعالی بعد حين، كما أني لا اكتب أيضا لأشكو لك من زوجي لأنني قد رضيت بما اختاره الله لي منذ زمن طويل وقضي الأمر، لكني اكتب لأحكي لك أنني مرضت منذ شهر ونصف مرضا خطيرا ودخلت المستشفى وبعد فحوص ومحاولات للعلاج تقرر إجراء جراحة لي وتم بالفعل إجراء ثلاث عمليات جراحية لي وخلال وجودي بالمستشفى بين الموت والحياة سمعت أن ابني الأكبر سوف يتمم زواجه ويزف إلى عروسه وأنا في هذه الحالة.. ولم أصدق ما سمعت في البداية ولم اصدق أنني وبعد أن تعبت وذقت المر وتحملت الأهوال لکي يتربى الأبناء ويکبروا أن يحرمني ابني وهو أول فرحتي من الأمنية التي انتظرتها ۳۱ عاما وهي أن اشهد زفافه وزواجه واراه وهو يجلس إلى جوار عروسه في الكوشة وأتلقى التهاني من الأهل والأقارب بزواجه .. لا لم اصدق ذلك وعندما جاء ابنی لزيارتي سأله عما سمعت فإذا به يؤكده لی فرجوته وتوسلت إليه أن يؤجل الزفاف إلى أن أشفى لأكون إلى جواره يوم زواجه لكنه رفض يا سيدي بإصرار وغادرني دون وعد منه بتأجيل الزفاف .

 

وتألمت لذلك وقال لي أبناني الأصغر منه أنه مغلوب على أمره لأن هذا هو مطلب عروسه وأهلها رغم علمهم بأني قد أجريت ثلاث عمليات جراحية في وقت واحد، وقال لي أبنائي أيضا أن كل شيء قد تم استعدادا للزواج من دهان للشقة إلى تنجيد المفروشات وإعداد الكعك، بل وتم أيضا فرش الشقة بالأثاث. وكل هذا وأنا في فراشي بين الموت والحياة.

وكلما سمعت شيئا من تلك انهمرت دموعي وساءت حالتي الصحية والنفسية وبالفعل أتم ابني زفافه في الموعد الذي حددوه له وأبكاني ابني الكبير في ليلة زفافه وحرمني من أجمل ليلة في عمري ظللت أحلم بها سنوات طويلة، لقد بكيت كثيرا وعانيت طويلا حتى حذرني الأطباء من إنني إذا لم اعبر هذه الحالة النفسية  فسوف أتعرض للإصابة بالشلل لأني مريضة بارتفاع الضغط وعندي قابلية للإصابة بجلطة وحاولت بعد هذا التحذير من أخفف عن نفسي وأتكيف مع الأمر الواقع ولم أعد أبكي كثيرا كما كنت افعل من قبل فمن الله علي بالشفاء والحمد لله منذ فترة قصيرة .. لكن ما فعله بي ابني قد ترك أثرا لا ينمحي على صحتي وحالتي النفسية .

 



ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

أجيبيني أنت يا سيدتي عن هذا السؤال المهم هل جاءك ابنك وعروسه بعد زواجهما سواء في المستشفى أو في بيتك واعتذرا لك اعتذارا كافيا عن اضطرارهما القسري لإتمام الزواج خلال محنتك الصحية وفي غيبتك وهل تحملا عتابك ولومك لهما حتى ولو كان شديدا بروح راضية وبإحساس من اخطأ في حق غيره خطا مؤلما وعليه أن يتحمل عتابه لكي ينال صفحه؟

بل وهل كرروا لك الزيارة مرة أخرى وهما يأملان في كل مرة أن تكون نفسك قد هدأت بمرور الأيام وأصبحت أكثر استعدادا للصفح والنسيان؟

إذا لم يكونا قد فعلا فلا لوم عليك في عدم زيارتهما وتهنئتها بالزواج.. لسبب بسيط هو أنه هو ابنك الأكبر الذي أخطأ في حقك وحرمك من حقك العادل في أن تسعدی بزواجه وتتعزي بفرحتك به عما شهدته حياتك من عناء ولم تكوني أنت المخطئة بمرضك وعجزك عن شهود زواجه والمبادرة بالاعتذار والاسترضاء لابد أن تجئ من الطرف المخطئ وإلا ضاعف من قسوة خطئه بالاستمرار فيه وعدم الاعتذار عنه وليس من جانب الطرف المجني عليه في هذا الخطأ .. أما إذا كان قد اعتذر لك ابنك مرارا وزارك مع عروسه مرات ومرات واسترضياك كثيرا..ففي هذه الحالة تصبحين غير محقة في عدم قبول اعتذارهما وفي عدم زیارتها بعد الزواج لأنك في النهاية أم والأم مهما أخطأ أبناؤها في حقها يتسع قلبها دائما للصفح عنهم إذا رجعوا عن أخطائهم في حقها وأحسنوا الاعتذار عنها .

 

فهل فعل ابنك ذلك أم لا؟ .. وهل حثه أبوه وأخوته على أن يفعل أم لا؟ .. بل وهل حثته عروسه إذا كانت حريصة عليه حقا على الاعتذار لك لاسترضائك أم لم تفعل؟ هذه كلها أسئلة تحتاج إلى إجابات وأيا كانت إجاباتها فلقد كنت استطيع أن افهم أن تتنازل الأم طواعية عن حقها في عدم شهود زفاف ابنها ووجودها إلى جواره في هذا اليوم السعيد إذا كانت هناك ظروف قهرية تضطر الابن حقا لإتمام الزفاف في موعد محدد، ولا يستطيع تأجيله والتصور الإنساني الوحيد في هذه الحالة هو أن يصر الابن على تأجيل زفافه مضحيا بكل شيء مراعاة لظروف أمه الصحية وانتظارا لشفائها فيفاجأ بأمه نفسها تلح عليه ألا يؤجل زفافه مؤكدة له أنها ستشقى بتأجيله أكثر مما ستشقى بحرمانها

من شهوده لظروفها الصحية فيتردد الابن طويلا في القبول ثم يضطر تحت إلحاحها إلى احترام رغبتها راغما ويتمم زواجه في غيبتها.

 

هذا التصور المقبول في مثل هذه الحالة، أن تكون المبادرة من جانب الأم عطاء جديدا من الأم لأبنائها وإيثارا نبيلا لسعادتهم على سعادتها، أما أن يكون العكس هو ما جری وأن تتوسلي أنت إليه ليؤجل زفافه إلى أن تشفي من مرضك وتشاركيه فرحته فيرفض ذلك بإباء وشمم ويمضي في طريقه كأن شيئا لم يكن فهذا ما لا أفهمه ولا أقبله ولا يقبله أحد فهل عندك تفسير لهذا اللغز، الإنساني الجديد يا سيدتي؟

على أية حال إني أتمنى أن يعتذر لك ابنك وعروسه اعتذارا كافيا إذا کانا لم يفعلا بعد. وان يكرروا  لك الاعتذار والاسترضاء إذا كانا قد فعلا ثم يدعوانك لرؤية عشهما الصغير ومباركة زواجهما .. فتتظاهرين باقتناعك بمبرراتهما الاضطرارية لما فعلا ثم تصفحين عن خطأ ابنك في حقك بلا مرارة، ولا عجب في ذلك ولا غرابة, فنحن نحتاج أحيانا إلى ترويض أنفسنا على قبول أعذار أبنائنا حتى ولو لم تقتنع بها عقولنا لكيلا نقطع بيننا وبينهم .. ولكيلا توغل سفينتهم في الإبحار بعيدا عن موانينا ويتعذر علينا استعادتها مرة أخرى.

 

لهذا فنحن معهم نصفح بالقلب لأن عاطفتنا تجاههم هي التي تحكمه ونرفض الصفح بالعقل لأنه لا يقتنع إلا بالأدلة والبراهين المنطقية .. ومع أعزائنا , فلا مفر من الاستسلام لأحكام القلب في كثير من الأحيان رحمة بهم وبنا ولأننا لن نصر على أحكام العقل إذا احتكمنا إليه وحده في علاقتنا بهم ولله الأمر من قبل ومن بعد يا سيدتي.

رابط رسالة القنبلة الرهيبة تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات